جمال الطيب
تحتوى المجموعة القصصية “البهجة تُحزّم حقائبها” للقاص والروائي الراحل “مكاوي سعيد”، الصادرة عن دار “ن للنشر والتوزيع”- 2013، على الكثير من المعاني الإنسانية مثل الأبوة، المراهقة، المتلونون، براءة الطفولة، التمرد والثورة على المألوف، الحزن بمآسيه وشقائه، عبثية الموت، الخيانة والصداقة. كل هذه المعاني يتناولها المؤلف بين طيات مجموعته بشكل بديع ورائع، وبلغة تتناسب مع شخوصها المختلفة ووفقًا لأحوالها، ففي قصة “ثلاثة أشكال لأبي” يحدثنا عن الأبوة، فالأب هو رب الأسرة، عامود الخيمة، قائد كتيبته المكونة من الزوجة والأولاد، المسئول عن تدبير وتوفير احتياجات كتيبته من المال اللازم لحياة أفرادها حياه كريمة، تغنيهم عن الحاجة وذُلّ السؤال، وذلك بكده وعمله الشاق والدءوب، كقائد ورب أسره مسئول عن أفرادها وعن تدبير معيشتهم. هو في قيادته يستخدم أساليب متباينة تعتمد على المواقف التي تجابهه وعليه التعامل معها بحكمة وتروى، فسنراه يتعامل بحزم وحدة تصل إلى القسوة في حالة تربية وتهذيب أولاده بالشكل الذي يراه– من وجهة نظرة – مطلوبًا ليشبّوا رجالًا، يعتمدون على أنفسهم في تصريف أمورهم الحياتية في مستقبلهم، كما نراه حريصًا على تعليمهم ليضمن لهم مستقبل أفضل مما هو عليه نفسه. قد يصل هذا الحزم إلى الزوجة وأم أولاده، فكلماته قاطعه، باتره كحد السيف، لا يقبل النقاش أو مراجعته فيما قرره، ولكن كل هذا دون أن يخلو من التقدير والاحترام لها، فهي قسوة ولكن مغلّفة بالحب والحنان، فهي زوجته وأم أولاده وكاتمة أسراره والمحافظة على عرضه وماله، هي حمامة السلام بين أفراد الأسرة والتي بحنانها وعطفها وأمومتها تعمل على ترضية الجميع ليعم الوئام والحب والسعادة بين أفراد أسرتها. كل هذه المعاني يسردها لنا المؤلف في لغة سلسة جميلة، تتناسب مع شخوص القصة ومع المكان الذي نزحوا منه ومن البيئة التي يعيشون فيها، وبعبارات تنطق عذوبة ورقة، وفي بلاغة لفظية نجحت كثيرًا في توصيلها للقارئ. قصة ممتعة، حوارها متدفق بسلاسة وعذوبة، تشعر أن عباراته تتدحرج أمامك في انسيابية.
في قصة “أحيانا تعاودنا الدهشة” وهي عميقة المعاني، جاءت نهايتها السعيدة لتمسح الدموع التي انسابت على الخد تأثرًا ومعايشة لأحداثها، يحدثنا فيها عن العلاقات الرقيقة والمرهفة العالية الحسّ، والتي يجب أن تكون بيننا في تعاملاتنا على المستوى الإنساني، وعن السعادة ومفهومها الذي يتلخص في كيفية إسعادك للمحيطين بك وإدخالك للبهجة وللفرحة في قلوبهم مع المراعاة للمشاعر والأحاسيس في التعاملات مع الآخر. برع المؤلف في إبراز كل ذلك من خلال سرد رقيق ناعم يتلاءم مع رهافة المعاني التي يدعو إليها من خلال أسلوبه الذي يشدّك، ولا يبخل عليك بأدق التفاصيل لتكتمل عندك متعة المعايشة. على الجانب الآخر حرص المؤلف على إثارة الغضب والحنق بداخلنا على هؤلاء الذين يتعاملون بفظاظة وغلظة دون مراعاة لمشاعر الآخرين؛ مما أوقعهم حظهم التعس في التعامل معهم بهذه المعاملة التي تخلو من الرقة والإنسانية، وما قد تسببه لهم من ألم وحزن. وجاءت نهاية القصة التي يقول فيها المؤلف على لسان بطله: “أطفأ حسن شمعاته وانهالت عليه قبلات الزبائن، وتقدمت سائحة أجنبية وقبلت حسن بحميمية وأصرت على مراقصته”، وكأن المؤلف يود أن يؤكد لنا ويجزم أن كل ما يدعونا ويحثنا عليه، يتواجد لدى الأجانب، وهو بالطبع مُحق فكل الشواهد والعلاقات التي نصادفها تؤكد رؤيته. في قصة “لم يحدث مطلقا” يتناول مرحلة المراهقة وأحلامها وخيالاتها، التي تبدأ في سن مبكرة، فهي المرحلة الفارقة بين الطفولة والشباب، وغالبًا تبدأ في مرحلة الدراسة الإعدادية، والتي تتأجج فيها الرغبة في خوض تجربة الحب مع فتاة في مثل العمر، وقد تكون مع بنت الجيران– وهو الغالب– أو مع زميلة الفصل في حالة المدرسة مشتركة بنين وبنات. ويكون الخيال والرومانسية هما الغالبان على المحبين في تلك الفترة، فتكون لمسة من اليد بينهما كافية لبعث النشوة، وكأن تيارًا كهربيًا يسري في الجسد كله، انتظار موعد اللقاء بلهفة وشوق وكأنه العيد، وما يصاحبه من الحرص على ارتداء أفخر الثياب وأجملها للظهور في أجمل صورة أمامها، كما لا تخلو من بعض الحماقات؛ كالتباهي بقصة الحب أمام الأصدقاء، وقد تصل الأمور إلى التصريح و إعلان أسم المحبوبة!. في قصة “المتحوَّل” يفضح فيها المؤلف/ الراوي الشخص المتلوّن، صاحب الوجوه المتعددة، الذي يأكل على كل الموائد ويرضى بالفُتات، يجيد اللعب على الحبال والقفز فوقها، قاموس حياته يخلو من معاني الشرف والكرامة والاعتزاز بالنفس، فمرادفاته هي النفاق والمداهنة ولعق الأحذية. والمتحولون تجدهم دائما أمامك، يطلون عليك من القنوات الفضائية بوجوههم اللامعة، يبثون سمومهم ويشنّفون آذانك بكلامهم الأجوف، يعتلون المناصب القيادية والرسمية في كل العصور، وينشرون أكاذيبهم التي تُسمى مقالات أو دراسات أو أبحاث في الصحف القومية وجرائد المعارضة!. على الجانب الآخر من المتحول، هناك الثابت والمرتكز على مبادئه والمدافع عن أفكاره بكل شجاعة وضراوة، قد تصل إلى حد العنف، فهو لا يعنيه ما يواجهه من هجوم من المتحولين وزبانيتهم الذين لا يتورعون في اتهامه بأبشع النعوت، والتي قد تصل بهم إلى اتهامه بالجنون وإيداعه المصحة النفسية. في قصة “الهابطون من السماء”، يحدثنا عن براءة الطفولة وحزنها المكتوم، من خلال حالة الخوف والجزع التي تعرض لها طفل لم يبلغ الثامنة من عمره، إثر وفاة طفل الجيران الذي في الثالثة من عمره ويسكن في الشقة المقابلة، والذي رآه راقدًا على الأرض بعد سقوطه والدماء تنزف من أنفه. تنتاب الطفل حاله من الذهول والدهشة وهو يرى أهله يقومون بإبعاده لدى أحد الأقارب، ثم قيام أمه بعمل “حجاب” لحمايته من العفاريت والجن– كما تظن– التي قد تأتي له في منامه وأحلامه، حتى مضايقات زملاءه له وابتعادهم عنه. كل هذه الأحداث تدور حوله وهو يراقبها بلا مبالاة وبمنطقه الخاص به!، فهو يرى أنه لا داعي للحزن؛ ولكل الطقوس التي تصاحبه وتدور حوله، فطفل الجيران ملاك صغير هبط من السماء إلى الأرض، وظل فيها مدة قصيرة هي سنوات عمره، وبعدها رحل وصعد مرة أخرى إلى من حيث أتى… إلى السماء. ستنتهي كل هذه الأحزان بالابتعاد عن السكن، الشارع والمدرسة والبدء في حياة جديدة في سكن جديد؛ في شارع جديد؛ وزملاء جدد؛ بمدرسة جديدة، فالحياة لن تتوقف والأحزان مآلها النسيان!. تأتي قصة “لا أحد قادر على قهرها” وكأنها دعوة للتمرد والثورة على المألوف. وللتمرد أشكاله المتعددة، فهناك التمرد على الجهل والجهلة من أدعياء العلم والمعرفة ببواطن الأمور، ما خفي منها وما قد ظهر، التمرد على الفقر وقلة الحيلة التي قد تجبرك على الرضوخ والاستسلام وتقديم تنازلات تهدر الكرامة، فيكون التمرد للحفاظ على إنسانيتك وآدميتك وكرامتك، التمرد على أصحاب السلطة والمال الذين يرون أنها تعطيهم الحق في فرض قانونهم وسلطانهم، فيكون التمرد والثورة عليهم لفرض القوانين التي تحقق الحرية والعدالة. التمرد على البشاعة والقبح للواقع المحيط بنا؛ بحجة أنه السائد والشائع، بل يجب التمرد عليه ومجابهته، لتحقيق واقع أفضل تتحقق فيه معاني الحب والإنسانية بين أفراده، مهما اختلفت ميولهم وطبائعهم وانتماءاتهم ومعتقداتهم. تحدثنا قصة “البهجة تحزم حقائبها” والتي تحمل اسم المجموعة عن رحيل السعادة ليحل محلها الحزن، فللأحزان وجوه متعددة، كفقدان الأقارب ورحيلهم، وفراق الأحبة جسديا أو معنويا، ولكن الأحوال تتبدّل من آن لآخر، فالحياة لا تسير على وتيرة واحدة دون أي تدخل منّا، وهو ما يحلو لنا أن نسميه “تصاريف القد”، حتى نعفي أنفسنا من التفكير، والهروب من قسوة تأنيب الضمي. وتبدّل الأحوال ملازمًا للأحزان، فقد يتحول الحزن والإحساس بالتعاسة في حينه إلى فرح وسعادة مستقبلاً، بعد أن يتكشّف لنا ما كان محجوبًا في عالم الغيب. فالحياة تسير بنا وهي تتبدَّل من حال لآخر، ونحن لا نملك أمامها إلا التسليم بتقلباتها واستقبالها بالرضا. فالسخط والتذمر من هذه التقلبات لن يغير من الأمر شيئًا، وقد يؤدى هذا السخط والضيق إلى التفكير في التخلص منها بالانتحار مثلا!. في نهاية القصة أجد نفسي اختلف مع المؤلف على لسان بطله في اعترافه بالهزيمة أمام صديقه، فزوجة الصديق والتي كانت في السابق الحبيبة، لم تعد هي الفتاة التي كان يعيش معها قصة الحب، هذا من ناحية المظهر الخارجي بعد مرور السنين الطوال، كما أن تنصلها من وعودها وعهودها في السابق وتخليها عنه لتعيش حياتها هي بمفردها دون أن تراعي الجرح والألم اللذان سببتهما له، لا تجعلها تستحق أن يندم عليها. في قصة “صابرين” تتجلّى المعاني الإنسانية الجميلة والراقية أثناء الأزمات، والمواقف الحالكة والتي قد تصل إلى حد القتامة، فتكون الإنسانية هي الرابط الذي يتصل بين الأفراد على اختلاف ميولهم وأعمارهم وطبقاتهم الاجتماعية التي جاءوا منها. الإنسانية بمعناها العاطفي الرقيق والذي يقطر عذوبة من فرط جماله ورقته، الإنسانية التي لها مفعول السحر في التأثير والتجلّي، والتي تستطيع أن تُبدًل وتحول السلوكيات من السييء إلى الأحسن والأفضل، وتصل بك إلى مصاف الأنبياء أصحاب الرسالات. الإنسانية التي أن حرصنا على أن تكون في تعاملنا مع الآخر دون النظر إلى معتقداته أو بيئته التي نزح منها، لكان حالنا هو الأفضل والأرقى، والتي تجعلنا نسمو للدرجة التي تصل بنا إلى أن نتغاضى عن عيوب الآخر، ولا نرى منه إلا الجانب الطيب الذي يكمن بداخله. في قصة “الزيارة” يروي لنا “مكاوي سعيد” رحلة الحياة العبثية من الميلاد حتى الممات، يدخلها الإنسان وهو يستقبلها بالصراخ ويخرج منها والجموع من الأهل والأقارب والأصدقاء يودعونه بالصراخ!، فالحياة ما هي إلا زيارة خاطفة، قد تطول أو تقصر ولكن لا بد لها من نهاية بالموت. وأجد نفسي تحضرني أبيات العبقري الراحل “صلاح جاهين” وهو يقول في إحدى رباعياته:
خرج ابن آدم من العدم قلت: ياه، رجع ابن آدم للعدم قلت: ياه، تراب بيحيا.. وحي ببصير تراب، الأصل هو الموت ولّا الحياة؟ (عجبي!)، وكأنها تؤكد ما ترمي إليه القصة من عبثية الحياة.
في قصة “آخر ليالي الصيفية” تتمثل لنا بشاعة الخيانة من خلال قصة حب مستحيلة، من طرف واحد، بطلها طفل يتعلَّق بفتاة ناضجة تعمل ممرضة تسكن في إحدى الطوابق بنفس العمارة التي يسكن فيها، تعلَّق بها وبمداعباتها له. تتخبط مشاعره وتتحول إلى كراهية بعد أن تأكد من خيانتها له بتعلقها بابن الجيران الجامعي، صديق أخيه، والذي لا يشعر بها… “ومنذ ذلك اليوم تحولت مشاعري عنها”. ثم كانت الخيانة في أبشع صورها في إحدى ليالي الصيف وهو يراها تتحول إلى داعرة تقدم المتعة لمن يطلبها نظير مقابل مادي.. “في تلك اللحظة أصابني كدر شديد”. يكون النسيان هو الملاذ والمأوى، وطيَّ هذه الصفحة من الذاكرة، والتي يلخّصها في قوله: “ونسيت الأمر كله إلا في بعض الأوقات التي تعاودنا فيها ذكرى آخر ليالي الصيفية”. في قصة “لم تترك خلفه ورودا” يتناول المؤلف معاني متعددة، فهو يحدثنا عن الخوف بمفهومه الذي يحمل في أبسط تعاريفه؛ مفهوم نقيض الشجاعة، ويحدثنا عن الصداقة والصديق وعن الحزن ووجوهه المختلفة. يصرح لنا المؤلف هنا أن الخوف حالة مرضية تنتقل بالعدوى، وهو ينتقل إليك فتتحول من شجاع ومقدام، تعشق المغامرات حتى الغير محسوبة العواقب منها؛ والتي يقابلها الخائفون من حولك بالسخرية والاستخفاف، ولا يهدأون إلا بعد مسايرتهم في جزعهم، لتنضم إلى طابور المرتعدين الذي يضمهم، بحجة الارتكان إلى السلامة والمشي داخل الحيط، وأبعد عن الشر وغني له!، كما يحدثنا عن الصداقة بمعناها الحقيقي والسامي، الذي يرتكز على الحب والود المُنزّهان عن المصلحة والأغراض، بالمواساة عند الشدة والمُلمّات، والوقوف بجانب الصديق في أفراحه وأتراحه. قد يكون الصديق أقرب إليك وأشدّ إخلاصًا من بعض الأقارب الذين تربطك بهم صلة الدم؛ وبدون تدخل منك في اختيارهم، ويحدثنا عن الحزن، فيرى أن الأحزان تهزمها الأحزان الأشد قسوة وإيلامًا، فننسى أحزاننا القديمة لنعيش أحزانا جديدة، ترمى بظلالها الكئيبة على نفوسنا وتبعث الحسرة في قلوبنا. ومن أسباب الحزن والتعاسة فقدان الأحبة من الأهل والأصدقاء، وقد يكون الفقدان لفراقهم الحياة ورحيلهم عنها بعد معاناة مع المرض، أو لأسباب كثيرة ومتعددة تنتهي جميعها بالموت.. “تعددت الأسباب والموت واحد”، وقد يكون فراقهم وهم مازالوا على قيد الحياة نتيجة لقطيعة أو هجر، أو انحصار العلاقة في نواحي مادية تفتقد المحبة ودفء المشاعر والعواطف المتبادلة بين المحبين؛ مما يؤدى إلى فقدانهم وخلّو مكانهم في القلب. المجموعة القصصية “البهجة تُحزّم حقائبها”، تشعرك بالمتعة وأنت تهرول بين قصصها، تتلقفك فيها المشاعر من قصة لأخرى، حتى تنتهي منها وهناك شعور من الانتشاء والبهجة يغمرك ولا يغادرك.