***
كانت عربة مصنع الثلج تأتي مرتين في الأسبوع محملة بألواحه، وبينما تشتري أمي لوحاً أقترب من طرف العربة ليبللني الماء البارد، سألت كل من حولي ما هو الثلج فقالوا “ماء مثلج” وكانت تلك مسألة غير قابلة للفهم. كان هناك علاقة بصرية وقيمية بين قالب الثلج وقوالب السكر، ربما البياض واللمعان تحت الضوء، ربما لأننا تعودنا على الحصول على قطعة ثلج أو قطعة سكر كمكافأة لأننا نسمع كلام الكبار.
تكسر أمي لوح الثلج وتضع القطع الصغيرة في “الكولمان” وهو جهاز دائري غطاءه من فوق وله صنبور نصب منه الماء البارد في الأكواب، كان يوضع على كرسي خشبي كعرش خصوصي يبعده عن الأرض. نستخدم الماء البارد بحذر خصوصا إذا كنا نتوقع ضيوفاً وعندما ينتهي يبدأ السؤال لماذا تأخر بائع الثلج الزفت. بيوت الموظفين فيها كولمان، لهذا كان عادياً أن تقف فلاحة على باب البيت لتطلب قطعة ثلج لتضعها على رأس ابنها المريض، فيتحول الثلج من مجرد ماء مثلج إلى شاهد على التكافل الاجتماعي.
كنت أحسب أن كل المصريين من جيلي يتذكرون مشهد العربة والألواح والنقط الباردة، مدام شوشو من مواليد سنة 52 في أسرة برجوازية قاهرية وقالت لي ببساطة أن أمها تزوجت سنة 50 بثلاجة لونار أمريكية، بينما كانت جدتها قد اشترت في الأربعينيات ثلاجة فيلكو أمريكية أيضاً؛ هذا يعني أن ألواح الثلج ليست مشهداً في ذاكرة الجميع، إنها جزء من ذاكرة الطبقة التي أنتمي إليها؛ طبقة لم تمتلك ثلاجة حتى منتصف سبعينيات القرن العشرين، عندما أصبح هناك إعلان يومي في التليفزيون الأبيض والأسود عن “الثلاجة إيديال” والتي كانت توصف بأنها (فخر الصناعة المصرية).
***
أستخدم كلمة “ثلج” للإشارة إلى ” آيس” و “سنو”؛ هذا ما توفره لغتي الأم، ليس غريباً أن تعكس لغة ما زهداً تجاه مشهد أو ظاهرة طبيعية، ليس ذلك فقراً في اللغة العربية التي تحتوي على مئات الكلمات لوصف كل ما يخص الصحراء، إنه فقر في توفر مشهدية بصرية داخل ذاكرة العربي القديم الذي لم ير لا آيس ولا سنو في الجزيرة العربية إلى أن تم الفتح الإسلامي لمناطق يوجد فيها شيء من هذا القبيل، توجد في العربية كلمة أخرى “الجليد”، كلمة – مصطلح تشير إلى مرحلة في التاريخ “عصر الجليد”.
نحن نقول: ضع الثلج في العصير- ندفة تلج، يسقط الثلج على جبال الروكي، كرة الثلج التي تتزايد، شخص بارد كالثلج، كمادات الثلج جيدة للطفل الذي حرارته مرتفعة، أكواب الكريستال رائقة كالثلج…إلخ.
لا أتذكر أني قرأت في الشعر العربي قبل الإسلام أي صورة تحتوي على مشهد ثلج، شاعر ذلك الوقت لم يعرف إلا الصحراء ورمالها وكان أبعد ما يصله خياله هو البحر. ولكن إحدى معجزات النبي محمد كانت “الإسراء والمعراج”، حيث أخذه جبريل على ناقة من المسجد الحرام في مكة إلى المسجد الأقصى في القدس ليصعد من هناك سبع سماوات ويقابل كل الأنبياء السابقين عليه. ولأنها معجزة فكل ما فيها مفتوح لإضافات المفسرين ولإبداع الخيال الغرائبي ولا يمكن تصديقه إلا بقوة القلب والإيمان بالطبع؛ لهذا فمحمد طبقاً لكتاب الجلالين ( رأى في إحدى السماوات عزرائيل ملاك الموت. بلغ من ضخامته أن كان ما بين عينيه مسافة سبعين ألف يوم وكان يسجل في كتاب ضخم أسماء من يولدون ومن يموتون، ورأى في سماء أخرى ملاكاً ضخماً نصفه من نار ونصفه من ثلج). لا أعرف أي نصف كان من الثلج في خيال متلقي هذه القصة التي عاشت 14 قرناً قبل أن أقرأها وأنا طفلة، ولكني تخيلت دائماً أن الجزء الأسفل ثلج والأعلى نار، تخيل العكس صعب بالنسبة لي لأننا نقول أن عينيه فيها شرر دلالة على الغضب، أو أن رأسي يغلي دلالة على التفكير العميق أو الصداع.
***
وفرت لبنان في عقد السبعينيات مكاناً رخيصاً لتصوير بعض الأفلام المصرية الهابطة، هنا عليّ أن أذكر أن مصر كانت بالنسبة للعرب هوليوود الشرق بينما لبنان كانت في المخيلة المصرية قطعة من الغرب ( بيروت باريس الشرق، جمال اللبنانيات جمال إيطالي، لبنان المتحررة ذات الطبيعة الساحرة)، يذهب فريق الفيلم المصري إلى لبنان بدون سيناريو مكتوب، الطبيعة هي البطل، يبدأ الحب عادة في الربيع ويكتشف البطلان استحالة الزواج بسبب رفض الأب أو ظهور شرير الفيلم الذي يريد الفتاة لنفسه فيسقط الثلج. سقوط الثلج رغم كل جماله هو خلفية البرد والوحدة والحزن وانتظار بعض الدفء. هذا هو الثلج المحلي الذي وظيفته هي المشاركة في صنع دراما حارة ولا يخلو من افتتان بأبطال هوليوود. قبل ذلك كان وجود رياح وعواصف شديدة في السينما المصرية هو خلفية مشاهد صناعة جريمة خصوصاً إذا كانت اغتصاب أو خيانة جنسية.
***
تلج طفولتي كان مجرد قطع من الآيس، أنا لم أر السنو حتى تجاوزت الثلاثين ولهذا أجد متعة في هذه اللحظة في تذكر كيف شاهدت فيلم لاف استوري، إعجابي بطاقية البطلة جنيفر كافالري وهي تتدحرج بجانب البطل داخل ساحة جامعة هارفارد، السنو كان فكرة عن البياض والاختلاف وربما الغرب، لكن لم يكن فكرة عن البرد. ما زلت أذكر طرفة قرأتها في باب طرائف وغرائب في جريدة الأهرام ولا أدري إن كان لها أي أساس تاريخي ” طلبت الإمبراطورة الروسية “أنا ايفانوفا” أن ينحت لها مدفعان من الثلج وقد أطلقت النار منهما عام 1740″ بالطبع ما زلت أريد أن أعرف كيف أطلقت النار من الثلج أم أن القذائف كانت من الثلج أيضاً.
***
في مدينة بوسطن الأمريكية طلعت فوق سطح الشقة التي كنت أسكنها في ديسمبر 98 لألمس لأول مرة في حياتي ثلجاً حقيقياً يسقط من السماء، كانت هناك بهجة في أن أمد لساني لتسقط عليه ندفة، كل ندفة لا تشبه الأخرى كأنها رغبة نجمة لا تشبه أخرى في لمس إنسان ما على الأرض. جمال الثلج بدا في أنه عابر وسيتلاشى وسيذوب. لكني في آخر يوم في نفس الشهر وصلت إلى مدينة إدمنتن الكندية لأعيش، حيث الثلج مقيم في درجة حرارة ظلت تتراوح بين 28تحت الصفر إلى 5 تحت الصفر حتى نهاية ابريل. هذا هو الثلج الذي يشبه الصحراء، إنه جزء من تفاصيل يومك، يغطي كل شيء البيوت والأشجار والسيارات ويتحكم في جسدك فتغطي كل سنتيمتر فيه، وفي أحذيتك فتختارها لا لجمالها بل لقدرتها على حمايتك من السقوط.
مرة قلت لأبي بالعربية عبر التليفون:”هنا تلج”، فرد ببساطة “هنا تلج برده والله”، أبي كان يصف جو مصر في يناير أي 15 درجة فوق الصفر بأنها برد كالثلج، هل هذا مجاز؟. وهل كان ممكناً في مكالمة قصيرة ومحبطة أن أخرجه من مجازه ليصدق أن هناك ثلجاً فيزيقياً؟.
***
في مدينة إدمنتن حيث أعيش يوجد أكبر مول في العالم ويسمى ويست إدمنتن مول، هذا المول مدينة داخل ادمنتن التي صنعت على يد الدولة وشركات البترول لتخرج من التصميم الورقي إلى الأرض، المول يوجد فيه كل شيء من فنادق إلى محلات إلى مطاعم وسينمات وملاعب بالإضافة إلى بحر، أقصد ووتر بارك؛ مياهاً دافئة وفيها أمواج اصطناعية، إنها فانتازيا أن تنسى أين أنت لساعات حيث يمكنك أن تذهب للسباحة وتخرج لتواجه الثلج والبرد في الخارج محصناً بالبالطو والطاقية والقفازات.
في مدينة دبي أيضاً بنوا في أحد أكبر مراكز التسوق في العالم منتجعاً جليدياً “يسقط” فيه الثلج طوال العام، يتزلج الناس على تلال صناعية ويشعرون بالبرد المستورد ويخرجون منه ليفاجأوا بالحر الشديد في الخارج. ربما يكون البحر والتل الثلجي هما أحدث معجزات الرأسمالية العالمية وتكنولوجيتها، لم يعد السفر إلى مكان آخر هو الطريقة الوحيدة لتختبر جسدك في مناخ مختلف، أصبح الإيهام بتلاشي الجغرافيا هو البديل، سيصنعون الدفء والبحر والثلج وسيجعلونهم متجاورين تحت نفس السقف كأن مراكز التسوق يجب أن تكون هي مراكز السعادة.
***
ماتت عايدة حمزة في يناير سنة 2002، سيدة مصرية هاجرت مع زوجها المهندس وعاشت لتربي أولادها في إدمنتن، كانت في منتصف أربعينياتها وهزمها السرطان بعد صراع طويل، كنا مجموعة من نساء الجالية المصرية نجلس في ركن قاعة العزاء نشرب القهوة ولا نجد ما نقوله باعتبار أن موت السيدة كان متوقعاً وربما أنها استراحت من العذاب. بدأت إحدى الموجودات تحكي تفاصيل الدفن الذي حضرته في الصباح ، فجأة وبمجرد أن ذكرت أن الرجال تعبوا كثيراً في إزاحة الثلج وإقامة حفرة للجسد في الأرض انفجر في هذا الركن من القاعة هيستريا من البكاء والنحيب. لابد أننا تصورنا مشهد جسد عايدة تحت ركام من الثلج. لابد أن خاطراً لا منطقياً من قبيل أنها ستكون باردة ووحيدة مر بخيال البعض. بدا لي أن الثلج أكثر وحشة من التراب.
***
عندما زرت جبال الراكيز للمرة الأولى كانت مغطاة تماماً بالثلج وكنت حامل في الشهر السابع بابني مراد، تذكرت استديو العائلات وتخيلت كم سيكون رائعاً لو اختارت أمي خلفية الجبال لصورتنا معاً، وكم سيكون مليئاً بالمعنى أن تكون الجبال المعلقة من أعلى في سقف استديو في مدينة صغيرة في مصر هي نفسها جبال الراكيز التي أقف أمامها الآن. إنها رغبة غير مفهومة في تثبيت لحظات من الماضي والحاضر والبحث عن حيوات أخرى لها هنا وهناك وإلى الأبد.
أصبحت جاسبر وبنف بجبالها وثلجها أماكن إجازات اعتيادية بالنسبة لي ولأسرتي حيث أن بيتنا يبعد ثلاث ساعات فقط عنها. أحياناً أكون هناك وأحلم بأن أكون في مدينة كبيرة مليئة بالناس والمقاهي والتلوث والضجيج، كأن الثلج يشفط الحياة ويبلع الصوت وكأنه في لانهائية جماله ونصاعته رديف للموت. أحياناً أقف أمامه بجلال وأفكر في كل من مروا من هنا وكأنهم تركوا نظراتهم فوق المشهد لتدل عليهم.
في آخر رحلة للجبال وقفت مع مراد أمام شلال متجمد، كان ينظر بانبهار إلى المياه التي تجمدت قبل أن تصل إلى الأرض محتفظة ما زالت بتموجاتها عندما سألني “ماهو الثلج”؟. أجبت ببساطة بأنه “توقف الزمن” والغريب أنه لم يستفسر بل هز رأسه وكأنه يفهم ما أقصد.