د. صلاح السروي
منذ النصف الثاني من السبعينيات أخذ المشهد الثقافي المغربي في لفت الأنظار بقوة، ليس فقط، بسبب تعدد الإصدارات وتتابعها. ولكن، أيضا، بسبب ظهور عدد كبير من الكتاب والمفكرين والباحثين المجيدين، الذين برزت من بينهم أسماء كبيرة ولامعة، وأصبح أصحابها يعدون من أهم المفكرين والنقاد العرب.
ولقد تجلت أهمية هؤلاء المفكرين والنقاد في قدرتهم علي النفاذ، بالتحليل والتشخيص، إلي أدق مشكلات الحيز الثقافي والأدبي العربيين. وكذلك في قدرتهم علي ممارسة التفاعل مع مجمل رموز الحركة الثقافية والنقدية العربية.
ولقد تعددت وتنوعت اطر الممارسة النقدية المغربية، مابين الترجمة والدراسة والبحث لأحدث النظريات النقدية في الغرب – وخاصة فرنسا. مستفيدة، في ذلك، من القرب المكاني، وتلاشي حاجز اللغة. بحيث غدا المغرب نافذة رئيسية تدلف منها هذه النظريات إلي المحيط الثقافي العربي، بكامله. وشمل ذلك معظم مجالات الدرس النظرى والتطبيقى. وأخذ هذا الأخير علي عاتقه مهمة كبرى، ألا وهى، محاولة متابعة وتقييم النتاج الإبداعي العربى، في مختلف أشكاله.
ولقد احتلت الرواية موقعا مهما في هذه الممارسة النقدية. وتجلي هذا الموقع في نتاج بحثي وافر، فاق غيره من الفنون الأدبية الأخرى. وفى هذا الإطار أولت الممارسة النقدية المغربية اهتماما خاص بالرواية المصرية. سواء، باتخاذ نتاجاتها الجيدة نماذج للتطبيق في الدرس النظري، جنبا إلي جنب مع باقي نتاجات الرواية العربية، أو بإيلائها اهتماما خاصا في المتابعة النقدية والتحليلية.
ويهدف هذا البحث إلي محاولة التعرف علي أشكال التناول النقدي المغربي للرواية المصرية، وأثر هذه النشاط الثقافي النقدي، المرتكزة علي تطور النظرية النقدية في الغرب، علي استخراج دلالات مختلفة وطرح مقاربات جديدة للتراث الروائي المصري.
ولقد خص البحث بالاهتمام كتابي الدكتور محمد برادة: “أسئلة الرواية – أسئلة النقد” 1996م، و”مثل صيف لن يتكرر” 1999 م. وكذلك كتابي الدكتور سعيد يقطين”تحليل الخطاب الروائي” 1989م، و”انفتاح النص الروائي”1989م، وأخيرا الدراسة النظرية لشعيب حليفي: “مكونات السرد الفنتاستيكي” المنشورة بمجلة فصول ربيع 1993م.
وقد قسم البحث مادته إلي النقاط الثلاث التالية:-
المقاربة السوسيوثقافية.
المقاربة التحليلية.
المقاربة التنظيرية.
وذلك، في محاولة للإحاطة بمجمل المقاربات الممكنة في التناول النقدي للرواية المصرية.
أولا : المقاربة السوسيو ثقافية:
يمكن اعتبار كتاب “مثل صيف لن يتكرر”، لمحمد برادة نوعا من المذكرات الشخصية، التي أخذت، في جزئها الأول، طابع رواية السيرة الذاتية (حتى ص 145)، وهي كلها تدور حول فترة تلقي العلم التي عاشها (حماد) بطل الرواية، ورفاقه من الطلاب المغاربة في مصر من عام 1956م وحتى بداية الستينيات.
والرواية تطرح رؤية لمدينة القاهرة بعين الطالب المغربي الذى يحاول اكتشاف روحها الكامنة خلف “أسيجة المباني” وفى “وجوه البشر”. وذلك من خلال عدة علاقات: (نسائية)، وسياسية، وإنسانية. وذلك، بالتضافر مع اجترار الهم الوطني المغربي، والقومي العربي، في زمن يتميز بأوضاعه وأحداثه ذات الطبيعة التاريخية الانعطافية. وذلك، بما يشهده من تحولات سياسية عاصفة. فهو زمن التأميم وحرب السويس وحركات التحرر التى انتشرت فى العالم الثالث، انتشار النار فى الهشيم.
والرواية في ذلك تشتبك مع ما يمكن تسميته برواية “الرحلة إلي الآخر”، في الأدب العربي. تلك التي ربما كان روادها الأوائل: توفيق الحكيم بروايته” عصفور من الشرق” ثم سهيل إدريس بـ “الحي اللاتيني” ثم الطيب صالح بـ ” موسم الهجرة إلي الشمال”.
ولكن الفارق، هنا، أن مدينة القاهرة، التي لا تبدو مختلفة، من حيث الوظيفة الجمالية فى السرد، عن باريس أو لندن فى الأعمال السابق ذكرها، بيد أنها لم تكن تمثل، لدى أبطالها، إلا امتدادا للمغرب، فهم هنا لم يشعروا بأنهم أجانب، وأهلها لم يعاملوهم باعتبارهم غرباء. فلم يكن “الآخر”، هنا، إلا امتدادا نوعيا لل”أنا”. بل كان مرآة تنجلي فيها الذات أمام ذاتها وتتعمق فيها كينونتها.
ومن ثم تتحول الرواية إلي قراءة في تحولات اللحظة التاريخية الراهنة، في مصر. في محاولة لفهم ما تمثله التجربة المصرية، وتأثيرها على غيرها من نزعات التحرر والاستقلال فى تجارب المنطقة والعالم الثالث.
وعند المنتصف تقريبا، (من ص 151) يأخذ الكتاب بعدا جديدا عندما يتحدث عن مجموعة من النتاجات الثقافية المصرية المواكبة لهذه المرحلة. مثل رواية ” أفراح القبة” لنجيب محفوظ. وبخاصة عن تيمة اقترحتها الرواية تحت مسمى: “الميت الذي يراقب الأحياء”. التى يمثلها بطل رواية نجيب محفوظ : “عباس كرم يونس”، وهو ذلك المؤلف المسرحي الذي قرر الانتحار بعد نجاح مسرحيته الأولي، إذ لم يستطع احتمال جفاف القريحة الذي أصابه بعدها، فأضحى جسدا بلا روح ولا حياة. ولكنه بعد نوم عميق، يستيقظ، وقد اقلع عن نية الانتحار؛ ليأخذ في مراقبة حياة الآخرين وقص حكاياتهم.
أيضا يتم تناول شخصية سعيد مهران في رواية “اللص والكلاب” لنجيب محفوظ، تحت هذه الرؤية، وترى فيه الصوت الذي ينهي حلم الوفاق بين الشعب ودولته الوطنية. عندما رفع صوته منبها، إلي “لخلل الموجود في الأسس التي كانت تسند البنيان”ص 157
كما تشير رواية برادة الى أن هذا المنحى يتواجد، أيضا، في رواية “الشحاذ”، متمثلا فى شخصية (عمر حمزاوي)، وهو يبحث عن “دودة” القلق واللاجدوى المتغلغلة في أعماقه، بينما جسده يبدو سليما معافى. فهو يريد أن يجرب كل شيئ خارج عن اللياقة و المواضعات وعقد الزواج، علَّه يكشف عن هذا الداء الغريب. وكأنه قد غدا “ميتا وسط الأحياء”. فهو يبدو كشحاذ ميت بين الأحياء، ولكنه يتمني الموت اذا لم تعد له شهوة الحياة والقدرة علي الانتماء إلي الدنيا.
وتتمثل قيمة رواية “الشحاذ”، من وجهة نظر محمد برادة، فى أنها تنقل إلي القارىء العربي ذلك التفاعل بين (العدمية)، باعتبارها نموذجا للعيش الذي لا يطمح إلي تحقيق نجاح، وبين العقيدة الأيديولوجية الرسمية الطامحة إلي تغيير المجتمع والعالم. وذلك، لأن المواطن في الستينيات قد اكتشف، من وجهة نظره، أنه لا يساوي شيئا في حساب أجهزة الدولة الوطنية (القامعة). ومن ثَّم، فهو لا يستطيع أن يكون هو نفسه، بل هو مرغم علي المخاتلة والسكوت ووأد الضمير والوعي. أيضا، يعتبر برادة أن الخطاب الرسمى المسرف في الامتلاء باليقين والمكتظ بالأجوبة الجاهزة، دائما ما يكون علي حساب خطاب النفس القلقة ورغباتها المكبوتة. وهو ما يمثل “قلق الكينونة ورحلة الذات ألي أنوار جحيمها والتمرد علي العقل الضابط”.
يتناول برادة، أيضا، نص جابر عصفور، “سمادير”، و نص يوسف إدريس، “اللعبة”. محاولا استكناه وتأكيد غربة المثقف المصري وعجزه وإقصائه. مستخلصا أن كل ذلك يدعو إلي ضرورة الوعي بأهمية استقلالية الحقل الثقافي و”تكسير لعبة السمادير”، على حد تعبيره.
ففي المشهد المصري المعاصر، يرى أن الإبداع الأدبي يواصل خلخلة “لعبة السمادير”، من خلال نصوص ترفض أن تكون صدي لخطابات أيديولوجية سائدة أو دفاعا عن نموذج قيمي جاهز.
ومن ثم يشير الى الكتابات المعاصرة الشابة، التى تأتى من داخل الخرائب الروحية والشعور بالمرارة والتهميش، مستوحية الشروخ العميقة والانفصام المتزايد بين إرادة (دولتية)، تشيد التحديث من فوق، وبين أغلبية مهمشة غارقة في القهر و”الارتياب”، منصتة إلي صوت الذات الباحث عن لغته وأسئلته.
وأظن أن هذا اللاتطابق في تشخيص نزعات الذات الفردية، فى مقابل التوجهات الجماعية، والمتمثل في اختلاف النص الأدبي عن مكونات الخطاب الثقافي التكريسى الرسمي، انما هو أمر يحسب للمرحلة، لا عليها، فهو دليل خصوبة وغنى وسماح، هو ما يتيح للإبداع الأدبى القيام بدوره الطبيعى فى فهم ما يجري تحت السطح، متأرجحا بين الوضوح والاعتام، بين الضوء والظلمة ودافعا، ربما، لبلورة وضعية أكثر احتفاء بالوعي وأكثر احتراما لاستقلالية المثقف.
ثانيا: المقاربة التحليلية:
يستهل الكاتب محمد برادة مؤلَفه “أسئلة الرواية- أسئلة النقد”، بقوله: “سؤال الثقافة العربية الآن هو بامتياز سؤال الرواية بوصفها أداة معرفة و أداة تفكيك للغة الأحادية الآمرة. فهناك التباس يسود الساحة الثقافية العربية منذ 1967 نتيجة لانهيار كثير من اليقينيات و الأجوبة الأيديولوجية الجاهزة مما أدي إلي الانهيار والتقهقر تجاه الأسئلة الأساسية وفي طليعتها سؤال الحداثة المتعلقة بأولوية تفكيك البنيات الاجتماعية والسياسية والفكرية ذات الخلفية اللاهوتية، والتي ترفض الصيرورة، وتحتمي بميثيولوجيا الثبات الأنطولوجي، وهذا ما يجعل تلك البنيات قادرة علي الالتفاف علي منجزات الثقافة المنثورة والأدب المُراهِن علي حرية الإنسان، وإبداعاته اللامتناهية”.
حيث أن الرواية، عنده، لم تعد مجرد جنس أدبى غايته تحقيق المتعة واللذة الجمالية، بل تعدت ذلك لتصبح “أداة معرفية”، و”أداة تفكيك للغة الأحادية الآمرة”. بما يعنى أنها قد أضحت أداة تفجير للوعى، وزلزلة لمستقرات الوجود، على الصعد كافة. وهى، من ثم، تعد وسيلة مؤكدة لابراز مكانة التفكير والممارسة، النقديين، بازاء حركة الواقع الاجتماعى. وكذلك أضحت منصة لابراز ضرورة الحلم لمقاومة القهر والتشيؤ وثقافة التسطيح، وذلك عبر ما يسميه ب”التعدد اللغوي”.
“زينب” والنقد اللغوي:
وعلى ذلك يأخذ محمد برادة، كما قدم فى كتابه السابق، فى محاولة تقديم نوع من المقاربة النقدية مع النتاج الروائى المصرى، وبخاصة فى رواية “زينب” لمحمد حسين هيكل. حيث يرى أن ظاهرة التعدد اللغوي في هذه الرواية لاتزال تحتفظ براهنيتها، وتضعها ضمن أهم النتاجات ذات الطبيعة الاشكالية فى الروائية المعاصرة.
وذلك، من زاوية أن رواية “زينب”، خلافا للنصوص الروائية التي كتبت قبلها، والموسومة بالنبرة الوعظية، الأخلاقية، جاءت مستجيبة للمقاصد الفنية والفكرية للكاتب وتصوراته، مؤكدة على حق الذاكرة في استعادة مخزونها من (اللغات) والخطابات والمشاهد، والشخوص التي لا تنفصل عن كلامها.
ولو تركنا الرؤية النقدية التعميمية، التي وضعت رواية “زينب” ضمن خانة الرواية الرومانسية، المستوحية لموضوع “الريف والطبيعية”، لأمكننا أن نستكشف في زينب صوت الذات المتلفظة، المنبثقة عن رغائب مكبوتة، والتى تظهر عبر مخزون الذاكرة اللغوي، لدى الذات، وعبر الكلام الشفاهي الجاري علي ألسنة شخصيات متباينة اجتماعيا وثقافيا. حيث يبرز لجوء الكاتب إلي استعمال العامية والصيغ الشفاهية في جزء مهم من حوارات الرواية باعتباره، وقبل كل شيئ، انتصارا .. “للذاكرة اللغوية في مظهرها الكلامي، واختيار فني في رسم الشخصيات التي تنفصل عن تلفظاتها”. ص33
وبرادة لا يقدم زينب بوصفها رواية مصرية، ولكن بوصفها البوابة الأولي الواعدة المبشرة للرواية العربية التي تجسد، بذاتها، وبكاتبها، الذي تخوف من مجرد وضع اسمه عليها، وضعية جديدة في الثقافة العربية .. وضعية الحراك والحوار في مواجهة الثبات والتلقين، اللذين مثلهما كتَّاب كانوا يرون الأدب يوجد، فقط، فيما أنتجه الأقدمون مثل: مصطفي صادق الرافعي، الذي يقول:
“أنا من أجل ذلك لا أزال إلي الآن مع الأدب العربي في فنه وبنيانه أكثر مما مع الحكاية ولغتها وعواطفها فأكبر عملي إضافة الصور الفكرية الجميلة إلي أدبنا وبياننا متحاشيا جهد الطاقة أن أنقل إلي كتابي دواب الأرض أو دواب الناس أو دواب الحوادث فإن الكتب ليست شيئا غير طبائع كتابها، تعمل فيمن يقرأها عمل الطباع الحية فيمن يخالطها والرواية إذا وضعها كاتب فاجر- فهي عندي ليست رواية بل هي عمل يجب أن يسمي في قانون العقوبات فجورا بالكتابة” (في مقالة نشرها سنة 1934م بمجلة الرسالة بعنوان “فلسفة القصة ولماذا لا أكتب فيها؟” نقلا ممن كتاب د/ محسن جاسم الموسوي: “الرواية العربية: النشأة- التحول” بغداد 1986 ص1986 ص 51.)
يستخدم برادة مصطلح “الرومانيسك”، وهو مصطلح هيجلي يعني التغيرات المجتمعية، وهو عند رولان بارت يعني الدخول في الدال والتقهقر في المدلول ص189 .. ويعرفه بأنه: “قد يعني التحول الحياتي المعيشي التاريخي اليومي. حيث أن الرواية قد أخذت منذ الأربعينيات تقدم تحليلا متنوعا عن “الرومانيسك” المجتمعي، ذي التجسدات المتعددة والمتشابكة علي امتداد الوطن العربي” ص 21 (…..) “وهكذا عبر أسلة الذات ومساءلة الآخر واستكشاف علائق الفرد الموضوعية المرتبطة بالمجتمع يأخذ الرومانسيك أبعادا تخيليه تضع الرواية علي مسافة تفصلها عن اندماج متوهم مع الواقع وخطاباته البربرية”. ص22
ومن ثم، يأخذ في تحليل عدد من الروايات العربية والمصرية التى تدور حول ما يسميه بنموذج “شجرة محمد علي”، الذي يعيش علي مكافآت الاستقبال ومظاهرات الانتخابات.
ومن الروايات المصرية” بيت الياسمين” لإبراهيم عبد المجيد الذي ينتهي إلي أنها تقدم، إلي جانب بضع روايات عربية أخري، رصدا تفصيليا لحالات التفتت والتحلل التي يبدو فيها الكلام مفصولا عن الفعل. ويصبح الإنسان، داخلها، مشلولا، متفرجا، مسحوقا، تحت وطأة الأفعال اللامطابقة للنفس والرغبة، والمطمح. انه نوع من الاغتراب المألوف، أكثر فأكثر، في مجتمعاتنا العربية الراهنة. ومن ثم ينتهى الى أن “المتكلمين وكلامهم في بيت الياسمين يقدمون عناصر غيبية لقراءة بعض التحولات الطارئة علي خريطة الخطابات الأيديولوجية في المجتمع المصري”. ص113
وبعدها يأخذ الكاتب في تحليل رواية “النزول إلي البحر”، لجميل عطية ابراهيم، تحت عنوان “الأسئلة الصعبة في عهد الانفتاح”. ومن ثم، رواية “ترابها زعفران” لادوارد الخراط، و”مقام عطية” لسلوى بكر، و “عطش الصبار” ليوسف أبو رية. حيث تبرز منهجية واضحة في تحليل هذه الروايات، وهي منهجية البنيوية التوليدية تلك التي تراوح بين طرح النص في ضوء العلاقات الرابطة بين عناصره ومكوناته الداخلية وترابطاته واحالاته الخارجية.
ثالثا: المقاربة التنظيرية
تعد رواية “الزيني بركات” لجمال الغيطاني الرواية الأثيرة لدى د/ سعيد يقطين فقد تناولها في كتابه “تحليل الخطاب الروائي”، وكتابه “انفتاح النص الروائي”، وأخيرا في كتابه “الرواية والتراث السردي”. حيث لفت انتباهه في كل من هذه الكتب الثلاثة، زمان الرواية المفارق للزمن الحاضر، من ناحية، وتناصه مع كتابات تاريخية قديمة، ماثلة في كتاب ابن إياس من ناحية ثانية. وقد ركز في الكتابين: الأول و الثاني، علي مناطق الزمن والتفصيلات الزمنية الصغيرة، وخصوصية “زمن الخطاب”، ثم خصوصية “صيغ الخطاب”. وأخيرا، “خصوصية الرؤية السردية”. ففى “انفتاح النص” يتحدث عن “التفاعل النصي” في “الزيني بركات”، عن طريق المقارنة بين شخصية (الزيني) وشخصية (ليون الأفريقي)، وهو بطل رواية بالعنوان ذاته، لأمين معلوف. أما في كتاب “الرواية والتراث السردي”، فيتناول الرواية، ذاتها (الزينى بركات)، من حيث ” العنوان – الزمان- الخلفية الحكائية” طارحا فكرة التوارد النصي بين الكاتبين؛ حيث يلتقيان حول فكرة الهزيمة الكبرى، التي أثارت مختلف الخطابات، وألهبت مختلف المشاعر.
وفي هذا الكتاب الأخير (الرواية والتراث السردى)، أيضا، يقوم سعيد يقطين بدراسة رواية “ليالي ألف ليلة”، لنجيب محفوظ. مقارنا إياها بقريناتها عند الكاتب نفسه، مثل “رحلة ابن فطومة”، و”ملحمة الحرافيش”. متحدثا عن مبدأ الحكي، في الأصل القديم، و(الرواية المحفوظية). ومتوقفا عند المفاهيم المتشابهة والتحولات المتقاربة. فكيف يتحول نص “ألف ليلة وليلة” إلي نص “ليالي ألف ليلة”، عبر ما يسميه ب”صيغة التعالق”. ويقصد بها ارتباط النصوص ودخولها فى علاقات يمكن رصدها. فهناك ما يمكن تسميته ب”النص المتعلق” و”النص المتعلق به”. ومن ثم، يتحدث عن كيفية اشتغال هذا “التعالق” النصي، في “ليالي ألف ليلة”. وذلك من حيث : “بناء الرواية” و”مبدأ الحكي” و”نواته”.
ليصل في النهاية إلي خلاصة مفادها أن نص نجيب قد انبني علي: مشابهة النص القديم، في مادة حكايته، وبعض مميزاته النوعية، وبالأخص، فى بعده العجائبي الناظم والموَلِد للعديد من الأحداث والشخصيات. وهو ما يؤدى الى تحويل النص القديم إلي نص جديد مغاير.
بيد أن علاقة رواية نجيب محفوظ ب”الليالي” الأصلية، لم تتعد حدود هذا “التعالق النصي” إلي أنواع أخري من التفاعل ك”المناص” و”الميتانص”، الذي نجده مهيمنا بشكل أساسي في كثير من نصوص الرواية العربية الجديدة. وفى الأخير فإن كل تقنيات الكتابة الروائية التي وظفها محفوظ في رواياته نجد لها تمثيلات في نص “الليالى”.
ويمكن أن نخلص فى الختام الى عدد من النقاط
– احتفاء النقد المغربي بالرواية المشرقية عامة والمصرية خاصة باعتبارها الرواية التي أسست فن الرواية في الأدب العربي.
– تعدد أشكال التناول النقدي للرواية المصرية من سوسيو – ثقافية إلي تحليلية إلي تنظيرية، وان تفوق الأخير علي النموذجين السابقين عليه.
– أثرت الاتجاهات النقدية الحديثة وبخاصة البنيوية، وما تفرع عنها من علوم تحليل الخطاب والألسنية والنصية، في طرح قراءات مغايرة ومتجددة لأسئلة الرواية المصرية.
– شاع استخدام معجم لغوي ومصطلحي غير شائع، مما أدي إلي استغلاقه –أحيانا- علي القارئ غير المتخصص. إلي جانب انه ساد في بعض الأحيان تغليب النظرية علي النص، بعض ممارسات المقاربة التنظيرية.