رفعت سلام الذي غادرنا إلى “النهار الآتي”

رفعت سلام
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د. عمار علي حسن

عاش الشاعر الكبير رفعت سلام الذي وافته المنية اليومن منوحدا مع نفسه، تكفيه وحدها موئلا وموطنا ومستقرا ومقاما، ليس عن استعلاء، إنما عن استغناء، وكنت تحسبه غني من التعفف. زاهد هو كالناسكين الذي يبيتون على الطوى لكنهم يشعرون أن في بطونهم امتلاء وارتواء. وكان إن مد يده ليأخذ شيئا يستحقه فلا يغرف ولا يجرف ولا يفتح فمه حتى شدقيه.

كان دقيقا هو في عمله كصانعي التحف الذين انقرضوا في حياتنا اللاهية اللاهثة. مثابرا كفلاح يعارك الأرض القاحلة، والشمس الحارقة، والبرد القارس، في سبيل أن يجد زرعه يضحك في وجه الريح. نسج هو كل شيء على مهل، ولميستعجل الثمرة التي يمكن أن يمنحها له الناس، فهو رضيبما يشبع ذائقته، لكن كثيرين كانوا مقصرين في أن يردواله الجميل.

كان رفعت سلام شاعرا كبيرا، صاحب قريحة مشتعلة بالصور والمعاني والرؤى والأماني، راح يجرب طيلة الوقت سعيا وراء تجديد وتجويد، فلا يحد طموحه شيء، لكنه لميعلن عن هذا أمام أحد، ربما أمام المرآة، أو في أحلام اليقظة، لكن ما كان يصبو إليه ليس تفكيرا بالتمنى، فهو فعلا كان قادرا على إقناعنا طيلة الوقت أنه صاحب موهبة عريضة.

في زمن مضى كنت أقرأ بعض قصائدة المتفرقة دون أن أراه، بعدها بحثت عن دواوينه الأولى، ثم وقع في يدي كتابه المهم “بحثا عن التراث” الذي تفاعل فيه وتشاكل مع تجربة أدونيس العفية التي أودعها في كتابه الفارق “الثابت والمتحول”، فوجدته كتاب سلام غاية في الإحكام، وبه أفكار عميقة نيرة، ثم تابعت بعض ترجماته، مندهشا من الجهد الذي يبذله في تدقيقها، وتحقيق ما يريد فيها من أسماء شخصيات تاريخية وأماكن وأحداث ووقائع.

ومنحتني الحياة فرصة الاقتراب منه، حين التحقت للعمل بوكالة أنباء الشرق الأوسط كان هو قد سبقني إليها، قبلها مررت بفترة تدريب فيها، استمرت شهرا، خلاله  طلب مني أحد زملائي، وكان يبدع الشعر وقتها، أن نذهب لنسلم على “رفعت سلام”، فذهبنا إليه، فإذا به مغضوب عليه، معزول في مكتب بسيط، لا يكلفه أحد بعمل، وإن تطوع واقترح شيئا يصدونه، ثم يتهمونه بالتقاعس، ويغمز بعضهم ويلمزون محاولين التقليل من شأنه حسدا من عند أنفسهم، فيقولون في تبجح: إنه لا يعرف فن كتابة الخبر، وكان هو يقابل هذا بابتسامة راضية، فوقتها كانت مقالاته النقدية تنشر في كبريات الصحف العربية، وكان يمكن لمثلها أن تنشر ضمن نشرة ثقافية تبثها الوكالة.

لم يتغير هذا الوضع إلا قليلا، حين رأس تحرير الوكالة كاتب صحفي معروف هو الأستاذ محفوظ الأنصاري، فأرسل سلام إلى الجزائر مراسلا لسنوات أربع، فعرف زملاؤه وقتها إن اتهام بعضهم له بأنه لا يجيد مهنتهم كان محض افتراء. لكن سلام لم يلبث أن عاد، إلى حالته الأولى، مطاردا شقيا.

مثله كنت شقيا في المكان، فقضينا كل السنين في عناء وكَبَد ونضال ضد الفساد الإداري، حتى إننا اعتصمنا ذات مرة ثلاثة أيام، حين حرموه من حوافز يستحقها، نمنا خلالها على حصير من البلاستيك في الشتاء القارس، بعد أن أُغلقت أمامنا كل أبواب المكاتب، ولم يبق إلا مكان ملحق بالبوفيه يقيم فيه الناس الصلاة. وتكرر الاحتجاج مرات، قبل هذه الواقعة وبعدها، ولم يبد لنا أي أفق في الحل، رغم تبدل رؤساء العمل.

وظل هو، وكنت أنا كذلك، بعيدين طيلة فترة العمل عن أي شيء مما كانت تفعله المؤسسة باعتبارها الممثل الإخباري الأول للدولة، أو بالأحرى للنظام السياسي، فهو تم تجنيبه، وأنا عملت وقتا في صياغة أخبار تخص الشؤون الخارجية، ثم في أقسام للثقافة أو مركز دراسات وهكذا، إلى أن ذهبت إلى إجازة طويلة لم أقطعها إلا لإحالة إلى معاش مبكر، ولحق هو بعد هذا بوقت طويل، بعد أن كان قد بلغ السن القانونية للتقاعد.

خلال هذه الفترة رأيت كيف يعمل رفعت سلام. فقد كان ينكب على الأوراق، مأخوذا بها، وأسيرا لها، ومنعزلا عن كل شيء. وبعد أن صار في مكتبه حاسوب دفن رأسه في شاشته المضاءة دوما على نص شعري، من إبداعه هو، أو من إبداع غيره وقد عكف على ترجمته إلى لغة عربية عميقة ناصعة، تليق بذائقة ومعرفة شاعر كبير، حتى إنني كنت أحسب أن بعض ما ترجمه هو له، من فصاحة عربيته وانضباطها، وهو شكل الترجمة التي يؤمن بها سلام، ولم يبرحها أبدا.

أيامها كان يقلقه دوما أن يقتحم أحد عليه خلوته، طالبا منه أن يشاركه في ثرثرة فارغة، أو إحن عابرة، فكنت أراه يتقلب في مكانه، منقسما بين حياء يطلب منه الصمت والصبر، ورغبة في مواصلة العمل تلح عليه في أن يعطي ظهره لضيفه الثقيل، أو ينشغل عنه، أو يصم أذنيه، حتى يشعر هذا بأن عليه أن يذهب، ويتركه ليواصل عزفه المنفرد، فيصنع كل هذا الإنجاز، تسعة دواوين شعرية هي تباعا: “وردة الفوضى الجميلة” و”إشراقات رفعت سلام” و”إنها تومئ لي” و”هكذا قلت للهاوية” و”إلى النهار الماضي” و”كأنها نهاية الأرض” و”حجر يطفو على الماء” و”هكذا تكلم الكركدن” و”أرعى الشياه على المياه”، وأربع دراسات هي: “المسرح الشعري العربي” و”بحثا عن التراث العربي: نظرة نقدية منهجية” و”بحثا عن الشعر” و”ما الشعر؟”، وترجمات لدواوين كل من بوشكين “الغجر وقصائد أخرى” وماياكوفسكي “غيمة في بنطلون وقصائد أخرى”، وليرمونتوف “الشيطان وقصائد أخرى” ويانيس ريتسوس “اللذة الأولى: مختارات شعرية” و”سوناتا ضوء القمر” و”البعيد”، ودراجو شتامبوك “نجوم منطفئة على المنضدة”، وأكسينيا ميهايلوفنا “في انتظار الريح”، ومختارات شعرية عالمية بعنوان “أنا ـ الآخر”، والأعمال الكاملة لكل من شارل بودلير وقسطنطين كفافيس وآرثر رامبو ووالت ويتمان، إلى جانب كتب “الإبداع القصصي عند يوسف إدريس” لكربرشويك، و”شعرية كفافيس” لجريجوري جوردانيس. كما راجع سلام كتاب “قصيدة النثر” لسوزان برنار، و”ماجريت” لبرنار نوبل، وهما من ترجمة راوية صادق، و”ثلاثية الكالباس: لجان ديفاسا نياما، وهو من ترجمة عاطف عبد المجيد، و”تقرير بروديك” لفيليب كلوديل من ترجمة أستاذ الجيل أحمد لطفي السيد.

لكل هذا غمرتني سعادة حين أهداني الكاتب المسرحي والروائي والشاعر أحمد سراج كتاب “النهار الآتي” وهو قراءات نقدية في التجربة الشعرية لرفعت سلام، قدمها نقاد كبار وشعراء وروائيون، واستهلها من سعى وراءها، ونسق عملها، وحررها، وتابع مسارها حتى استوت على سوقها وخرجت في كتاب عن دار الأدهم، بوصف رأى فيه أنها “محاولة لإجلاء تجربة تتأسس على الطموح الشعري في أن يبقى،  وفي أن يؤدي وظائفه، وفي أن يعبد دربا للمستقبل”.

يحفل الكتاب بما يؤكد إيمان كثيرين بأهمية ما أضافه سلام إلى الشعر والترجمة، فها هو محمد عبد المطلب يكتب مقدمة عن بصمته الشعرية، ومحمود أمين العالم، يكتب إطلالة على الدلالات العامة لشعره، ويصف صلاح أبو سريف شعره بأنه “كتابة خارج الشكل”، وشريف رزق يفتش وراء خطابه الشعري، ويكتشف عبد الدائم السلامي الوجود عاريا في قصائده. وتقدم اعتدال عثمان قراءة في ديوانه “وردة الفوضى الجميلة”، ويبحث عبد الله السمطي عن التجليات الشعرية في ديوانه “إشراقات”، ويقدم محمد مفتاح تصورا حول ديوان “إنها تومئ لي”، ويجلي رمضان بسطاويسي أسباب انكسار الحلم في “هكذا قلت للهاوية”، وهي الهاوية التي أراد محمد فكري الجزار أن يقف على الوعي بها في الواقع. ويكتب محمد سمير عبد السلام دراسة عن “صور الذات في تداعيات الكتابة وإيماءاتها الاستعارية إلى النهار الماضي”، ودراسة أخرى لبهاء مزيد بعنوان “إلى النهار الماضي .. أبجديته شهب ونيازك وكهرباء”، ويعود صلاح فاروق العايدي ليسعى وراء الحقيقة العارية وخطابات الغابات المنسية، ويريد شريف الجيار أن يرى في شعر سلام مراوغة الوجود والعدم، أما أبو اليزيد الشرقاوي فيتساءل عن حلول “شعرة العقل” في ديوان حجر يطفو على الماء، ويأتي الدور على شاعر كبير آخر هو فريد أبو سعدة ليكشف لنا عن تجربة شعرية لا تخلو من الغرابة وإثارة المخيلة، ويكتب أحمد بلبولة عن “حافة رفعت سلام” وعادل ضرغام عن “تعدد الأصوات”. وتأتي بعد الدراسات شهادات للروائي الكبير علاء الديب والشعراء أمجد ريان وعزمي عبد الوهاب ولطفي السيد منصور، ومحمد رياض، ومسعود شومان.

هذه الدراسات والشهادات تبين في جانب منها، وهذا هو الأهم، كيف لا يبدع سلام شعره جزافا، إنما هو يعي ما يريد، ويعمل عليه، كي يجدد أفق القصيدة بلا حد ولا قيود. وربما هذا يجعل هناك من يتساءل عما إذا كان الذهن يكون طاغي الحضور وقت انفراده بورقه أو حاسوبه كي يكتب شعرا. وأقول ردا على هؤلاء: لقد رأيته متوحدا مع ما يبدعه، الوعي الذهني لا يطغى لديه على التهاب المشاعر، والأخيرة لا تجعله يترك نفسه لسجيته، وإن ترك السجية العفية تلقي الكلمات بلا حساب، ولا توقف، فإنه في المراجعة، وهو يدقق نصه مرات ومرات، يفتح بابا للذهن كي يؤدي ما عليه من واجب حيال القصيدة، ليبقى الحكم على منتج رفعت سلام الشعري، من حيث المضمون والأساليب والأدوات والطرائق، هو نصوص قصائده فحسب، وهي مسألة اتفق الكل على جدارتها.

مقالات من نفس القسم