عبد الهادي المهادي
- إهداء:
عندما كتب إكزوبيري روايته الظريفة “الأمير الصغير” أهداها لأحد أفضل أصدقائه؛ ليون فيرس، ولأنه أحسّ بأن الأطفال يُمكن أن تأخذهم الغيرة، فقد صحّح إهداءه قائلا: “إلى ليون فيرس حين كان طفلا صغيرا”، وأنا بدوري أهدي هذه القصة ـ بعين الطفل الذي كنتُه ـ إلى صديقٍ لا أعرفه مُطلقا، ولا حتى اسمه؛ أهديها لكاتب سلسلة “المغامرون الخمسة” التي دشّنتُ رُفقتها حياتي مع الكتاب.
يُحكى قديما أن طفلا عَزَّ عليه أن يَلْهو أصدقاؤه بِجرْوٍ بالكاد بدأ يقفُ على رجليه، فقد علّمه والداه أن يكون رحيما، مع الصغير والضعيف خاصة، غافلهم مرّة، واختطفه في صندوق كرطوني، ثم أخذه إلى مقرٍّ لجمعيةِ الرفق بالحيوانات قريب من حيّه. لم يكن يَنْبَحُ بعد، كان فقط يصدر أصواتا أشبه بالأنين، بقي هناك رفقته إلى ما بعد المغرب، رافضا أن يغادر إلى أن طمأنَه البيْطريُّ من أنه سيهتمُّ شخصيا بتنظيفه وإطعامه وإيجاد مسكن صغير دافئ له.
نهاية كل أسبوع، مساءً بعد انتهاء الدراسة، كان يذهب في شوقٍ ليطمئنّ عليه، حاملا معه قطعا من اللحم الطري وقنينة من الحليب الدافئ. و مع توالي الزيارات، كان الصبي يلاحظ بمزيد من الدهشة والفرح تحسُّنا في شكل الحيوان الصغير وخشونة في صوته، حتى أنه نَبح عليه مرّة وكاد يَجْرَحُ خدّه بمخالبه الصغيرة.
ذات يوم، قرّر الصّبي، بعد استشارة والديه، أن يَصحبَ الجروَ إلى البيت ليعيش مع الأسرة، وكذلك كان؛ فنشأ في راحة وهناء، يأكلُ اللذيذَ، ويشربُ الباردَ، ويلهو في حديقة خلفية صغيرة رفقة الفَراش والعصافير… “أصبح فردا من العائلة”، هكذا قال لهم أحد الجيران مرّة وقد لاحظ الاهتمام الكبير الذي يتمتّع به بينهم.
لم ينتبه أفراد الأسرة للتّغيُّر الذي بدأ يطرأ على “بامبو” نحو سلوكات عنيفة إلا يوم أن بدأت بعض القطط والكلاب والفئران تناوش البيت؛ نُباحا ومواءً وتسلُّلا إلى الحديقة والسطح طلبا للدّفء وبقايا الطعام.
يتذكر علاء أنه كان رفقة أفراد أسرته يتناول وجبة العشاء عندما سمعوا هرجا حيوانيا؛ هريرا ونباحا وعواء، وعندما وصلوا إلى الحديقة مُسرعين، وقفوا مشدوهين من هَوْلِ المشهد؛ كلبان ضخمان مُجَنْدَلانِ والدماء تسيل من أماكن شتى من جسميهما، بينما وقف بامبو رافعا رأسه في اعتزاز وكبرياء يتأملهما دون شفقة، يومها أسَرّ الأبُ إلى زوجته بهواجسه، قال لها بالحرف، هي تتذكر ذلك كأنه البارحة: “أخاف أن يأتي يوم يُؤذينا فيه هذا الكلب”. تؤكد نَعيمة أنه قال يومها “الكلب” وليس “بامبو” !
مع توالي السنوات، أصبح بامبو كلبا حقيقيا، قويّ البنية وحاد الأنياب، كانت تكشيرته تُرْهِبُ الأصدقاء قبل الأعداء، حتى أفراد الأسرة والعائلة لم يَسْلموا من أذاه مرارا، وهذا ما جعله يكتشف أنه يخلق له هيبة ومَهابة.
ذات ليلة فاحمة، استيقظ الأب على حركة غير عادية في الحديقة، قال مع نفسه، ربما بامبو يحكّ جلده مع الحائط ليُبْعِدَ عنه الحشرات التي كثيرا ما تؤذيه، ولكن وطأة النوم اللذيذ ودفء الفراش.. منعه من الخروج ليتفقّد المكان ويتأكّد من تلك الحركة والأصوات المجهولة، فعاد إلى النوم وهو عازم على أخذ كلبه صباحا إلى البيطري لينظّفه مما قد يكون التصقَ به من تلك الحشرات والعلائق.
ولكن الصباح حمل إليه نبأ غير متوقّع.
ـ لقد اختفى بامبو يا أبي، بحثتُ عنه في كل مكان، حتى في الأحياء المجاورة، صرخ علاء فيما يشبه البُكاء.
أيام عديدة مرّت دون أن يعود بامبو، ولم يجدوا له أثرا، رغم طول بحثٍ وتفتيش، وكأن شيطانا اختطفه.
مال الأب على زوجته وقال لها بصوت خافت: في الحقيقة، مُرتاحٌ لرَحيله، لقد عشتُ في المدّة الأخيرة خائفا منه بعد أن راقبتُ طويلا سلوكه، كان يمكن أن يؤذي أحدنا.
بعد شهرين بالتّمام، ذات ظهيرة صيفية حارقة، ورياح الشّرقي تُوَلْوِلُ بقوة تكاد تكسّر الأشجار، وتحمل في طريقها حبات الحصى و الرمال من بعيد، حيث تمتد الحقول الجرداء، فزع الجيران على صُراخٍ صادر من بيت علاء، هَرْوَلوا من كلّ صوب، لكنهم سرعان ما تَجمّدوا مَذهولين من فزع المشهد؛ كان بامبو، بجسمه الذي تضاعف حجمه، يُهاجم البيت بشراسة، ويعبَث بالغرس والنبات داخل الحديقة، بينما أغلقتِ الأسرة دونه الباب. ولعلّ هذا ما زاد من وحشية الكلب وجعله يغرس مَخالبَهُ الحادّةَ في نافذةٍ كان علاء يُطلّ من كُوّتِها، ويُصدر عواءً كالذئب الجريح.
وعندما يَئِسَ من كلُّ إمكانية لإحداث الضرر الذي كان يقصده، خاصة وأن بعض الشباب من الجيران استفاقوا سريعا من دهشتهم وبدأوا يرمونه بالحجارة، قفز بجسمه الضخم، واختفى بسرعة، وكأن فراغا ابتلعه.
تحلّق الجميع حول علاء ووالديه يهنّئونهم بالسلامة، وارتفعتِ الأصوات وعَلا اللَّغَطُ .. واحتدمَ الجدال بينهم حول “الدّوافع” التي جعلت “هذا الكلب” يرجع إلى البيت الذي نشأ فيه وتربّى في دفئه لينهشَ اليد التي امتدّت إليه بالرحمة وأنقذته صغيرا من برودةِ الشارع وقساوتِه.
قال “البّا العربي”، أحدُ شيوخ الحيّ، والمشهور بالحكمة وسَداد الرّأي: يبدو أنه كان ينتظر أن تُسْكِنُوهُ بينكم داخلَ إحدى الغُرف الخاصة، وعندما خابَ أملُه، انقلبَ عليكم؛ هجرَكم في البداية مُحاولا الحفاظ على الوُدّ القديم، ولكن نفسه الكلبيّة لم تَطِبْ فعاد لينتقم.
حرّك الجميع رؤوسهم مقتنعين بهذا التّعليل ومُكْتَفين به، ثمّ تفرقوا عائدين إلى منازلهم وهم ينصحون جارَهم حميد بأخذِ كاملِ الحيطةِ والحَذرِ حتى لا تقعَ مُصيبة لا قدّر الله.
قال له “البّا العربي”، بعد أن اختلى به: “لا شكّ أن الكلب، ومنذ أن خرج من عندكم، يبحثُ عن مَحْضِن جديد يناسب ما يطمح إليه، وأنا متأكد أنه سيجد مَن يتبنّاه؛ فقد أصبح يتمتّعُ بعضلاتٍ قوية ونباح مُجلجل كما رأيتَ بنفسك، ولكنه أثناء ذلك لن يتوقّفَ عن مُهاجمتِكم وإذايتكم”… وتابع فيما يشبه الهمس: “وقد يَستعين بكلابٍ شرسةٍ أخرى”، ثم غادر وهو يتّكِئُ على عُكّازِهِ تاركا الأسرةَ غارقةً في دهشة وخوف.