حاولت تخيل أصوات الفرقعات فظهرت مكتومة فى سماء سوداء تضوى بخيوط خضراء تتراقص. نفخ الجنى فى القارورة فتناثر الزجاج من حولى ولم يخدشنى، تصاعدت رائحة الغاز المسيل للدموع ولم أحس بها إلا عندما فركتُ عينى، فلبست كمامة وأبعدت شظايا زجاج معلقة بالهواء بيدى فى مشهد بطولي.
العالم لسوء الحظ حقيقى،وأنا لسوء الحظ، اسير التجربة مقطع الأوصال. أنتم يا من تسمعون صوت أفكارى تدوى فوق المنابر وتحت الأقبية. كنت فى ظلمتى الخاصة، ولم أدر وقتها، أن النهار قد لاح أو أننا مازلنا فى عتمه الليل. أنتم وأنا حقيقيون بما يكفى لنكون عرائس ماريونت. فى ظلمتى تغير المسرح ولكن، ياللغرابة، بقيت مقاعد الجمهور فى أماكنها.
استقرت إحدى الشظايا فى راحة يدى وتحولت الى قارورة كالتى كنت بها، فارغة، ظللت أحدق فيها بدون أى نية لاكتشاف شئ، فوجدت انعكاس لوجهى الذى يشبة “الأشكيف”، فزعت وتركت القارورة تقع ببطء، تكسرت الى سيوف وأنصال، قطعتنى وبعثرتنى فى مداخل ميدان التحرير، لملمت نجاة قطعى المتناثرة ووضعتها فى ماء بارد مقدس مع قليل من البهارات، فصنعت من الخليط مرهم دهنت به ما بين فخديها، فأصبحت أنا.
أنت بسهولة تسطيع أن تميز شخصاً مقطع الاوصال ليس لأن عندما ألصق الله ذراعاه، مرة أخرى بالغراء، بدل اليد اليسرى مكان اليمنى، وليس لأنه ينظر لك بإحدى عينيه بموات، والأخرى بثبات، على غير عادته. بل لأن ارتفع صوته بالذكر:
حيييييييييييي….. مددددددددددددد…
وحتى لو حدث ذلك فلم يدر هو نفسه بأن قلبه ارتفع إلى بلعومه ولن تجدى محاولات طعنه بخنجر فضى لإحيائه مرة أخرى.
انتشلنى قرد ميلان كونديرا من بحر غامض متلاطم، ساعدنى على الجلوس على صخرة بيضاء قرب الشاطئ وظللنا نحدق فى ألوان البحر السبعة وقال:”قد تصدقنى عندما أخبرك أن كائنات بلا حكاية، كائنات تظل فى العدم، فنحن نعيش فى عالم رائع وغريب، فعمره وحجمه والعنف الذى يحتويه وجماله، يتطلب خيالا فوق العادة لإدراكه”، عقبت على حديثه–كأننا فى محاورة تحت تأثير الحشيش- وقلت:”الأمر بمنتهى البساطة أن لكل شخص هناك حكاية ولا تستغرب أن تسمع كل شخص يروى حكاية عن شخص آخر بدلا منه، تلك حيلة أخترعها البشر من قديم الأزمان، لأنه فى النهاية يحكيها لك وليس لنفسه”.
لمست قدمى أرضية باركيه، أعجبنى ملمس الخشب فضغطت أكثر بباطن قدمى حتى طبعت أثر تجول فى أنحاء البيت ودخلت جميع الحجرات، حتى تلك الحجرة المسماة بالشك، وجدت بها ضوء ابيض خفيف مغلغل فى ستائر تهتز مع خلفية قمم قصر شمبليون. وجدت أيضا جماعة من المهرطقين يجلسون مسترخيين فى الركن المعتم من الغرفة، حاولت الذهاب لهم فتذكرت البحر والقرد، اقتربت أكثر فوجدت أبى بينهم ويشاور على، وعندما جريت للجانب الأخر وجدت أمى وأخوتى وبينهم أبى يشاور على أيضا.
لم أكن أريد أن أخرج من هذه التجربة وعلى جسدى غرائها دواء لجروحى وفى ذهنى تدوى أصواتها. أن الأقدار لا تعطينا ما نسعى خلفه، لذا فالأقدار وهم، لم نصنعه بأنفسنا، أنتم لا تعرفون ما أستطيع فعله، حتى وأنا مقطع الأوصال، تظنوها محض تفاصيل قد تبطئ من دوران العجلة أو تسرعهاولكن لا توقفها، أما أنا أسطيع أن أفعل أكثر، أن أجعلها تنحرف.
فعندما صارعت جلجامش على أبواب مدينة آور القديمة، لم أستطع أن أتغلب عليه، فحنوت وجعلت نبض قضيبى يلمسه فأنحرف الى طريقى. هل جعلت تفهمنى؟ هل فهمت أنا نفسى؟ هنا شعر الجنى أجدف فألتهمنى ولبست فى بطنة بضع سنين.
هناك وجدت نساء كحور العين، نساء لا تستطيع وصفهن لفرط جمالهن لهذا نطلق عليهن حور العين، شبقات، ناعمات، بضات، هذا من بعض ما فيهن. ظللت أسبح بحمدهن حتى لفظنى الجنى. روعتى الطريقة التى نطق بها أسمى ولفظنى بها. كانت نجاة معذورة، لا تعرف كم لبست فى بطن الجنى، لعقت جروحى لتخفف ألمى حتى شفيت وعندما هممت بها وهمت بها، فاجأا سيد القصر ومعه الجنى محبوس فى قارورة. فقدِّ قميصى من دبر ليمنعني عن نجاة.
حتى الآن إيمانى الوحيد أن مضاجعتى لنجاة هو نهاية الأشياء السرية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*من مجموعة قصصية بعنوان “ثلاثة تمارين كتابة لميلان كوندرا” تصدر قريباً.
خاص الكتابة