بائعة الموز

Xir3675
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

بسمة جاهين

اقتربتُ من التقاطع الذي تجلس به السيدة التي تبيع الموز. دائمًا ما أتجنب المرور منه وألجأ للالتفاف حوله وقطع عدد من الحارات الضيقة لكي أصل إلى المنزل، وسبب كل هذا الحروب الدامية بين بائعة الموز وبين أمي التي بدأت الأمر لاعتقادها بأن السيدة غشتها بسعر الموز. استعانت أمي في القتال بقوة صوتها ومعرفتها الموسوعية الفذة لكافة الألفاظ النابية، فنصبتها هذه القدرات سيدة الحارة عن جدارة. واليوم بما أنه مختلف اعتقدت أنه لا بأس بالمرور بالتقاطع، فاليوم اتهمتني صاحبة محل الأحذية الذي أعمل به بأنني سرقت زوج من الأحذية.

بدأت العمل بالمحل منذ خمسة أشهر. كانت مهامي محددة: نفض الأتربة من على الأحذية والأسطح ومسح أرضية المحل، ثم انتظار الزبائن بوجه مبتسم ومساعدتهم في اختيار الأحذية المناسبة لهم. لتسع ساعات كنتُ أقبع بالمحل وأقوم بالعمل. لم أتذمر! كنتُ سعيدة بحصولي على عمل بالرغم من ضآلة الراتب الشهري والذي كان يضيع أغلبه في أجرة الموصلات، فحلمي منذ صغري هو اليوم الذي أنتهي فيه من دراسة الدبلوم المهني وأبدأ بالعمل لأحصل على مال لشراء احتياجاتي. جاء اليوم الذي أتممت به الامتحان الأخير، فخرجت من باب المدرسة مهرولة لأبحث عن عمل. بحثت في كل الأماكن وكل الوظائف، لم أترك مكانا إلا وسألت فيه، ولم أترك وظيفة إلا وتقدمت لها.

 لم يحالفني التوفيق في الأيام الأولى من بحثي ولكن لم يتسرب اليأس إلي؛ لم أملك رفاهية اليأس، فتذمر أمي الدائم من اللاشيء الذي أقوم به لم يعد جسدي يحتمله. بحثت وبحثت حتى وجدت عملاً كبائعة أحذية في منطقة بعيدة عن منزلي. لم يهمني الأمر، فقد شعرت معه بقليل من الحرية، كأنني أتنفس هواء جديداً؛ لا أعرف أحدا ولا أحد يعرفني. لكن تقديري المسبق بأن حياتي ستتغير تغيرا جذريا انمحى تماماً في اليوم الأول من العمل.

كانت صاحبة المحل كأنها فرد من عائلتي؛ مفترية وذات لسان سليط لا تتوانى عن إطلاقه على كل من هب ودب. شفع لها في البداية أنني علمت ـ من خلال حديثها مع عائلتها وأصدقائها بالهاتف ـ أنها على خلاف شديد مع زوجها، وعذرت حديثها الشنيع عن الزوج بأنه لا بد وأن تسبب لها بآلام بالغة لم تجد مخرجاً لبثها غير سبه بأقذع الألفاظ. لسوء حظي الدائم لم تفدني أفكاري وتعاطفي بشيء! منذ اليوم الأول شرعت صاحبة المحل في تأنيبي والصراخ فيّ لأسباب غريبة، مرة لأنها لم تجد هاتفها الذي تحمله بيدها، ومرة أخرى بسبب كوب القهوة الذي برد ولم يعد له طعم. بمرور الوقت تعودت على طباعها، وعلمتُ أن كل يوم لديها هو يوم سيء. تبدأ بسب اليوم وسب من تقابلهم، ثم تجلس على المقعد خلف مكتبها منهكة القوى من الرحلة الطويلة من شقتها التي تقع فوق المحل، ثم تراني فجأة فتثبت نظراتها عليّ وتسألني إذ قمتُ بعملي بشكل جيد. الحقيقة أنه لا فارق لديها إذ قمتُ بعملي بشكل جيد أم لا، فوظيفتي هنا أن تنفث السيدة التنين غضبها الدائم على وجودي الدنيوي.

تقبلت الوضع رغم ذلك، وبدأت أحاول بأقصى ما لدي أن أقوم بعمل جيد، فعلى الأقل أنا هنا بعيدة عن البيت. لم أكن أريد أن أكون بالقرب من أمي لأصغي لحديثها عن كم قايضت المجد الذي كان ينتظرها في أوهامها التي بلا ملامح بحياتي البائسة غير المجدية. كنتُ سعيدة لبعدي عن البيت في هذا الوقت بالتحديد؛ ابنة خالتي التي تصغرني بسنتين تقدم لها عريس، ورحبت به الأسرة وحددت موعد الخطوبة بعد أسبوعين من الآن. أبلغتني أمي الخبر بنظرات شامتة ونبرة حادة. دائماً ما تقارنني أمي بابنة خالتي وتقول إن حالي مائل ولن يستقيم على عكس ابنة أختها الداهية. في الحقيقة لا علم لي من أين أتت أمي بكل هذه الثقة في بؤس حياتي!

تظاهرت باللامبالاة وأخذت حقيبتي ونزلت إلى عملي. لم أهتم بالإساءات التي تكيلها لي أمي، كما لم أهتم بالإساءات التي تكيلها لي صاحبة المحل. لم أهتم حقاً حتى أتى اليوم الذي جعلتني فيه السيدة التنين سارقة. فعندما بدأ التنين الذي يسكنها بالصراخ في، دب الخوف بقلبي ولم أشعر بنفسي إلا وأنا أركض بأقصى سرعتي. أركض وأركض وأركض، في الأزقة والحارات والشوارع. لم أحسب المسافة التي ركضتها، ولكن بعد برهة عرفت أنني بمنأى عنها، فحمدت الله أنني لم أعطها معلومات عن مكان إقامتي.

في طريق العودة وأفكاري منصبة على إيجاد تبرير لعائلتي يقلل من التقريع المتوقع، وجدت السيدة التي تبيع الموز وقد أصبحت عجوزا، وبالرغم من ذلك مازالت متمسكة بهذا التقاطع كحق أزلي. حدثتني نفسي أن اليوم لا يمكن أن يسوء أكثر من هذا، فوقفت أمام العجوز لأسألها عن سعر الكيلو. وقفت العجوز وخطت نحوي ببطء، احتضنتني وقبلتني على وجنتي وسألتني لماذا لا أزورها وألقي عليها السلام كما كنتُ أفعل من قبل. أخذتني الدهشة وأنا أنظر في عينيها الصادقتين، ثم تذكرت حديث البعض عن إصابتها بالخرف، عانقتها بالمقابل وشرعت بالبكاء.

 

مقالات من نفس القسم