الشريط السفلي

الشريط السفلي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

هشام جلال أبوسعدة

الواحدة والنصف، عاد المكان في الساحة لسابقَ عهده، يجلس (حكيم) بعد عودته من شقة أعلى المطعم بعد تغيير ملابسه؛ مُنتشيًا. لم يُمهلها، بمجرد دخولهما أمسك بيديها، لفها مع لفة الباب، سندها برفق وظهرها له، مُغلقًا للباب. أول من علمته القبلة، أمسك شفتها التحتية بين شفتيه عَضها بأسنانه مُلتقمًا لفمها بفمه لامسَ لِسانه لِسانها، يقولون في طرفِ اللسان بقعةٍ سحرية إن تلامست توهجت الشهوة. علمته ألا يُغلِق عينيه وقت القبلة فالنظرة تُزيد الرغبة. علمته فتفوق عليها، عَصرها بين أذرعته متخليةٌ عن حِرصها خالعًا عنها ملابسها فساعدته، فنزلا فافترشا أرض بهو مدخل شقة أعلى المطعم. تمددا على سجادة، تنسابُ من حولهم موسيقى تملأ الأركان، تصاحبها أبخرةٌ أرجوانية طوافة تخلق في المحيط حسًا شاعريًا كأنَّه القادم من أعماق المحيط. يظل مُعتليها برفق يضغط عليها في أمكنةٍ لتستسلم له. يقولون كلما تقدم عمرّ المرأة فقدت رغبتها، لم تعد راغبةٌ في رجلٍ.

مُخطئون، فثقافتنا لا تعتمد إلّا على الوهم وسوء التقدير ونقل الكلامَ مُحرفًا بمعلوماتٍ مغلوطة مُزادٌ عليها بلا منطقْ، بعد أن يكونوا علبوها في قوالبٍ تسمح بإضافةِ كُلَّ ما ليس حقيقيًا؛ بل عبيطًا. رِيبا الرايق سيدةٌ فاتنة اقتربتً من الستين، كادت أن تُنهيها هذا العام. يشعر الساعة أنها فتاةٌ في العشرين، ساخنةٌ حامية، تتأوه بصدق. تنفلتُ من بين يديه ليداعبها تستجيب له لتبدو مراهقةٌ. تتركله نفسها ليفعل ما يريد، بخبرة السنين بات يُذيقها سكرات لذة الاقتراب. يُداعب شفتيها بشفتيه. عينيها جِبٌ. لم يصلا معًا للذروة، يستمتع باللمس وتحسُس الجسد، تستمتع بلمس جسده بأصابعها. راح للمنطقة المخفية، فتحت فدخل يعلو وينخفض، يدخُل ويَخرُج، استمر يفعل لدقائق بدت طويلة، طالت معه بالخبرة، علمته هي ألا يتعجَّل. لحظات حلوة بعمرِالرجل والمرأة معًا. فغابا عن الحياة في بحرِ رمالٍ عظيمة، رحلةٌ صاعدةٌ هابطةٌ بين كُثبانٍ رَمليةٍ هادرةٍ، ضجيجٌ وصَخَّبْ، أنفاثٌ مُتلاحقةٌ حارة. ينسابُ العرق في شتاءٍ قارص البرودة، ترتجف من هول ما فعل، تُغلق عليه نفسها لا تريده أن يُفلتها. انتفضَ بعدها بدقيقة. لازال يحضنها. امتلكته، فامتلكها لحظات، أفرغا ما في جعبتهما معًا، شحنةُ تواصلٍ نادرة، ذلك التفريغ اللحظي الجمعي الفارق ما بين صحة البشر والعلة، بين العافية النفسية والكآبة. لحظاتُ متعة عابرة غابت تحته راحت في غفوةٍ لفترة؛ فلم يُحصيها أحدٌ قط. فاق. عاد بِمُفرده مُنتشيًا تجاوره عائلة زياد معه زَّوجته وسولاف وطفليه الاثنين.

***

تجلس (سُولاف) معها حاسوبها الشخصي كلما نظرت ناحية (حكيم) خِلسة ينظر لها مُبتسمًا، تتورد وجنتاها، تشعر بسخونةٍ عارمةٍ تَسري في أطرافها نارًا. تواري عينيها وراء الحاسوب، يلعب أخويها الصغار بجوارها. تحت الطاولة سُلحفاة كبيرة معها ابنائها ثلاثُ سلاحفٍ صِغار أتى بهم سَليم لعلمه بعشق الأطفال للسُلحفاة البرمائية الأم، تداعبه سولاف تعرف خوفه من الموت وعشقه للحياة:

–        عمو (سَليم) عارف (زِحلِف) سيعيش مئتين سنة كمان.

–        هنشوف هنشوف.

يُجيبها ضاحكًا يتمنى الخلود فيضج الكبار ضاحكين. بقيتهم مُلتفين مواجهين الشاشات العملاقة الموزعة بترتيب في أركان الساحة الاحتفالية التذكارية فائقة المقياس مع انتشارها الواضح على المسار المشهدي، فهي العلامة الدّالة على استعباد البرامج الحوارية في العقود الأخيرة لأهل شعب أرض الرجفة بجانب مواقع مدونات شبكة المعلوماتية العنكبوتية وعوالم الواقع الافتراضي. يتبين لهم في الشاشة المُعلقة في الساحة الخارجية للمطعم برنامجًا حواريًا صباحيًا تعودت بثه قناةٌ خاصة؛ منافقة. مقدميه رجل يبدو تعدى الخمسون، شعرهُ كثيف، وجه كالحٍ، لحيته حليقة وشاربهُ منتوف، مُتجهمًا ببلاهةٍ مُبتسمًا بغباوةٍ، مُعلِقًا بفظاظةٍ، ذكائه محدود، فكره ضحل، أسئلته في اتجاه لا علاقة لها أبدًا بموضوع الحوار، مُسترسِلٌ لا ينتظر لحَتَّى يُنهي ضيوفه كلامهم، يلف ويدور بغباء. معه امرأة تبدو ساقطة، فهمها ليس بقدر جسمها، منتفخًا مستديرًا، ضحكتها مُبتذلة خنفاءٌ فطساء، فمها كالمصفاة مخرومٌ، هي أيضًا لا تُعطي فرصة لأحد ليتكلم، كلما حاولت هي تتكلم يقاطعها هو، كلما حاول هو يتكلم تقاطعه هي: لازمتها: أنا عارفة كُلَّ حاجة أنا فاهمة كُلَّ حاجة؛ ضاحكة بخنفٍ. ضاحكًا (حكيم) عليهم:

–        ناقصاكم؟ (سَليم) حبيبي، من فضلك غيرّ القناة؛ أقفله خالص.

هكذا طلب (حكيم) منه تغيرَ القناة بينما الضيوف في البرنامج مُنهمكين في تلاسن وتراشق بالألفاظ، ليتبين على الشريط المتحرك أسفل الشاشة أخبار:

عايز تفسر أحلامك، اتصل الآن، الشيخ البراواني يقرأ الطالع، يعرفك من نجمك، الرؤية مُعلقةٌ برجل طائر إذا فُسّرَّت وقعت، حمِّل نغمات أغنيتك المفضّلة، معهد البربُّون كربوُّن للتخسيس، شوربة المنقوع، جرَّب أخر فُرصة لتكسب التريليو،. فيلا الأحلام، رحلة القمر، اشتري أجهزة الواقع الافتراضي الجيل الرابع، التقسيط على أعوام، جرَّب.

***

اتسمت حياة المدينة بالدجل والشعوذة، تفنن الشعب في ابتكار أساليب للكسب السريع، مكسوفين يقولوا النصب. فتحلهم الطريق ثُلةٌ من رجالِ مالٍ وأعمالٍ جهلة غيرّ متعلمين، صاروا إمبراطريات مال فأخذوهم ليديروا البلاد. كأنَّ ثمة علاقة بين المال والإدارة. قال الفاهم الإدارة حضارة بيد أنهم لا يعترفون إلّا بالفهلوة والشطارة: أنا عصاميُ، بنيتُ نفسي بنفسي، اشتغلت في كافة شيء أمسِك التراب يتحول ذهبًا. لهم نفس الابتسامة البلهاء والكلمات المحفوظة، فتخيل الجُهّال بأنهم المُنقذين للوطن فأعطوهم الإدارة، فبانت أساليبهم وطرقهم في التعامل مع الأمور؛ تعاملاتٌ بنكيةٍ فاسدة، علاقاتٌ بالدولِ أكثر فسادًا، بيعٌ وشراء، تبديدٌ لأصولٍ ثابتة، تخريبٌ، فوضى إدارية ومالية ليس لها من مثل في أدبيات الاستثمار.

الشعب يشوف كده يتجنن: يا ولاد الأيه شاطرين ناس بتعرف تجيب القرش منين. قلدوهم اللي في نفسه حاجة بيعملها، ليدوروا على قروض البنوك، كادت أن تُفلس، بعدها هربوا لبره. ناس ثانية قالت الأكل بيكسب ذهب، توكيل وجبات سريعة وبطيئة، امتلئت البلد بمطاعم تجيب المرض. ناس ثالثين قالوا النجوم، أيوّنْ أيوّنْ؛ هي النجوم: تعالى، تعالى، تعالى من برجك نعرف الطالع، إنما عارفين المشكلة إيه؟ تقدم العلم، أمال، الأبراج علم، بمعرفتك للبرج الصيني تعرف كافة شيء، نعم لا يكفي معرفة أبراج الدلو والحوت والجوزاء المهم أن تعرف أبراج القرد والفأر والحمار: شُفت إزاي! كان ناقص حاجة. اليوم من رقمك واسم أُمك تعرِف كيف تُصبح مليونيرًا بل مليارديرًا، أيضًا متى تقترض ومتى تفر هاربًا بالمال. هاتلك قرشين، سلم أمرك لهم، اتشطر معانه، سَمعنا صوتك، عرفنا لمن ولائك.

الشعب طبعًا يا عيني مريض فقير، يبدو في الظاهر عامل متدين، العلاج غالي، فكرة بمليون جنيه، الطب الشعبي حل للفقر والمرض، بلا علم بلا خبرة، بلا تقنية بلا ابتكارات واختراعات فارغة، بلا كلام فارع. العلاج بالتعاويذ. أنتم لا تفهمون مشكلة العصر الحديث، نحن شعبٌ محسود. فكلما قابلت شخص لديه قميص جديد أو ساعة بتنَوّر، الغباء بيفُّط من عينيه يقولك محسود يا عيني، أو واحدة خلفت عيل برص تقفل عينيها تعمل عيانة: أيوه يا أُمي الحسد مذكور. على إيه الحسد؟ الناس لا تتلفت للحواليهم! العالم عايش في نعيم، دول في بلاد بره أفقر واحد فيها يملك أضعاف ما عند أتخن واحد منهم وتلاقيه هنا خايف يتحسد.

اللي صاحب محل آزوزة، اللي عنده شركة كليم وسجاد، اللي عنده سيفونات وأطقم حمام، كُلّ واحد منهم فاكر نفسه العالِم في الأثار الغارقة، يطلع يتكلم في البرامج المدفوعة سلفًا، بيحكي قصة حياته، إيه ده كله! إيه ده كله! أساطير! العيال الحافيين في البلد أطفال الشوارع بالملايين مرّميين والمعفِّنة خلِفت جابِت فأر لبسته خرزّة زرقاء خايفة الواد يتحسد. تكلمها، تبصلك بطرف عينها عاوجة شفتها: أمال يا أمي الحسد مذكور! يخرب بيت الجهل والخيبة، أمال لو شفتي أطفال العالم تعملي إيه؟ عمرنا ما سمعنا انجيلينا جولي وبرات بيت بيتكلموا في الحسد والعين، بقية ميليارديرات العالم والفنانين والعباقرة والرياضيين الأفذاذ، أوبرا ونفري ودكتور فيل وتايرا ومايكل جاكسون وجون ترافولتا وميل جبسون وباربرا سترايسند هم دول اللي يتحسدوا عمرنا ما سمعناهم بيتكلموا عن الحسد. أي واحد فاشل، خيبان، تسأله سبب فشله يقولك اتحسدت، الناس عنيها وحشة. يعني الحسودين ولاد الكلب يتركوا المرموقين ويذهبوا لحسد واحد أزرق معفن أو واحدة مصّدّْيةٌ تافهة غباءها طافح من وجهها، أو واحد فاشل مش عارف يعمل شغله صح؛ .. غباوة بعيد عنكم . ما يزال غارقًا في أفكاره: الناس في بلدنا بطلت تِفكَّر، سلمت نفسها للخرافة. اليوم، كُلّ واحد إما راكبه جن إما مخاوي جنيه، تكلمهم يصرخون: الجن حقّْ، ذُكر في القرآن. لعلهم من أولياء الله الصالحين، بركة، إياك تخوض. يسخطونك قرد. أيضًا نوصي بالعلاج بالأعشاب من كُلِّ صنفٍ ولون، منجمُ ذهبٍ ومغارةُ ماسٍ فيهم مُنّجمون ودَجالون وعطارين فاشلين مُعالجين بالأعشاب، لحَتَّى صار عندنا معالج بالدين والأعشاب والتمائم لِكُلِّ مواطن. لا تَمرّ دقائق وعلى الهاتف صوتٌ ناعمٌ دلوع يا خراشي على الطعامة: شوربة المنقوُّع يا بيه، حبوب الرشاقة، السبع حبات المنجيات، تاخذهم وتدعي لنا، ليلة مع مراتك تنام شهر مريضة، غول، أقوى من الفيل، بل طائرُ رُخٍ، أداءٌ رائع، جرَّب، هتخسر إيه؟

***

جاءنا البيان التالي، في الساعة الواحدة وعشرون دقيقة، في نفق هارون تم إلقاء الحجارة على موكب السيدين مدارات اللوطي وسِمامة العبيط في جولتهم للتبرع لمنكوبي الزلزال الأخير. إلقاء القبض على المشاغبين، ترحيلهم للنيابة العامة، جاري التحقيق معهم؛ الحمد لله على سلامتك سعادتك يا أفندم، محسودٌ والله معاليك.

يُنهي بعدها مقدم البرامج الحوارية السَمِج الخبر العاجل، يلازمه شريط إعلانات سفلي متحرك:

أمسك اليوم الشيخ البراواني طائرًا بالقرب من البرج، مُعلقة في قدمه رؤية لصاحبنا، لم تقع حَتَّى بعد أن فسرها، بركاتك يا شيخنا، آخر صيحة في علاج العنة والحسد، عشب البراواني.

ينفجر (حكيم) ضاحكًا بصوتٍ صاخب، في حين تقفز (نائلة) مُصّفقةً، ضاحكة:

–        يخرب عقلك يا (حكيم)، عندك حقّْ، الشريط المتحرك حكاية

 

 

خاص الكتابة

مقالات من نفس القسم

تشكيل
تراب الحكايات
موقع الكتابة

ثقوب