ترجمة وتقديم: توفيق البوركي
أجرى الصحفي بجريدة الباييس الإسبانية خوان كروس حوارا مطولا مع الروائي والأكاديمي الفرنسي من أصول لبنانية أمين معلوف (1948)، بمناسبة صدور الترجمة الإسبانية لآخر أعماله الروائية عن دار النشر أليانثا المدريدية، تحت عنوان: “إخوتنا غير المتوقعين” (الطبعة الفرنسية صدرت عن دار غراسيه 2020).
“إخوتنا غير المتوقعين” هي العمل الروائي التاسع في مسيرة الكاتب، التي بدأها برائعته ليون الأفريقي (1984) وتلتها بعد ذلك روايات: سمرقند (1986)، حدائق النور(1991)، القرن الأول بعد بياتريس (1992)، صخرة طانيوس (1993)، موانئ المشرق (1996)، رحلة بالداسار (2000) والتائهون (2012).
وتأتي هذه الرواية بعد آخر كتبه التحليلية: غرق الحضارات (غراسيه 2019) الذي عبر فيه عن مخاوفه من المخاطر المختلفة والطارئة التي تتهدد العالم المشحون بالنزاعات والمرارة والظلم والحروب، في ظل انهيار المنظومة الأخلاقية والإنسانية وتخلي القوى العظمى عن دورها في إنقاذ العالم، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، مما يواجهه من أخطار ولعل آخرها فيروس كورونا الذي أحدث انقلابا في الكثير من المفاهيم وخلخل متانة الروابط الإنسانية.
ويعتبر معلوف روايته الجديدة هي الصيغة التخييلية المتفائلة لكتاب غرق الحضارات، التي يتخيل فيها عالما على شفا حرب نووية يُنقذ في آخر لحظة من طرف مجموعة بشرية لم يكن أحد يتوقع وجودها.
وجدير بالذكر أن النسخة العربية ستصدر في الأيام القادمة عن دار الفارابي للنشر والتوزيع ببيروت بترجمة الكاتب والمترجم الجزائري بوداود عميّر. وفيما يلي نص الحوار.
كيف توصّلت إلى هذا التمرين الأدبي القائم على الحدس؟
كُتب هذا الكتاب قبل حدوث الأزمة الأخيرة، وقد تساءلت حقيقة، إن كان من الأفضل نشره الآن أو الانتظار لبعض الوقت. ثمّ اتضح لي لاحقًا أنّ الوقت مناسب لقول الأشياء التي يطرحها. نعم، إنّه عمل عن الحنين واليوتوبيا. لقد تأمّلت ما يجري في العالم خلال العقود الأخيرة وكتبتُ عددًا من المقالات التي تصف إلى أيّ حدّ تسير الأمور نحو الأسوأ؛ “الهويّات القاتلة” و”اختلال العالم” و”غرق الحضارات”… لديّ شعور، وهو شعور قويّ للغاية، بأنّنا نسير في الطّريق الخطأ. وإذا ما واصلنا في هذا الاتجاه، فحتمًا سنصل إلى أسوأ المواقف. يجب أن نتخيّل مجتمعًا مختلفًا. وقد اخترت لذلك فترة تاريخيّة، هي العصر الذّهبي لأثينا، لأنّها بدت لي الحقبة التي تمثل طفولة البشرية، التي لم تكن تستند إلى معرفة علميّة كبيرة. وفجأة، وعلى مدى جيلين أو ثلاثة، حدث شيء يُظهر أن جنسنا البشريّ لديه القدرة على إنتاج شيء غير متوقّع تمامًا. ومن هذه النقطة استلهمت عنوان الكتاب. والأمر طبعًا يدخل في نطاق المجاز، ولن يتّخذ الشكل الموصوف في هذا العمل المتخيّل، لكن بعد كلّ تلك المقالات كنت بحاجة إلى القول بأنّ الأمل ما يزال حيّا، وربّما في يوم من الأيام سيظهر شيء مختلف.
تُمضي شخوص الرّواية عزلة اختيارية في جزيرة أطلسيّة نائيّة والتي ستتحول إلى مركز العالم. يستحيل قراءة هذا الكتاب بمعزل عن التفكير في الجائحة.
يمكن لأيّ شخص أن يتعرّض لحادث في يوم من الأيّام. نغادر المنزل وفي رمشة عين قد ننزلق ونسقط ونصاب بكسور. قد يستغرق ذلك شهورًا أو سنوات من العلاج في المستشفى. ما لا يحدث عادة هو أن تكون البشريّة جمعاء عرضة للابتلاء. لكن في هذه الأزمة، تجرّع العالم بأسره المرارة نفسها. لم يحدث ذلك من قبل، وما كان ليحدث، لأننا لم نكن مترابطين أبدًا. إنّها المرّة الأولى التي يتعيّن علينا جميعًا أن نواجه فيها نفس المعضلة. ونحن نشعر بالضّعف الشّديد. إنّ المرض في حدّ ذاته أقلّ فتكًا بكثير من الإيبولا أو إنفلونزا عام 1918. ولكن فجأة شُّلّ العالم. إنّنا نتقاسم نفس المصير لكن طرق تعاطينا معه مختلفة للغاية. فما يحدث في مقاطعة صينيّة سيحدث في ميلانو ونيويورك وفي كل مكان. ومع ذلك، نحن لسنا متّحدين، لا أوروبيّا، ولا حتّى داخل البلد الواحد. إنّ ما ورد في الرّواية، حقًا، استعارة لما نعيشه … لقد كتبتها قبل كل هذه الأحداث، لأنّ الانتكاسات التي واجهناها كانت موجودة بالفعل. مشاكل عدم القدرة على العمل معًا، وعدم القدرة على بناء المستقبل معًا. كلها حاضرة هناك، على نطاق عالمي، حتّى في المناطق التي شُرع فيها للتّحضير لبناء مستقبل مشترك. أوروبّا لم تعد فعّالة، ومفهوم النّظام العالمي تلاشى.
وإلى أين نسير؟
إنّنا نسير على غير هدى، نحو صدامات لا نعي كنهها: حرب باردة جديدة، أو قد لا تكون بالضّرورة باردة. يمكننا السّير في أيّ اتّجاه، وليس لدينا الوسائل لمنع ذلك. قد نواجه إنذارًا نوويا، أو إنذارًا من نوع آخر. بإمكان عالمنا أن يتوقّف على قرار شخص واحد أو على هذا الشخص بالذّات. كلّ شيء يمكن أن يتوقّف بينما نتساءل إلى أين نحن نسير. هذا الكتاب هو ثمرة انشغالي بما يجري في العالم، مثلما سبق ووضّحت في أعمالي السابقة، وفي الآن نفسه أودّ الإبقاء على جذوة الأمل متوهّجة بأنّ جنسنا البشري قادر على إنتاج شيء يَحُول دون وقوع الكارثة.
يَهبُّ العالم القديم لإنقاذ البشريّة، بما في ذلك الولايات المتحدة التي تتزعّم العالم. إذ يقود الإخوة غير المتوقّعين التّغيير، أمام دهشة وذهول ميلتون، وهو اسم الشخص الذي يتقمصه ترامب الآن. ألا يبدو أنّك كنت تفكر في ترامب…
لا، لا (يضحك). ظهور هؤلاء الإخوة غير المتوقّعين هو دليل على أنّنا نحتاج اليوم إلى نوع من المعجزة، لكن عوض تخيّل معجزة الله وحده يعلم من أين ستأتي، حاولت أن أتخيّل معجزة حدثت في تاريخ البشريّة، في الحقب القديمة، عندما حقّقنا شيئًا غير متوقّع. معجزة آمل أن تتكرّر يومًا ما. أما بالنّسبة للولايات المتّحدة، فقد كنت دائمًا مفتونًا بالحياة السياسيّة لهذا البلد. ما أجده مثيرًا للاهتمام هو المقارنة بما حدث سنة 1492. في ذلك الوقت بُوغتت بعض الحضارات بمجابهة شيء لم يكن في حسبانهم، وعلى الفور سُحقت حضارتهم وصارت أثرًا بعد عين … من يمثل حضارتنا اليوم؟ لا أستطيع اختيار أحد لا يوجد في مركز السلطة وفي موقع يحظى بأهميّة بالغة.
ولكن، في واقع الأمر، خلال السنوات الأربع الأخيرة، تجسدت تلك الشخصيّة في دونالد ترامب…
أنت تستشهد بقول لشكسبير: “السّماء المدلهمة تستوجب عاصفة“.
طيلة قرن على الأقل، تحدّث البعض عن تدهور وانحطاط العالم، وفي كل مرة يُطرق فيها هذا الموضوع يُحيلون إلى مقولات شبينغلر، وينتهي الأمر بإثبات أنّ المتشائمين كانوا على خطأ. واجهت الهيمنة الغربيّة كل أنواع التّحديات، وبغضّ النّظر عن مصدر تلك التّحديات سواءً تعلّق الأمر بالشيّوعية أو بالقوى الآسيوية، فقد أثبت الغرب في كلّ مناسبة قدرته على التّغلب عليها. إذْ خرج منتصرًا من الحرب الباردة. وليس الغرب فحسب، بل قوة عظمى أخرى، هي الولايات المتحدة، التي انتصرت في كل من الحربين العالميّتين والحرب الباردة نفسها، والتي كانت بمثابة حرب عالميّة ثالثة ضد الاتّحاد السّوفيتي والشّيوعيّين. في ذلك الوقت ساد بيننا الانطباع بأنّ هيمنتها ستستمرّ إلى ما لانهاية. لكن ما رأيناه هو كيف أمكن لقوة عظمى أن تفرّط في هيمنتها، بسبب سلسلة من الأخطاء اقترفتها الإدارات السابقة، وصولاً إلى الإدارة الأخيرة، التي تعدّ صورة كاريكاتوريّة لكلّ سابقاتها.
لماذا انتهت بهذه الصّورة الكاريكاتورية؟
أعتقد أنّ ما حدث خلال الثّلاثين سنة الماضيّة هو سلسلة من الأخطاء، تُعزى أحيانًا إلى الجهل، وفي أحايين أخرى إلى الغطرسة؛ فالقائمون على الإدارات المتعاقبة دمّروا مركزيّة السّلطة التي كان من المفروض أن تكون هي عرّاب النظام العالمي. لكنّهم بدلًا من ذلك دمّروا النّظام العالمي. لقد خاضوا جميع أنواع المجازفات، والأسوأ من ذلك كلّه، هو فقدانهم للشّرعية الأخلاقيّة. من المفترض أن تكون الولايات المتحدة هي أسّ الشرعيّة والنّزاهة الأخلاقيّة في العالم. وما حدث خلال ولاية الرئيس الحالي، التي شارفت على نهايتها، هو الانهيار الشّامل. لقد فقدت الولايات المتّحدة سلطتها الأخلاقيّة ولا نظام آخر مؤهل ليحلّ محلّها.
يبدو أنّ هذا الكتاب هو محاولة لوقف ما يجري في هذا العالم المشتعل.
نعم هو كذلك إلى حدّ ما. يقرّر الرّاوي ذات يوم أن يهجر حياته السابقة والذهاب إلى جزيرة صغيرة وتأمّل العالم بهدوء وسكينة، ولكن هناك لحظة ينهار فيها هذا الصّفاء. حتى الجزيرة التي يوجد فيها تتأثر بعواقب ما يحدث على هذا الكوكب. بالطّبع، يراودني إغراء اللجوء إلى جزيرة ما ومحاولة فهم ما يحدث في باقي أرجاء العالم، لكني لا أستطيع أن أظلّ هادئًا وكل شيء من حولي يغلي. التّبصر وحده لا يكفي، فقد حانت اللحظة التي تدفع نحو الصراخ: “أوقفوا هذه الحماقات!”. ربما فهذه الرّواية شكل احتجاجيّ للكفّ عن هذه الحماقات، وتخيّل بديل مناسب.
في الرّواية تحترق مدينة البوتوماك. يستحيل ألاّ يقودنا الأمر إلى التفكير في الحريق الذي شبّ مؤخرًا في مرفأ بيروت …
بالطّبع، ما حدث في بيروت مؤلم بالنّسبة لي، لكن لا يسعني إلاّ أنْ أردّد مع نفسي أنّ ما حدث في الرواية انعكاس لما يحصل لوطني الأمّ، وانعكاس لعالم فقد صوابه، عالم تغيب فيه القوانين، وتُترك فيه البلدان الصغيرة لمصيرها… نحيا في عالم لا يعرف فيه النّاس كيف يتعايشون، لا يعرفون كيف ينأوون فيه عن الاختلافات الدّينية، أو الاختلاف في اللّون، أو ما شابه ذلك. الجميع يغرق في هوّيته الخاصّة وفي الصّراع ضدّ الآخرين… أعتقد أنّنا قطعنا شوطًا طويلاً في طريقنا نحو التدمير الذاتي. نحن بحاجة للتّحرك، وتخيّل شيء مختلف؛ ضَرْبٌ من العلاقات المميّزة بين الأمم والمجتمعات البشريّة. علينا إعادة اختراع العالم.
يقول بطل روايتك: “إنّ العالم في السنوات الأخيرة قد أضحى ساحة معركة للنّهب والكراهيّة. كلّ شيء فيه مغشوش: الفنّ، الفكر، المُثل، الكتابة، المستقبل، الجنس، علاقات الجوار “. من الواضح أنّك أنت من يقول هذا الكلام.
في قلب هذه القصّة تنشأ علاقة حبّ بين رجل يرسم القصص المصّورة وامرأة تكتب الرّوايات. وبطريقة ما أنا مثل العرّاب بالنّسبة لهذا الثّنائي. أودّ أنْ أقول إنّ المُثل العليا لكلتا الشّخصيتين (أليك وإيف) تنبع مما أحسّ به. فالرجل يحاول أن يصف العالم الذي لا يشعر تجاهه بالاستياء، على عكس المرأة. وأنا أتبنّى الرّؤيتين معًا. وعلى الرّغم من التّعارض بينهما، إلا أن ذلك لم يمنعهما من إنشاء علاقة حبّ. أعتقد أن تناقضاتهما هي ما أحتضنه في داخلي. أحيانًا أنظر إلى البشريّة بهدوء، انطلاقًا من المسافة التي تسمح بها الجزيرة، لكن في الوقت نفسه أنتزع الكلمات التي تقولها المرأة من أعماق كينونتي. إنّ التّمرد على العالم في الحالة التي عليها الآن شيء حاضر دائما بداخلي.
كتب ألبير كامو في كتابه “الضّدان”: “ما كابدته في طفولتي جرّدني من كلّ شعور بالاستياء”. يعود كامو إلى ذاكرة الباريسيّين بعدما تُليت رسالة العرفان التي أرسلها كامو بنفسه إلى معلّمه، عقب مقتل مدرّس فرنسي على يد جهادي متعصّب.
أعتقد أن العالم اليوم أكثر وحشيّة مما كان عليه في حقبة كامو. في تلك الفترة ساد إحساس معيّن باللّياقة لم يعد له أثر الآن. اليوم نحن أمام وحشيّة واسعة النّطاق، وقلّة احترام تجاه كلّ شيء. لقد هزّني الخبر… إنّ مجتمعًا كمجتمعنا الفرنسي أضحى يحسّ بالعجز. فقد كان لزامًا عليه أن يكون قادرًا على تغيير عقليّات الأشخاص، وإدماجهم، لكن يظهر جليّا أنّ كلّ هذا لم يعد مجديّا. إنّنا لم نعد نعلم ماذا نفعل اليوم ولا كيف نمنع مثل هذه السلوكيات من أن تغّيرنا نحن أيضا. الضّغينة تقودنا إلى البحث عن الانتقام، وهذه إحدى المشكلات تقلقني اليوم. أشعر أنّه لا حلول لدينا لمشكلات من هذا القبيل، على الأقل لا نتوفر على حلول جيّدة. نتحدّث، نحاول مواساة بعضنا البعض، لكنّنا لا نعرف ماذا نفعل. ولا نمتلك تصوّرا لحلّ مثل هذه المشكلة.
لنعد مجدّدا إلى كامو، ربما أصبحتَ شخصا متمردًا …
تمامًا. أشعر أن لدينا دوافع أكبر مما كانت عليه في زمن كامو لنصير متمردين، لأنّ العالم فقد بوصلته. إن تمرّدي يظهر في الرواية من خلال شخصيّة “إيف”، فهي شديدة التمرّد، وكلّ كلمة تنطق بها تحيل على التّمرد الذي أحمله في دواخلي.
وهي تُعنوِن روايتها الخاصّة ب “المستقبل لم يعد يعيش هنا“.
نحن بحاجة إلى معجزة ليعود هذا الكوكب فضاءً رائعًا للحياة.