بدءا من اسم المجموعة شديد الجاذبية، يأخذك “محمد خير” إلى عالمه الذي يمزج فيه بيسر وبراعة بين الخيال والواقع، البراح والضيق، الغلظة والرقة، منطلقا من فتافيت الحكايا التي تبدو أنها تخص راويها إلى دنيا أكبر وأوسع تشمل كل من يقرأ تلك المجموعة القصصية الممتعة التي -حمدا لله- لا تجنح كعادة غالبية القصص القصيرة الجديدة إلى الحداثة وما وراءها، متمسكة بتقاليد القصّ الكلاسيكية الرزينة من تكثيف واختزال ووضوح في الفكرة وهيكل عظمي ملموس للقصة، دون أن يعني ذلك على الإطلاق -وهنا تسكن البراعة- تقليدية أو جمودا أو روتينية في الكتابة الممزوجة بكثير من الجنون المحبب.
معظم قصص المجموعة يشاغِب فيها المؤلف قرّاءه بالعنوان الذي يأتي في أحيان كثيرة ملخِّصا للقصة في كلمة أو اثنتين أو ثلاثة على الأكثر، ومكملا لأحداثها وكأنه في كل مرة تنتهي فيها من قراءة القصة يحيلك إلى العنوان مجددا، يتجلى هذا مثلا في قصة “عصبية ككل العجائز” التي يحكي فيها البطل ليلته التي يقضيها وحيدا في تلك الشقة التي يستأجرها مع زملاء له بين شبرا ومسرة، الشقة رحبة لكنهم يتجنبون تلك الغرفة التي ماتت فيها أم صاحبة الشقة، تلك الغرفة التي لاتزال فيها آثار العجوز الراحلة كـ”شبشبها الجلدي الصغير ودولابها الممتلئ بملابسها البيتية”، تلك الغرفة التي يستحوذ عليهم القلق منها، تلك الغرفة التي تخرج منها طَرقات ما الآن وبطلنا وحيد في الشقة كلها ولهذا لابد أنك عرفت أنها قصة فعلا “عصبية ككل العجائز”.
في “موعد لن يتكرر” يتم تكثيف ذكريات وأحداث عشرات السنين في لقاء يجمع بين شخصين باعدت بينهما الظروف والأحوال حتى لما يلتقيا من جديد يبدو أن المسافات ازدادت بعدا يبدو هذا واضحا من نظرة الأول للثاني “سألني عن الحياة في الحي الراقي فوجدت نفسي أبالغ في أسعار الإيجارات والسلع ونظرت له من طرف خفي وقلت لنفسي إن الفقر لا يبرر القذارة”، واضح إذن هنا لماذا هذا هو “موعد لن يتكرر”.
ذكاء اقتناص اللحظة عند المؤلف يبدو واضحا في معظم القصص، مثلما حدث في “ورقة بيضاء مطوية” عندما يحوّل ذلك الموقف التقليدي لمرور الكمساري على الركاب في أحد قطارات الصعيد إلى موقف درامي مليء بالتفاصيل الموحية، معتمدا أيضا على الوصف الغني رغم اختزاله “الضوء المتزايد يجعلني أراه بصورة أوضح، بدا أنحف وأكبر سنا مما ظننت، يتوقف القطار فينهض، بدا وكأنه تذكر شيئاً، فإذا به ينحني فجأة، يضرب بقدمه أسفل مقعده فيتحرك جسد صغير، طفل آخر أكبر من مصطفى يقوم بتثاقل من تحت المقعد الخشبي، يعنّفه: يلّا يا واد، وصلنا”، وهي بالمناسبة واحدة من القصص القليلة في المجموعة التي بها حوار بين الأبطال، فيما اعتمدت معظم القصص على الصوت الداخلي.
في “عفاريت الراديو” يستعيد “محمد خير” قبسا من روح الطفولة وخيالاتها، عندما يسرد البطل علاقته بالراديو الروسي الكبير ذي اللمبة الحمراء المميزة، الذي كان يأوي إليه في وقت الغارات، في هذا الوقت وبينما الدنيا مليئة في الخارج بضجيج وطحن يعيش هو عالمه الخاص: “ألصق عيني باللمبة حتى يبدأ بصري بالزوغان، ورغم أنهم كانوا يتأخرون أحيانا، إلا أنني لم أشك لحظة في مجيئهم، العازفون يسيرون ببطء وكبرياء أمامي داخل الراديو، حجمهم صغير جدا يتقدمون من مقاعدهم ويجلسون، سلسلة من النغمات النشاز تنطلق بينما كل منهم يضبط آلته الموسيقية، ثوانٍ ويظهر المطرب في حجم النمل الأبيض الكبير الذي كان يهاجم أثاثنا كل صيف، ينحني قليلا يضبط الميكروفون ويبدأ الغناء دون أن ينظر لي”، خيال فياض به قدر من الطرافة المحببة التي تحيل القارئ رغما عنه إلى ذكريات في مثل هذه المساحات والتفاصيل والعلاقات الحميمية التي تجمعنا عادة مع بعض الأشياء في الصغر.. أي جمال أكثر من هذا تريد إذن؟
المجموعة التي تضم 23 قصة قصيرة يتنوع طولها بين القصير جدا والقصير فقط والمتوسط، حظيت بعناية في ترتيب القصص، فأن تكون الافتتاحية بـ”فادي” القصيرة المركّزة التي فيها بعض من النشوة التي تصاحب المرء كلما نجح في خداع الآخرين، فهذا مقصود، وأن تكون الخاتمة بـ”الشيء بالشيء” التي ربما تكون واحدة من أكبر القصص حجما وفيها سرد عميق لمشاعر البطل حينما يحضر إلى شقة صديقته الأجنبية وقد ماتت: “ربما فعلت فيها بلادنا فعلها، جهاز مناعتها احتمل طويلا مياهنا وطعامنا ومواصلاتنا وتوتر شوارعنا ثم انهار دفعة واحدة”، فلابد أن هذا أمر مقصود أيضا وكأن “محمد خير” يستقبلك على حنو وإيقاع سريع ثم يسلمك لصفحات النهاية بترنيمة حزينة مسّها شجن.
“عفاريت الراديو” مجموعة قصصية دافئة، تنحاز إلى الشعر، ليس لأن مؤلفها شاعر صاحب نفَس خاص وقد صدر له ديوانان بالعامية قبل ذلك؛ وإنما لأنها تنحاز إلى سطوة الشعر وجمالياته وانفعاله باللحظة، مصحوبا ذلك بعين ترى الدنيا أمامها شاشة كبيرة، فكأنك تسمع القصص شعرا وتشاهدها سينما.. وأي متعة هذه؟!