البلد المهاجر

البلد المهاجر
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

 يوسف رخا

أتذكر ياسر عبد اللطيف كلما ذهبت إلى شارع ٩ في المعادي. وحين أمر بنوع معين من المقاهي أو المطاعم في أي مكان في العالم - تلك التي تمزج ما بين تواضع عصور آفلة وجانب من شهوة الحياة، النظافة أو النظام - ترجع لي ألفاظه المنتقاة والإيقاع البطيء لعباراته الكثيفة التي ليس بينها وبين الواقع سوى التباس الخبرة نفسها، إلا أنها مصممة على التلخيص بما يكاد يفرّغها من معناها. لكن هل ينطوي الاختزال في حقيقته على نوع من العفة أو الكتمان؟ هل يسعى ياسر عبد اللطيف وهو يكشف ورقه إلى إخفاء شيء أعمق وأثمن يستوجب النفاذ إليه صفاء استثنائياً؟ وكيف يتولد هذا الشيء في "سيبيريا الغرب" كما يسمي موطنه الجديد في كندا؟ يبدو لي هذا الكتمان في تلاصقه مع احترام صادق للإنسان بالذات هو الصفة المميزة لياسر عبد اللطيف سواء في تفاعلاته الاجتماعية أو نصوصه. ليس الضجر أو الحكمة، ولا حتى القدرة النادرة حقاً على الاستغناء. الكتمان كمنطق حياة قادر على تجاوز أعراف الأحياء والأوساط والتقاطعات هنا في القاهرة. وهو أيضاً ما يسمح بالكرم والمودة والنظرة النزيهة إلى الآخرين.

لا عمق رؤيته كمستهلك ولا كسله كمنتج متفرد للأدب ولا حتى الموروث الثقافي للتسعينات قدر ذلك النزوع إلى قول فقط ما يصح أن يقال إلى الحضور المطمئن لياسر عبد اللطيف، حضور شخص فعلاً متعفف عن ترهات السياسة والاقتصاد وبريء – وسط براثن القتلة المحترفين – من شبهة الاغتيال المعنوي. وعلى الرغم مما اجتمعنا عليه كلاماً وفعلاً من شقاوات، يظل “البِلْد” المهاجر أحد أوضح الدلائل على القاعدة القديمة التي تقول إن الكاتب الجيد لابد وأن يكون إنساناً خيراً. هذا ما أتذكره حين أتذكر ياسر عبد اللطيف وأنا أسمع الموسيقى بالليل فترجع لي قصيدة “جولة ليلة” أو أحد مقاطع “قانون الوراثة” أو أحد النصوص السردية الجديدة… ربما لولا الكتابة لما عرفت ياسر عبد اللطيف، لكنني وقد عرفته حين أتذكره يزيد تصديقي للكتابة.

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم