ورحبت بفكرة تقديم مختاراته المترجمة إلى العربية لأول مرة من خلال ديوان “فواصل للحذف” الصادر حديثا عن دار شرقيات بالقاهرة، وبالتعريف به، كشاعرة لا كناقدة متخصصة، فقط سأشرك القاريء ذائقتي بإلقاء الضوء على نصوصٍ مسّني سحرها وأنا أقترب من نافذة الاغتراب والبصيرة التي تربك الروح:
(لقد حاول أن يقنعنا بمعنى الحرية.. وهلم جرا .. وقد وضع شيطانًا وهو التفاؤل.. ليجعل الأمور معلـّقة.. ويحتفظ أكثر بالوقت.. وقد لوّنَنا باللون الأحمر وذهب.. لكن للأسف، أيًّاً كان فإنه لم يصل.. وهذا ما يدين لنا به).
يبدو أن انتظار ما لا يأتي جلي في روح الكثير من قصائد الشاعر، لكنك مع إيقاع فكرته المنسابة في تموجات، تلك التي يفتتها ليعيد تركيبها بشعرية محكمة، لا تملك إلا أن تخوض معه الرحلة إلى لانهايتها، وأنت تعلم أن لا نهاية:
(ربما غدا سيكون عددنا قليلا ً جدًا.. تعال إلى نافورة العطش.. وانتظر.. جميع الذين يصلون مبكرًا.. ذلك الذي لن يصل ابدًا..هو ملك لي!.. واليوم.. حيث لا أحد يصل في الوقت المحدد.. اشترِ بطاقة الرحلة التي بلا نهاية.. وفي كل محطة من محطات الكتابة.. ستجد فاصلة.. لك.. وعلامة استفهام ٍ.. لي).
هذا الاستغراق الإنساني في نصوص “كلمندي” هو الذي يعوض استغراقه في الجانب الفكري والفلسفي الجاف في أحيان أخرى، كما أن توظيف اليومي والمعيشي يعوض كلاسيكية المعجم الرومانسي أحيانا، كذلك نلحظ أنه بالرغم من إشراكه القاريء في إنتاج النص في بعض القصائد إلا أنه يصرح بكل شيء في قصائد أخرى ويعطي للشيء مسبباته، لكنه مع هذا شاعر له طريقته الخاصة سواء في جانبه الفلسفي أوالإنساني إذ يجرحك بحزن عميق وناضج، موثوق بالتفاصيل الصغيرة، ومرصوص في طبقات مركبة ومتراكمة هي الشعر ذاته:
(خُذ معك المسارات.. التي من خلالها.. أتيت وذهبت.. خـُذ ليلة الثلاثاء، واجلبها لي.. لأحكم فيها.. وضوء القمر اللعوب الذي يحول شَعرنا للأبيض.. خُذ كلّ شيءٍ، تحت مظلّة عيني.. واجمعها كلها.. لتعطيها إشارة مبهمة.. ولتصبح أطلال الفكرة متحفًا للذكريات.. اغلق كل شيء لأجل ألا يخطفه النسيان.. اغلق كل شيء في داخل نفسك، وفي داخلي).
الشاعر هنا يغلق كل شيء داخله لأجل ألا يخطفه النسيان، وكأن النسيان يأتي من الخارج وليس من الداخل، هذا الهاجس يظهر أيضا في معان أخرى كثيرة:
(لقد قلت لك شيئًا منسيًا..ولا يمكننا حتى أن نستدعيه غدًا.. إن النسيان قد تقدم به العمر..أكثر، وأكثر).
ولعل تكرار مفردات الوقت والمكان والذكرى والنسيان يعكس خوف الشاعر من فقدان شيء من جذوره وهو يعيش بعيدًا عن وطنه، وكون الشاعر ألباني وأحد جنود حرب كوسوفو فهذا يحيل لمخيلة القاريء من الوهلة الأولى أزمة الحرب والوطن كبُعدٍ آخر يضاف إلى حالة الافتقاد، فيسأل في قصيدة «حديث مع رفيقي في الحرب» عن أغاني المرتفعات، وطقس هذا العام، وكم كانت مغادرته مبكرة وهو بالكاد يقترب من هناك، وفي قصيدة «كروجا» -المدينة الألبانية- يظهر الهاجس المتشابك للوقت والوطن مرة أخرى:
(الوقت قد كشف عن لون الخريف.. وأنا أسحب الكلمات من الرجل العجوز.. وفكرت أين سأكون أكثر سعادة.. وسأبكي من الفرح.. وسأرى الظلال الساقطة على القلعة؟.. هنالك تماما).
وكطبقات الحزن تتشكل الصورة لديه مركبة ومتراكمة، يحتفي بها كأفق مهم لكل كتابة شعرية حقيقية:
(أحتجُّ في أيام الأحد.. وأكسرُ فكرتين كما أكسرُ زجاجتين.. فكرةً لك وأخرى لنفسي.. لكن فكرتك.. تخطىء وتعيد مرة ً أخرى .. حُزن أيام الأحد.. مع قليل من أرباع الذكريات.. من أجل أن تعلـّمني كيف ألعب لعبة التكسير.. وكيف أكون صريحًا).
كما يرتكز نصه على المفارقة التي يبلغها في ختام معظم قصائده:
(… يتحدثون عن بعض من ملح الحب.. كثيرون منهم لم يقوموا بنشره.. لكن كتابات اليوم.. هي فصولهم.. وشتاؤنا.. هو مخطوطتنا المجنونة).
تلك الذبذبات الخفية في نصوصه مكتوبة بدم القصيدة ومنطوقة بلغة تتجاوز اللغات:
(يا صاحبي كم كنت قويًا.. الشعر الناعم، والشعر الشرس، والكلمة التي ليس لها دم.. لم تعد تقال.. كل الذي واجهناه معًا.. كان شِعرًا.. على قمة الوقت الذي هرب).
(هذه هي أيامنا.. جريان للوقت.. كلمات للحب.. وميل إلى الخالق.. لكن الشعر لا يمكنه أن يتغير.. لأن الكلمة لها دماء).
هذا يقودنا إلى محور كتاباته وأرقه الأصيل، «الكلمة» تلك المفردة التي تتكررفي قصائده بشكل ملحوظ يعكس أرَق البدء وعبث النهايات:
(.. هيا بنا.. لنتكامل لأن الصّمت.. يراقب بقلق.. ليرى ماذا سيحدث بيننا.. على أية حال.. آنسة كلمة.. فأنا أشعر بأني.. أقبّلك ِ.. قبلةً واحدةً فقط.. لأنني غير متأكد.. كيف ستأتي القبلة الثانية أو الثالثة.. لندَع الحرية.. تعيش بطلاقة.. ولندَع الكلمة.. والذهن.. يتحدثان بأي شيء.. يرغبان به.. أمّا أنا الآن فأريد.. قُبلتي الأولى).
هكذا فاجئني الشاعر «جيتون كلمندي» بنصوص لامتوقعة ورصد للإنسان في حالاته المختلفة باعتباره القضية الأسمى، تُرجمت قصائده إلى أكثر من 22 لغة، ونُشرت في العديد من المختارات الأدبية العالمية، وها هي تنشر بالعربية للمرة الأولى، وفي مصر التي يتحدث الشاعر عن ارتباطها التاريخي بألبانيا – في إشارة إلى مسقط رأس «محمد علي باشا»- وحرصه على أن يكون مقروءًا بها كشاعر معاصر.
كلمندي الذي يعد ممثلًا حقيقيًا للشعر الألباني في رأي عدد من النقّاد الغربيين، يراه الروائي «إسماعيل قدري» -المرشح لنوبل- أحد أهم شعرائها المعاصرين.
ولد «جيتون» في مدينة بيجا، كوسوفو عام 1978م، شارك في الحرب التي قادها جيش التحرير الكوسوفي 1998-1999، حصل على شهادة البكالوريوس في فنون الاتصال الجماهيري، ثم أكمل دراسته في الجامعة الحرة في بروكسل ببلجيكا حيث يقيم ويعمل حاليا، صدرت له ثماني مجموعات شعرية، ومسرحية درامية، وكتابان في العلوم السياسية، كما صدرت عن كتاباته تسعة كتب بلغات مختلفة، وهوعضو في جمعية الصحفيين المحترفين في أوروبا، وعضو أكاديمية العلوم والفنون بباريس، وحائز على الجائزة العالمية القَيّـمة (SOLENZARA) باريس ، فرنسا.
هذا هو كلمندي الذي رأيت في تقديمه لقراء العربية إضافة وقِيمة.