وقت مستقطع

وقت مستقطع
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد خير

يمكنني أن أؤكد بلا أدنى شك أنني أحببت علياء  بدءًا من  الحادية عشرة مساءً و 55 دقيقة بالضبط، في ليلة الأول من إبريل، أتذكر الليلة لأنها كانت  عيد ميلاد أحد أصدقائي الذي نتندر على تاريخ  ميلاده كل عام بالطريقة التقليدية: عيد ميلادك  أم كذبة إبريل ؟

 ورغم أننا لم نستطع يومًا اختراع  نكتة مضحكة فعلاً بهذا الخصوص،  إلا أننا شعرنا دائمًا أنه من واجبنا أن نسخر من صديقنا العزيز كل سنة،  ولكن ها أنا كالعادة ابتعد عن الموضوع .

أقول إنني أتذكر بالضبط  الدقيقة التي بدأت فيها أحب علياء، لأن أحد الحاضرين في عيد الميلاد سألني وقتها عن الساعة كي نطفيء الشموع، فكان متبقيًا على منتصف الليل عشر  دقائق، خرجت  لحظتها  إلى  الشرفة الواسعة، أشعلت سيجارة ورمقت علياء التي جلست فوق سطح طاولة ملاصقة لسور الشرفة، تتأمل الشارع الهاديء بالأسفل، وتؤرجح بهدوء قدمين حافيتين “ظلتا تضيئان تدريجيا في ذاكرتي فيما بعد”، وقبل أن أصل لنصف سيجارتي قفزت علياء بخفة إلى صندل أبيض صغير، وانسالت إلى الداخل فعبرت بجانبي أو قل من خلالي لأنني شعرت فجأة بتيار مرّ في عروقي ، وملأ خلاياي كبلالين صغيرة، وفي نصف ثانية غمرني  حب أكيد غير مشكوك فيه، كانت المرة الأولى في حياتي التي استطعت فيها أن أحدد بهذه الدقة موعد بدء شعور معين، وقد تأكدت بنفسي من معظم أصدقائي المقربين، فقط المقربين الذين لن تتجاوز سخريتهم منّي نطاق الشلة، أن ذلك القياس الزمني الصارم للمشاعر ليس أمرًا شائعًا “على العكس من الجوع أو الصداع”، بل رأى بعضهم – ممن لم يستطع منع نفسه من السخرية- أنه قد يدل على عيوب نفسية مرشحة للتفاقم.

    ولكن أغلب الظن، أن ما رسّخ التوقيت في ذهني، أن علياء – وفي أول لقاءاتنا المنفردة، مدت يدها بلا سؤال إلى معصمي الأيسر، وخلعت الساعة التي كنت أتطلع فيها كل لحظتين، لا لمواعيد مهمة أو شيء من هذا القبيل، بل كواحدة من حركاتي العصبية العديدة التي أخذت أفقدها بالتدريج في الأيام التالية.

ومنعًا للّبس فإنني لم أكن في إحدى الحالات التقليدية للحب من أول نظرة، فقد  قابلت علياء من قبل عدة مرات،  لكنني  أحببتها فقط في  تلك اللحظة المحددة التي ملأتني بشجاعة مؤقتة لم يكن صعبًا معها  أن اجتذب حبها ، وقد بدأنا علاقتنا بزخم حتى أننا امتلكنا تاريخًا مشتركًا  خلال  يومين لا أكثر، وخلال الفترة التي ارتبطنا فيها كان غريبًا أنني أصبحت شخصًا آخر تمامًا بمنتهى السلاسة ودون أدنى اصطناع، فـمثلاً لم أكن أنزعج – بصدق – من جلستها المسترخية في الأماكن العامة، ولا من جدلها المطوّل مع  الجرسون أو شرطي المرور أو بائع الأنتيكات، ولا ضحكاتها المفاجئة العالية الحلوة  في الشارع، كانت مدة انسلخت فيها عمّا يجري حولي واستطعت – بتلقائية لم تتكرر – أن أتجاهل، أو بالأحرى  ألا أرى تحديق المارة، ولا أسمع تعليقات نسوة الأسواق الشعبية عن بطنها  التي  انكشفت من تحت البلوزة وهي تجرب أقمشة فلكلورية، أو تحديق الناس في حركتها المفضلة وهي تمويج شعرها بهز الرأس يمنة ويسرة ثم إعادة ربطه، ولا أعرف كيف نجوت من غضب السكارى الرافضين اقتحامنا باراتهم الصغيرة كي نجرّب المزة، وكيف عمدت إلى تصرفات لم أعتدها حتى في المراهقة والشباب الأول، كالتقبيل خفية من خلف ظهور ركاب المصاعد،  تدخين  الحشيش في الأماكن المنطفئة على الكورنيش، ومداعبة الأورغازم  في أوتوبيسات رحلات المدن البعيدة، لقد عالج كل ذلك مرارة قديمة في روحي، وأطلقتُ – بيني وبين نفسي- على تلك التصرفات اسما رصينا وساخرا هو: إعادة بناء المراهقة.

أما علياء فكانت – وعلى العكس من تصرفاتها الجامحة، تكتفي بمقتضب الكلام، وكانت عباراتها القصيرة تبدو كإجابات تشرح أو تؤكد ما كنت أؤمن به من دون أن أفصح عنه، فلقد لاحظتُ مثلا، إنها كانت – على الشواطيء وفي الحدائق وموائد العشاء – تتهرب من  التقاط أي صورة،  مكتفية بالقول: الصور ليست دليلا على أي شيء.

 وكنت أعرف ذلك أكثر من أي شخص،  إذ كان بحوزتي، مئات الصور التي أبتسم فيها، وبعضها  أذكر يقينا أنني- أثناء التقاطه-  كنت أفكر في الطريقة الأمثل للتخلص من حياتي.

وهكذا كنا، عبر الغناء في المواصلات العامة والدخول العشوائي لحفلات سينما منتصف الليل، التسلل عبر شرفات الفنادق والزيارات المفاجئة للأصدقاء، في كل هذا وغيره كنت استجيب لجموحها وأسبقه أحيانًا، بقوة بدوت معها كما لو أن تلك هي عاداتي طوال حياتي، لكني قاومت الاعتراف بأن تلك القوة مبعثها الحب، لأن ذلك سيعني أنني لم أحب أبدا في حياتي قبل ذلك، وهي فكرة لم أستطع تحملها  لأنها تتركني خاويًا تمامًا، أو قل ستضع الكثير من علامات الاستفهام أمام خسائر كبرى وآلام ظننت أنني تحملتها في الماضي من أجل الحب.

لم يقدّر لتلك التساؤلات، على أي حال، أن تستمر طويلا، وقد صرت أميل – بعد سنوات من كل ذلك- إلى الإيمان بتقلّبات الكيمياء وتفاعلاتها داخل الجسد، وتحكّمها البارد بما نسميه الحب أو الشجاعة، القسوة أو الإعجاب،  ربما أفضى أحد تلك التفاعلات، إلى شحنة ما، تفسّر كل ما جرى.

إذ أننا كما بدأنا فجأة من دون مقدمات، انتهينا فجأة  من دون نذير أو سبب.

كنا قد  التقينا في مطعم ما، وانطلقت أنا في حديث ضاحك،  وكانت علياء تستمع وهي ترفع حاجبين مندهشين، ثم سألتني فجأة عن أمر لا علاقة له إطلاقا بما أتحدث عنه، كانت تفعل ذلك كثيرًا ولم أكن أنزعج عادة بل كنت أتخذ من ذلك سبيلاً للتندر، ويومها أجبت سؤالها لكنني ضبطت نفسي منزعجًا لأول مرة  منذ ليلة إبريل، لاحظت هي انزعاجي، واستفهمت مني، فتعللتُ بحموضة مفاجئة.

قمت إلى الحمام وحدقت في المرآة، ورأيت في عينيّ شيئًا قديمًا، فقلت أهلا  بالشخص الأول.

رفعت يدي له  بالتحية وعدت إلى مقعدي.

 ولم أكمل ما كنت أحكيه ولم تنبهني هي إلى ذلك، حدقت في ملامحها وشعرت ببعض غربة، وبنفس اليقين الذي تحددت به بداية كل شيء، أدركت بالقوة نفسها، أن عقارب الوقت الضائع بدأت دورانها، ورغم المراوح العملاقة في المطعم المفتوح ظل الجو حارًا، وخطر لي أنني  سأشتاق إلى نفسي معها أكثر مما سأشتاق إليها هي نفسها،  وعندما جاء الطعام الذي طلبناه أخيرًا نظرت في ساعة المطعم فكانت  الثالثة عصرًا  و16 دقيقة .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

من مجموعة “رمش العين”

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم