قهوة بوتيرو لحسام المقدم.. الإحساس بالحكاية، والغرام بالتفاصيل

قهوة بوتيرو
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

فكري عمر

استهلال:

الأسلوب آلة الفنان.. بواسطته يُحوِّل المواقف، والأحاسيس، والخيال، والحكايات، والذكريات إلى قصة، أو رواية، أو لوحة، أو يُجسِّدها منحوتة ناطقة في صخرة صماء.. به أيضًا يرسم رؤيته المتفردة لذاته، والعالم من حوله، فلا نعود بعد مطالعته إلى ما كنا قبلها.

التقنية الفنية، وتركيب الأسلوب، وما له من صلات، إذا وجدت، بمدرسة سردية معينة، أو المغامرات التجريبية التي يُدعى إليها الكاتب بصفته الإبداعية تبدو إذًا طريقة لمقاربة الكتابة، وتحليلها من أجل الوصول إلى تحديد وسائلها في إنتاج الدلالات، والمضامين، وكذلك في التعامل مع النص الأدبى من داخل تجربته الفريدة لا من أفكار، وانحيازات مسبقة.

الإحساس بالحكاية:

تفتح المقدمة بابًا لقراءة المجموعة القصصية الجديدة (قهوة بوتيرو) للقاص والروائى “حسام المقدم”، الصادرة عن سلسلة “إبداعات قصصية” بالهيئة المصرية العامة للكتاب عام 2019م، في خمس عشرة قصة قصيرة، ومقدمة تحتفى بلحظة الكتابة، وتُسلط ضوءًا قويًا على مغزى التجربة، فها نحن نقرأ ضمن سطور المدخل: “الفَجْر لا يزال هناك، أزرق وليِّنًا وعابرًا”، بما يحمل من إيجاز دال على النور الغامض المُعجِز الذى تبدأ به ولادة العالم كل صباح، ومثله يولد الإبداع أيضًا في رؤى الفنانين، والكُتَّاب: غامضًا وسحريًا ورقيقًا، لا تهشمه ريح الزمن.

وإذ نستقبل المجموعة من عتبتها النصية الأولى، أى عنوانها نفسه، فإن السؤال يُطرح مباشرة: لماذا اختار الكاتب فنانًا تشكيليًا كـ”بوتيرو” لُيصدِّر به العنوان؟ غير أن الإجابة يمكن تأجيلها إلى انتهاء فعل القراءة الخلاق، وحسنًا أن أجَّل “حسام المقدم” القصة التي يحمل الغلاف عنوانها إلى النهاية؛ ليضمن حدوث هذا التساؤل، ويظل التشويق والبحث قائمًا إلى النهاية، وسوف تركز قراءتى النقدية عمومًا على مغزى الإحالة الثقافية في العنوان، ودورها كأسلوب جمالى في القصص المختلفة. ثانيًا: على العلاقة بين تشكيل النص القصصى واللوحة الفنية وما لكل منهما من خصوصية فنية.

ولد “فرناندو بوتيرو” فى كولومبيا عام 1932م، وله ثيمة مشهورة فى أعماله التشكيلية والنحتية: إنه يرسم الناس، والحيوانات، وعناصر الطبيعة بأحجام ضخمة. النساء، ورجال السيرك، والأسرة الملكية، والشرطيون، والخيول، والبنادق. كل شىء ممتلئ إلى حد البدانة اللافتة للنظر مع بذخ لونى جرئ، وبهرجة هى أقرب إلى اللعب الساخر والطفولى.

هذا الإيجاز المُحدَّد لعالم “بوتيرو” يضىء لنا طريقًا إلى الفهم والألفة شيئًا ما مع قصص المجموعة، وفى الآن ذاته ستظل الإجابة تقريبية، فذلك شأن الإبداع.

إذا بدأنا المقاربة، فيمكن أن نلمس أولًا خطوطًا رهيفة بين ما يمثله الفنان الكولومبى من أسلوب لافت، وما يبدعه القاص المصرى من قصص وحالات، تظهر في دأبه على أسلوب يمزج فيه بين تفاصيل واقعية موشَّاة بألوان بلاغية باذخة وعالم ذاتى يؤطر الصورة الكلية بمشاعره، وفلسفته الخاصة. إنَّ شخصيات القصص في المجموعة يشتركون في كونهم أشكال مضخمة من الواقع. فيهم هذا الميل إلى الامتلاء شعوريًا وفكريًا إلى حافة الانفجار رغم الحرص على التصوير البصرى من زواياه المتعددة.

هم حالات خاصة يأسرهم شعور ما ولو كان هاجسًا، أو توقع يقلب حياتهم من طرف إلى طرف نقيض، أو قهر يصنعه الهواء المسموم، والعلاقات المتوترة.. أغلبهم أكوان خاصة منغلقة على نفسها. تعيش المشاعر والبطولات من وراء الشاشات لدرجة أن يُطلق الكاتب اسم “عصر الإنسان الأملس” في قصة “عبور استوائى” على هذه النوعية من البشر. أى إنسان بلا تجربة حقيقية، ولا خبرة، ولا رغبة في التواصل إلا من خلال عازل صلب كشاشات “الأجهزة اللوحية”، ولدرجة وصولهم إلى حالة من القهر مزرية تدفع جماعة شياطين القفل في قصة “الأقفال” إلى أن يعلنوا في ص74: “شياطين القفل في خدمتكم للتخلص من جميع أنواع الأقفال التي تكبس على صدور الناس”.

ثمة حرص من القاص على توسيع المسافات البينية بين الأحداث المحدودة؛ ليملأها باستبطان دواخل شخصياته، ويبث فيها فلسفتهم، ويضيء لنا تكوينهم النفسى والاجتماعى بالعودة إلى ماضيهم؛ لرسم صورة تدعم الاتجاه في طريق أن تُحِس الحكاية أولًا، ثم يأتى أى شىء بعد هذا الهدف، وليس غريبًا أن يعتمد القاص أسلوب الاستبطان كأساس للتعبير عن عالمه القصصى، فهذه “آمال”، المرأة الريفية الموهوبة في الغناء، في قصة “نجوم صغيرة فوق نافذة فايزة أحمد” ص31 تقول للراوى في مرحلة صباه المبكرة: “خُذ بالك.. في الغناء نحن نمشى على الحبل، وفى نفس الوقت نتمايل ونستمتع بالمشى”. وفى قصة “رقصة القيامة” تصل أسئلة الولد “عبد الله” إلى الذروة إذا يُحادث نفسه قائلًا: “وما حكمة الله في تقييدنا بالأرض وجاذبيتها؟ لماذا لا يكون ذلك للبيوت والأشجار والحيوانات أو أى شىء آخر؟ أليس الأفضل لو كُنَّا بالخفة التي تجعلنا نطير في الأعلى، ونرى الحمام والنسور والعصافير تُهفهف من حولنا، نُسابقها ونسبقها؟”. حتى الشيطان المتُخيل يستبطن داخله في قصة “الثلاثاء بالأبيض والأسود” ص9: “يتأمل نفسه، ويُعدِّد الصفات التاريخية والهيئات التي يُمثّلونه بها. يُفكر أن البشر وضعوه، عبر توالى القرون، في خانة الخوارق المستحيلة دون أن يروه في الحقيقية….”.

الغرام بالتفاصيل:

يُغرم الكاتب بالتفاصيل حتى لكأنه فنان تشكيلى يعاين أحجام الأشياء، والعلاقات بينها وبين الكائنات، أو بين بعضهم البعض، وهى نقطة المقاربة الثانية مع النحات والرسام المعروف، لكن الغواية بالتفاصيل ليست استسلامًا دون شرط بل انتقاء مُتعمد، ونحت أسلوبى مقصود. هذا الارتباط بأدق الألوان، والحركات، ومحاولة وصف المشاعر يدلل على حالة الدهشة التي يقابل بها القاص واقعه، فهو يستقبله بأناة. يفحصه، ويجادله، ويحبه أحيانًا، لكن لا يحاكمه ولا يرفضه رفضًا حادًا ولا يتمرد عليه، إن تمرد، إلا من داخله.

إن الولع بالتفاصيل الواقعية يبدو بازغًا حتى في القصص الخيالية التي ترسم عالمًا سحريًا مثل قصة “محاولة جادة لقراءة الكف”، وهو ميل أصيل نحو إضفاء المنطق على الخيال نفسه، وجعله قابلًا للتقريب والتعيين.. في هذه القصة كائن عجيب يراه الثلاثة العائدون من المقهى، وكانوا من أثر  صعوبات الحياة وضياعهم الشخصى قد وصل بهم الأمر إلى الزهد في التعامل بالأسماء، والامتناع عن الكلام لفترات طويلة. حين يقابلون ذلك الكائن الصغير يعتقدون في البداية أنه طائر، أو أخبطوط “برى”! يطاردونه، لكنهم وقد تكشفت لهم الصورة شيئًا فشيئًا يتأكدون أن ما يمشى أمامهم على الأرض، ويتقافز على فرشة الجرائد تحت لحافٍ بحثًا عن الدفء والإنقاذ ما هو إلا كف إنسان.. حينئذٍ تسرى كهرباء الرعب في أجساهم. يَكرُّون ويَفرُّون منها. يسددون إليها الضربات؛ ليتخلصوا مما تثيره فيهم من مشاعر غامضة. ربما كانت اليد الآدمية مرآة دالة على وحدتهم، وتشتتهم. هى أيضًا علامة على فقدانهم أبسط قواعد التواصل الإنسانى.

كل ذلك والسرد القصصى يمشى معنا خطوة خطوة. داخل الشخصيات، وخارجها. نسمع أسئلتهم، هواجسهم، هسيس مخاوفهم، ونرى التداخل بين أفكارهم بطريقة لا يفصل فيها الكاتب بين الحوار والهاجس والسرد مما يشير إلى حالة متضخمة من التوتر، والشك، ولهفة البحث عن إجابة مريحة تتملك الشخصيات الثلاث، ففى ص110 نقرأ: “مدَّ الطويل يده نحو الكتلة الملمومة النابضة. بالكاد لمس إصبعه ذلك الكيان المرتعش. سحب يده بسرعة: “إنه شعر وليس ريشًا”! “شعر؟ هل هو حيوان أم طائر”؟ “شكله طائر يا جماعة”. “طائر؟ هل هو طائر؟ لا بد أن نعرف أولًا ما هذا الشىء”! انزرعت العيون الست من كل جانب في الجسد المنطوى على الجدار. لا رأس تقريبًا، شىء منكمش داخل في بعضه ويشبه سُرّة طفل”.

تُضفى لغة المجموعة مسحة شاعرية على العالم من خلال إيقاع الجُمل السردية، فليس الإيقاع ابن الشعر وحده، لكنه روح الكتابة، غير أن وعى الكاتب يتسرب أحيانًا إلى وعى أبطاله، ويُضيف إليهم من فلسفته، وتأملاته الذاتية.. ربما كان ذلك يرجع إلى الإحساس بتلك الذات الممتدة في القصص والتى يحدث من خلالها حالة التقارب الشعورى بين القاص وأبطاله.

خاتمة:

تُعد الإحالات الفنية، والثقافية سمة أساسية للمجموعة، فهى تتخذ أكثر من شكل سواء في بداية القصص، أو منثورة داخل نسيج السرد. تأتى هذه الإحالات، والتناصات أحيانًا على صورة مفتتح للقصة من نص آخر موازى ودال كما فى قصة “نجوم صغيرة حول نافذة فايزة أحمد” ص26: “أنا عايزة أشربْ من إِيدكْ / واتْنَهِّد مع تَنهِيدكْ” من أغنية (حبيبى يا متغرب)، ومفتتح قصة “بيانو الظل” من قصيدة أمل دنقل (مزامير)، أو يكون الاستهلال على صورة إهداء مبدئى كما في قصة “أقوال جديدة في سيرة أمنا الغولة، أو يمزج بين صورة شاعرية وقانون علمى كما في “رقصة القيامة” في ص37: “منذ بدء العالم تسقط الأشياء على الأرض، وليس التفاح فقط. هذه حقيقة مثل الشمس، وظلت هكذا لدهور حتى منحها “نيوتن” الجلال العلمى، وأسماها “الجاذبية”، أو يأتى الاستهلال لطرف خيط يمسكه الكاتب من حكاية أخرى ليشه ويصنع ثوبه الخاص كما في قصة “الشبح الآخر”. ومنها ما يُجسِّر المسافة بين السرد القصصى والفن التشكيلى، فالإحالة الأخيرة هى إحالة كُليَّة على الفنان “فرناندو بوتيرو” الذى تحضر روحه الساخرة المضخمة للأشياء والناس من خلال باحث يُحضر رسالته العلمية لينال درجة الدكتوراه، طالب ممسوس بتلك الروح، ومأخوذ بأسلوبها الخاص، لذلك يرى كل الكائنات والأشياء في صورة مضاعفة من حجمها الطبيعى، وهكذا يبدو هذا المزج السردى بين حقول متعددة عند “حسام المقدم”، والاحتفاء بالذاكرة، والطفولة، والتشكيل البصرى، والشاعرى أسلوبًا لرؤية الوجود كمصدر دائم للدهشة، والإلهام، والتساؤل.

 

 

مقالات من نفس القسم