حسن عبدالموجود
آخر مكالمة معه كانت منذ أسبوع، بعدها لن أسمع صوته أبداً.
لم أتوقف عن التفكير فى موت سعيد الكفراوى، منذ إصابته بسرطان الكبد، ولم يتوقف هو عن تذكيرى بالموت، موته وربما موتى. كان يمكنه تلافى مرضه الذى أدَّى إلى هذه النهاية الحزينة بزيارة قديمة إلى الطبيب، لكنه مثل غالبية الفلاحين، لم يذهب إلى عيادة إلا مكرهاً، ولم يتناول دواء إلا تحت ضغط، ولم يقتنع بأنه مريض إلا حينما عجز عن الحركة.
ظل الشيطان كامناً فى كبده منتظراً الفرصة، ولم ينتبه. اعتقد – على الدوام – أن عدوه هو القولون، وحاول التعايش معه: يظل فى البيت أياماً، يشرب كثيراً من الماء، وتنجح بعض حبّات الدواء فى إقناع جسده، وإقناعه هو شخصياً، بأن كل شىء على ما يرام، فيعود إلى ممارسة حياته الطبيعية، بين البيت، والمقهى، ومكالمات الأصدقاء، وهم بلا نهاية، وبلا عدد.
نشر سعيد محبته حوله، وزعها على الجميع بلا استثناء، حتى الموتى. لم يكف عن زيارة زوجته أحلام أسبوعياً. يقرفص أمام القرافة، يبكى، ويسألها أن تسامحه، رغم أنه لم يخطئ يوماً فيها، وظل يقدمها للجميع باعتبارها ملاكه الحارس، يبكى ويسألها أن تسامحه، كأنه مسؤول عن موتها. كان يستيقظ صباحاً، ويدخل إلى مكتبه، متأملاً صورتها فوق المكتبة، تشع بنور هادئ كأنها أيقونته، وأحياناً يغفو فى البلكونة، فيحلم بها، ثم يستيقظ، وهو يشعر بملمس أصابع كفها على كتفه. كان مقتنعاً بأنها تزوره، متألماً على الدوام لأنه خذلها ولم يرافقها إلى الموت. كان يحكى لى عنها بتأثر، وحينما نشرت صورة لهما على «الفيسبوك» اتصل بى فِرحاً: «الناس تتحدث عنها كأنها ماتت اليوم. أنا فرحان. الله يخليك يا أخى ويفرحك زى ما فرحتنى. أحلام رجعت تانى». شعرت بتأثر بالغ لدرجة أن عينىّ غامتا بالدموع، لكن تأثرى لم يستمر طويلاً، إذ قال لى فجأة: «ربنا يخلى لك زوجتك النبيلة، وإن شاء الله يكون يومك قبل يومها، آمين يا رب!»، فضحكت، ولم يفهم لماذا أضحك، فهذا هو سعيد الكفراوى، وهذه هى قوته، وقدرته، وطريقته. لا فوارق كبيرة بين البكاء والضحك فى حياته وفى قصصه وفى خرافاته.
سحرنى عالم سعيد الكفراوى، وسحرتنى الطريقة المنظمة التى عاش بها، لم يمزق ورقة كتبها – طوال ستين عاماً – وكان خطه الجميل عنواناً لطريقة تفكيره، حتى أن الشطب بدا كأنه مقصود لتزيين الصفحات، شطب دقيق، وخطوط واضحة تخرج منه كالنصال الحادة مخترقة بالونات «الكلمات البديلة». كان يكتب نادراً فى ورق فولسكاب، ومعظم الوقت فى أجندات، لكنه لم يخصص إحداها لعمل واحد، وبعضها اتسع لمجموعتين قصصيتين، أو أكثر. لو قارنت بين ما نشره سعيد الكفراوى ومسودات أعماله ستجده لم يغير كثيراً، ولو كنت من قرائه، إن كنت من محبيه، إن كنت مؤمناً بالتغيير الذى أحدثه فى فن القصة، ستعلم حتماً أنه كان موهوباً بدرجة مخيفة، تتدفق الكلمات بين أصابعه فى صياغات شديدة الإحكام.
كتب سعيد الكفراوى 140 قصة شكلت مجموعاته، وبدأ شلاله بـ«مدينة الموت الجميل»، وانتهى – لسبب ما – بمجموعة لم ينشرها، اسمها «عشرون قمراً فى حجر الغلام». ربما أراد أن يصل إلى درجة غير مسبوقة من الإتقان، أن يكتب «مجموعة حياته»، عاش يحلم بأن يصبح كاتباً أفضل، مؤمناً بأنه لم يصل بعد إلى ما يريده. فى هذه المجموعة بالذات، أعاد كتابة كل قصة – عدة مرات – على ورق مُسطَّر. أحضر المجموعة إلىّ فى «فايل»، وقال لى: «لغاية الآن مش راضى عنها. بقالى سنين مش راضى عنها!». منحنى الكفراوى أجنداته، ومعها منحنى رحلة تطوره، أصبح بإمكانى أن أرى بداية الخيط الذى يلضم كل القصص، خيط الموت، إذ كانت أول حادثة تهز روحه موت زميلته فى الكتَّاب. أوكل إليه الشيخ مهمة توصيلها إلى منزلها، كانت طفلة عمياء، وكان الكفراوى مندهشاً لبصيرتها المذهلة. كانت تصف شكل البيوت، وتميز الناس من أسمائهم، والحيوانات من روائحها، ثم حينما شعر بأن الطفلة أصبحت قصة حبه المذهلة، خطفها الموت ببساطة. تركت الطفلة البريئة عتمتها الصغيرة إلى عتمة أبدية، وقد تجاوز الكفراوى الموقف، لكنه لم يتجاوز الموت، إلا حين ذهب إليه أخيراً ليصير خبرة حقيقية، بعد أن كان – طوال الوقت – شيئاً أقرب إلى العبث. كان باستطاعة الكفراوى معرفة أموات أقربائه من عظامهم. جاء إليه ابن عمه بجوال يمتلئ بجماجم وعظام، ميز بينها من الأسنان الفضية، ومن تقوس الساقين، ومن تجاويف العينين. كان يشعرنى بالخوف حين يقول: «عندى قدرة على معرفة أن هذا الشخص سيموت بمجرد رؤيته»، ويتأملنى، ويبالغ فى نظراته.
اختار الكفراوى القصة ربما لتناسب الأعمار القصيرة الجميلة التى يكتب عنها. القصة الجميلة ابنة موت، ما إن تبدأ حتى تنتهى، لم يشعر بالغيرة من الرواية والروائيين، لم يشعر بالغيرة من جوائزهم ولا امتيازاتهم ولا مكاسبهم ولا نجوميتهم. الروائيون نهمون وجشعون. هم أحفاد «أشعب» بينما هو سليل رموز الزهد العظام، من أمثال «الحسن البصرى» و«أبى العلاء المعرى». أراد أن يموت وهو «كاتب قصة». ظل ينفى عن نفسه لقب «روائى»، لم يكف عن ترديد ذلك، وكأنها تهمة، حتى وهو يمنحنى روايته الوحيدة «مرقص الصياد». وضع الأجندة السوداء الصغيرة فى يدى، وقال ببساطة: «روايتى الوحيدة. خذها واقراها، لكن متنشرهاش أبداً أرجوك!». فى هذه اللحظة شعرت بحجم الثقة بيننا. لم يتحدث عن تلك الرواية إلا فى بضعة سطور. كان يتحاشى ذكرها كأنها خطيئته، كأنها عمله السيئ، كأنها ابنته من الحرام، لم يشأ الاعتراف بها أبداً، كأنها ستسلبه تميزه، أو تشوش على لقبه، بعد أن ظل عمره يصقله بماء الفضة. تمسَّك بلقب «كاتب القصة»، خوفاً من أن يصير نسخة باهتة فى طابور الروائيين الهائل، خشى أن يضيع فى مدينتهم، وألا يجد بيته مرة ثانية، لكن ها هو يمنحنى ثقة ربما لم يمنحها لأقرب أصدقائه.
فكرت فى نشر الرواية، وتخيلت بسذاجة أنه سيقبل، لكن صوته ارتفع على غير العادة، وأنا أعرض عليه الأمر، أراد أن يكون حاسماً، وألا أجادله: «خليها معاك. وانشرها براحتك لما اموت. أمانة عليك. دى وصية»، لم يكن أمامى سوى أن أتمنى له «طولة العمر»، وغمز لى ابنه عمرو، ليخفف من توترى، قائلاً: «خليها معاك دلوقتى، وبعدين نشوف. آهى فى إيدك».
لم يمنحنى سعيد الكفراوى على مدار عامين معلومة عن الرواية، أو بشكل أدق كان يمنحنى معلومات مضللة، أخبرنى مثلاً أن الأجندة فيها الرواية كلها، لكنه عاد ليقول إنها ناقصة، ثم اتصل بى – ذات يوم – لينقل لى خبراً مفرحاً، إذ وجد نسخة أخرى من الرواية مكتوبة على الآلة الكاتبة، صوته السعيد خدعنى، فطلبت منه موعداً سريعاً، وذهبت إليه فى اليوم التالى مباشرة. الآلة الكاتبة تعنى أن الخط أكثر وضوحاً، ثم إنها النسخة النهائية من الرواية، النسخة التى لن يقول بعدها إن هناك جزءاً ناقصاً، والأهم أنه غيَّر لهجته الحزينة وهو يتحدث عن روايته الوحيدة، بطته السوداء، وسط إوزاته!
كان عائداً للتو من رحلة صيد فى البحر الأحمر، بصحبة حوريس وعمرو. ظل يتحدث كطفل عن الرحلة، شقت سفينة الصيد الأمواج العالية، أنزلوا الصنانير إلى الماء فى انتظار الأسماك، ومرت ساعات مضجرة. كان البحر ساكناً كصفحة كتاب، ثم هبط الليل ومعه هبط اليأس والنوم.. فناموا، لكنهم سرعان ما استيقظوا على أصوات طرْق هائلة. وقف الكفراوى وهو يحكى ملوحاً بيديه، ثم قلد تلك الأصوات «بووم. طراااخ، لدرجة إنى حسيت بالسفينة بتنشق وهنغرق!»، خرجوا من قمراتهم إلى السطح، ونظروا إلى الماء فوجدوه يتموج [أنواع عديدة من السمك: السلور، والهامور، والسحل، والقراض. يصيح مشيراً إلى الطبق على المائدة: «والبراكودا. الواحدة أطول من دراعى!». كان يتحدث عن رحلته الأخيرة المثيرة، وأفكر فى أنه يجمعنا على عشائه الأخير. كان يتحدث عن سمكة جميلة، وأفكر أننا سنأكل سمكة شديدة السُميّة، لكن طعم البراكودا كان أشهى من كل أسماك البحار الأخرى. ثم جاء الدور على الرواية، أخرج من درج المكتب بضع أوراق، وأغرقنى مرة أخرى فى مشاعر الإحباط، فلم يجد من الرواية – بحسب حكايته – سوى هذه الأوراق، قلب البيت، وفتَّشه ركناً ركناً، وحتى يكون مقنعاً أقسم أنه بحث فى الدواليب والحقائب القديمة والصناديق المغلقة منذ زمن، بل بحث أسفل السجاجيد، ثم طمأننى أنه سيذهب قريباً إلى المحلة فربما نسيها هناك، لكننى كنت محتاراً قليلاً، فما الذى يجعله يوزع أوراق روايته بين مدينتين؟!
على أية حال حسم الأمر بعد شهر، وأقسم مجدداً أنه ظل ساعات يبحث عنها فى بيت العائلة، ولم يعثر عليها: «مش هسكت أبداً غير لما الاقيها. صبرك بالله، هنروح من بعض فين!». كانت الرواية تتحول إلى أسطورة بالنسبة لى. وضع الأوراق القليلة فى يدى بكرم بالغ، لكننى أعدتها إليه، وطلبت منه أن يعدنى بأن يمنحها لى كاملة، فوعدنى، لكن الوعود انتهت. الأجندة هى كل ما يخصنى، ويخصه، ويخص «مرقص الصياد».
لم تكن هذه هى وصية الكفراوى الوحيدة. حكى لى أنه كان فى التاسعة، حينما عرف فجأة أن الأميرات فوزية وفريدة وفوقية قادمات إلى المحلة الكبرى لافتتاح «مُبرَّة محمد على»، وهى عيادة أو مستشفى صغير للأرياف، كان ذكياً واختار مكاناً يعرف أن موكب السيارات سيعبر بالقرب منه، وقف على السكة الزراعية فى انتظارهن لكنهن تأخرن، وكاد أن ينسى الموضوع، أو نسيه فعلاً. خلع ملابسه ونزل ليستحم فى الترعة، ثم سمع كلاكسات السيارات الثلاث، فخرج مسرعاً، وتسلق شجرة عالية وهو «ملط». أمسك غصن توت وهتف: «عاش جلالة الملك فاروق ملك مصر والسودان». فوجئ بالسيارة الأخيرة تتوقف ثم تلف وتسير ببطء فى اتجاهه، وتهبط منها الجميلة فوزية وتجلس على الأرض قبالته، مستندة إلى إحدى ركبتيها، ليصبح وجهها الجميل فى مواجهته. سألته زوجة شاه إيران: «تحب الملك أفندم؟!» فهتف مرة أخرى، ولكن فى وجهها تلك المرة: «عاش جلالة الملك فاروق ملك مصر والسودان»، فخلعت من رقبتها قلادة ذهبية، ووضعتها فى رقبته، وعادت إلى سيارتها مرة أخرى.
كانت لدىّ رغبة حارقة فى تبرئته، بعد أن تناقل أصدقاؤنا الحكاية باعتبارها قصة من نسج خياله، إذ علقوا بخفة دم على وقوفه عارياً أمام الملكة فوزية، كان يتصل بى ليقول ضاحكاً: «فلان مش مصدق، وبيسألنى: بقى انت يا سعيد وقفت عريان قدام الأميرة فوزية وعجبتها؟!». كان الكفراوى يعيش حياته بين الواقع والخيال، قدم هنا وقدم هناك، عين هنا وعين هناك، رأس هنا وقلب هناك، لا يعرف إن عاش حلم يقظة، أم حكاية حقيقية. يبدو أنه شعر بتشككى، وقرر أن يرينى القلادة، لكنه طلب إبقاء الأمر سراً بيننا. توقف لحظة، وأشار بإصبع خلف أذنه: «دى تمنها دلوقتى أكتر من مليون جنيه، ولو نشرتها يمكن ييجى حرامى يخبطنى فى الحتة دى هه!»، ثم غاب عنى دقائق، تخيلت خلالها أنه نزل سلماً مسحوراً إلى قبو الكنز، ثم رأيته قادماً، وفكرت أن أغلق عينىّ، فربما تضىء الماسة كما يحدث فى الروايات الخرافية، وتغشى بصرى. كان يمسك بصندوق خشبى مكسو بجلد بنى. حبست أنفاسى، وهو يفتح الصندوق، لكن القلادة كانت تستقر شاحبة على كومة أوراق كالجثة الهامدة، وتخيلت أن سقوط ظل الكفراوى عليها هو ما يطفئها، فاقتربت منها، ووضعت رأسى فوقها، حتى أصبح داخل الصندوق. كان سعيد منبهراً بقلادته، رغم مرور سبعين عاماً أو أكثر على رفقتهما، وسألنى بحماس: «إيه رأيك؟!» فاصطنعت الدهشة، إذ كانت قريبة الشبه بما أراه فى فتارين خان الخليلى. لم أكن مقتنعاً، لكننى لم أستطع مع هذا أبداً أن أكذبه، حتى بينى وبين نفسى. انتهت الحكاية، ثم أخرج فجأة من نفس الصندوق قلادة جائزة الدولة التقديرية، ووضعها فى يدى، وعزم علىّ، وأقسم أن أحتفظ بها، لدرجة أننى صدقته.
كتب الدكتور جابر عصفور فى الأهرام، بعد أن قرأ ما كتبته عن «حكاية القلادة» أن سعيد الكفراوى سرح بى على بساط سحرى. لمَ لا وقد اعترف أيضاً بسقوط معظم أصدقائه فى فخ حكاياته سنوات طويلة.
كان بإمكان سعيد الكفراوى إقناعك بأن لديه تنيناً صغيراً فى البيت، أو جنيّاً فى درج المكتب.
كان بإمكانه إقناعك أنه يكتب سطراً فى قصة، ثم يستيقظ ليجد القصة قد اكتملت لوحدها: «ربانى كده».
كان بإمكانه إقناعك بأن الأموات اصطحبوه ليلاً إلى حفل راقص فى هضبة المقطم.
كان يحكى ببساطة، حكاية خلف حكاية، فلا تعرف إن كان يحكى عن أشخاص قابلهم أم كتبهم. سعيد الكفراوى نفسه حكاية طويلة ممتدة، لم يجزم بشىء أبداً، حتى سنوات عمره الحقيقى. كان يقول لى إنه مواليد 39، وأحياناً 42، كان يقول لى إنه مواليد يناير، وفى بعض الأحيان يونيو، أو أغسطس. كان سعيد الكفراوى كتلة من الجمال والخرافة، والأمل واليأس، والواقع والحلم.