جمال مقار
عند الانتهاء من قراءة رواية غيوم فرنسية يتركنا النص وقوفا أمام أسئلة كثيرة، جميعها أسئلة مهمة وشائكة أيضا، وسيكون أول انطباع لمن قرأ الرواية هو أن الكاتبة لابد أنها قد واجهت نفسها بهذه الأسئلة ، وبذلت من الوقت والجهد في سبيل الحصول على إجابات عليها ما يكفي لإنتاج هذه الرواية دون أن تصل لإجابة واحدة قاطعة.
وإليكم بعض من هذه الأسئلة التي أظن أن كل من قرأ العمل أدركها:
1ـ هل تبطل الهوية الدينية المشاعر الوطنية وتزيحها جانبا وتصبح بديلا قويا عنها؟
بالطبع هناك إجابات متعددة لهذا السؤال، إجابات تذهب بصاحبها إلى ما يمليه نوع الفكر الذي ينتمي إليه ، لذلك كانت الإجابات دائما تعبر عن عاطفة ما كامنة داخل النفس، خذ مثلا لذلك ما أفاد أو لم يفد به سيد قطب عندما أجاب على هذا السؤال إجابة بما يتوافق مع فكره بقوله:
ـ ما الوطن إلا حفنة من تراب عفن.
لتبقى العبارة واحدة من العبارات الأكثر تعبيرا عن موقف أصولي يعلي الدين على الوطنية. بينما على الجانب الآخر هناك عشرات ممن اشتعلت عاطفتهم الوطنية وعبر لسانهم عن هذه العاطفة بعبارات تمجد الوطن، ولعل ما يحمله بيت الشعر الذي جاء في سينية أحمد شوقي ما يغني عن أي قول آخر:
ـ وطني لو شغلت بالخلد عنه نازعتني إليه في الخلد نفسي.
2 ـ شخصية الجنرال يعقوب كشخصية خلافية تراوحت حولها الآراء من النقيض إلى النقيض تظل سؤالا داخل الرواية يجيب عليه أبطالها كل بما يراه : فضل الله الذي يتخذه مثالا له يراه بطلا مغوارا ، بينما زوجته محبوبة تراه قبطيا فاجرا ويؤيدها في ذلك رجالات الكنيسة القبطية
3 ـ هل اضطهاد الأقليات يسوغ لها الخروج عن مقتضيات الوطنية متى أتاح لها الظرف التاريخي ذلك؟
2
لا تفيد الرواية جوابا قاطعا إنما تعرض في حياد صورا من التاريخ التي أفصحت عن وقائع دامية تحمل فيها الأقباط اضطهادا من المسلمين نتيجة لأن الحملة الفرنسية تنتمي إلى بلد من بلدان الغرب المسيحي.
الفروق المذهبية داخل الدين الواحد تنحي النصوص جانبا وتعلي من قيمة التفسير الشخصي أو الأبوي ليصبح أداة تفريق بين أبناء العقيدة الواحدة يقسمها إلى كافر ومؤمن بحسب الإيمان بالتفسير الكهنوتي للنص. ويبرز ذلك في القسم الثالث من الفصل الأول في الحوار الذي دار بين أبينا عبد الملك كاهن كتيسة مارمينا بمصر القديمة والكاهن مرقص الذي يرى أن التعاون مع الفرنساوية هو خيانة للإيمان الأرثوذكسي ممثلا في الخيانة أثناثيوس ديسقورس ( أثناسيوس هو واضع قانون الإيمان الذي أقره مجمع نيقيه في 325 م ردا على ما عرف ببدعة أريوس، ديسقورس هو أسقف الإسكندرية الذي اختلف مع الأساقفة الملكانيين في مجمع خلقدونية عام451 حول طبيعة المسيح، الذي انتهى بانشقاق الكنيسة إلى كاثوليكية بمعنى جامعة، وأرثوذكسية بمعنى سلفية أو أصولية )
وبهذا يمثل الكاهن مرقص الموقف الرسمي للكنيسة الأرثوذكسية برفض الحملة الفرنسية من موقف مذهبي ، بل ورفض أي صورة للتعاون معها بما في ذلك رفضها لتعاون المعلم أو الجنرال يعقوب بالإضافة إلى موقفها منه بسبب خروجه عن الملة وزواجه من امرأة من غير جنسه ، وعموما يمكن القول صراحة أن الكنيسة القبطية إبان الحملة الفرنسية كانت من الضعف والذكاء معا بحيث لم تكن تبرز نفسها كلاعب أساسي على مستوى الأحداث
5 ـ العاطفة والدين اللذان يتصارعان داخل قصة الحب بين منصور حنين وزهرة ابنة الشيخ علي العطيفي التي تزوجت يوما من القائد الفرنسي رينيه بعد أن اشهر إسلامه وأصبحت ( مدام بورجون ثم أرملته ) بحيث غلب كلاهما العاطفة الدينية على عاطفة القلب.
***
لكننا ومع كل هذه الأسئلة المضمرة التي يطرحها العمل نقف أمام عمل أدبي يستوجب عند قراءته قراءة نقدية تخضع لأساليب النقد الأدبي ، فتبرز جوانب النجاح والإخفاق فيه .
وما يؤكد ذلك أن الرواية لم تطرح في هيئة أسئلة بل تركت لنا هذه الأسئلة لنصوغها نحن ونبحث معها عن إجابات ، لكننا قبل المضي في مقاربة العمل سنقف أمام سؤال يأتي من خارجه ويتعلق به ، هل يكون حديثنا هنا عن التاريخ أم عن الأدب؟ حيث لا مفر من تداخل الأمرين معا ربما
3
( لأنك إذا عرضت في الحكايات فإن هي إلا مظنة الكذب ومطية الهذر ولابد من مردها إلى الأصول وعرضها على القواعد )*
في ظني أن قراءة هذا العمل ستتوجب الوقوف عند الحدث التاريخي عند ورود ذكره داخل الرواية ومطابقته بما تواتر عنده لدى المؤرخين الذين تناولوه بالسرد أو بمنهجيات القراءة التاريخية وصفا وفحصا ودرسا دعونا أولا نتناول موضوع الرواية ونلقي إطلالة على شخوصها :
أولا : الزمن الروائي : تدور أحداث هذه الرواية في الفترة ما بين 1800 ميلادية إلى عام 1819 أو قل بدءا من أحداث ثورة القاهرة الثانية في 1800 حتى قدوم الكلونيل سيف ( سليمان باشا الفرنساوي فيما بعد ) إلى مصر 1819.
مشهد المفتتح يلخص بعض أحداث ثورة القاهرة الثانية في محاولة الثائرين الفتك بأقباط منطقة الأزبكية حيث يتحصن الجنرال يعقوب داخل قلعته وينجح في دحر المهاجمين ( المشهد مقتبس من تاريخ الجبرتي ) وبينما تسير الكاتبة بالنص نحو أحد الأسئلة الكبرى :
هل كان يعقوب خائنا للوطن وهو يدفع الموت عنه وعن رفاقه كما حدث لأقباط الرملة وبين السورين؟
وسيدفعنا هذا السؤال إلى النظر التاريخي لشخصية الجنرال أو المعلم يعقوب لدى المؤرخين دون أن نقف طويلا عند تفاصيل ذلك ، وسنرى أن رؤية المؤرخين لهذه الشخصية تتراوح تراوحا شديدا بين من يراه بطلا قوميا سعى لاستقلال مصر وإنشاء جيش وطني حديث ( مثلما رأى محمد شفيق غربال في مبحثه : الجنرال يعقوب والفارس لاسكاريس ومشروع استقلال مصر عام 1801 الصادر في عام 1932، وبين رؤية مغايرة تراه خائنا حتى أنها تغمز عليه بالشذوذ في علاقته بالكولونيل ديزيه كما فعل : أحمد حسين الصاوي في كتابه : المعلم يعقوب بين الحقيقة والأسطورة، الصادر في عام1988 ) وأي كان ما تناوله كلا المؤرخين سينتهي بك الأمر عند ما يعرف بالتوقف عن إصدار حكم قطعي على تلك الشخصية.
نعود لنقف مرة أخرى عند مشهد الافتتاح الذي يحمل أحد أسئلة التاريخ المصري الكبرى، وهو واحد من الأسئلة أو المسائل المسكوت عنها لما تثيره من حساسيات شديدة ، إلا وهو احتساب أقباط مصر باعتبارهم أجانب وصليبين ومناصرين للمحتل الأجنبي ، ويصور لنا الجبرتي وهو يغطي الحملة الفرنسية أنه ما إن وصل الفرنساوية إلى بر مصر ( والعامة لا ترضى إلا أن يقتلوا النصارى واليهود فمنعتهم الحكام عنهم، ولولا ذلك المنع لقتلتهم العامة وقت الفتنة )*
* مقدمة ابن خلدون. *الجزء الرابع من كتاب الجبرتي عجاب الآثار في التراجم والأخبار طبعة مؤسسة هنداوي
4
وسيبرز هذا الاتجاه ويزداد اندفاعا ويصبح على أشده إبان ثورة القاهرة الثانية على يد حسن بك الجداوي ونصوح بك وشخص يسميه الجبرتي المغربي ومعه حرافيش بولاق وهو الوقت الذي اختارته الراوية لافتتاح روايتها حيث استطاع المعلم يعقوب دحر المهاجمين لقلعته بالأزبكية .
والسرد هنا يتراوح ما بين صوت الراوي العليم الذي يصف الأحداث والمشاعر وصوت المونولوج الداخلي لمحبوبة الخائفة الحائرة أ تخرج لتبحث عن زوجها فضل وأبيها المعلم جرجس اللذين لم يعدا أم تذهب إلى زهرة صديقة طفولتها؛ أم تبق في بيتها ؟
ثم تتوالى أقسام الفصل الأول لتقدم لنا في سياحة فنية وجوه هذا العمل؛ هناك: فضل الله الزيات الذي ستوليه الراوية عناية خاصة وتمنحه دورا واسعا في روايتها ، سنراه يقرر من خلال مونولوج القسم الثاني من هو وما هي صنعته ويكشف لنا عن عمق حبه لمحبوبة وفيما يلي من فصول الرواية سنراه يغادر مع من غادروا مصر مع فلول الحملة الفرنسية على السفينة بالاس حاملا أحلامه في العودة يوما للسكن والوطن مع جيش من الفرنسيين، وستفسح له الرواية قصة حب أخرى مع فرانسواز الفرنسية وعندما يتدله معها في علاقة جنسية ينتهي العلاقة بينهما أو تتجمد تحت إحساس كاسح بالذنب لارتكابه المعصية يظل هذا الاحساس يطارده ، ثم نراه يسلك سلك الجندية مع ( فابيان ) أحد قادة الجيش الفرنسي ويصعد نجمه ويصل إلى رتبة كولونيل ، وفي خضم التجهيز للحملة على روسيا في 1812 يلعب دورا مهما ، ولكنه في مشهد ساذج يقرر والجيش على أهبة التحرك في اليوم التالي و دون مبرر درامي أن يبحث عن فرانسواز التي هجرها منذ عشر سنوات ليجدها في منطقة بلوا قد انضوت تحت علم جمعية المنذورات وهي جمعية متصوفات كاثوليك، ثم نراه قبل أن يغرق أثناء الانسحاب المأساوي للجيش الفرنسي من روسيا يوصي رقيبا هو الرقيب سيفيز ( أو سليمان باشا الفرنسي فيما بعد ) بأن يبحث عن محبوبة ويوصل لها رسالة حب فضل الله الباقي المقيم في نفسه، وقد فعل لتختتم الرواية بمشهده عند قدومه مصر يبحث عن محبوبه ليجدها وقد صارت عجوزا ويوصلها الرسالة ولما تسأله:
ـ أين دفن فضل الله ليمكن أن يزوره ابنه يوما؟
لم يفدها بجواب ليضيف إلى أسئلة الرواية سؤالا آخر.
ونعود مع الرواية إلى الخلف قليلا، لنراها في سياحتها الفنية تعود لترسم لنا وجوه الأقباط الذين خرجوا مع المعلم يعقوب إلى فرنسا ، يعقوب سيموت في اليوم السادس من خروج السفينة بالاس للبحر بحمى غامضة تاركا للربان ديزموندس رسالة ليوصلها إلى ملك انجلترا بها شبه توسل للتدخل لإنقاذ مصر من عسف العثمانلية.
5
بينما نرى الأب عبد الملك وقد تحول من قس إلى نجار ماهر سيصير له شأن كبير في هذه الصنعة ، ومن خلاله تبرز الكاتبة وجها من أوجه التناقض بين المذهبين الكبيرين للمسيحية أعني الأرثوذكسية والكاثوليكية ، حيث يظل عبد الملك يبحث عن كنيسة وقس ليعترف له ويتناول الأسرار المقدسة ، وعندما
يجد تلك الكنيسة وذلك القس سيعرف أن الأرثوذكسي عند الكاثوليك شخص لا يجوز له تناول الأسرار المقدسة بل هو بمثابة كافر .
أما شخصية منصور حنين التاجر المصري الذي يجيد الفرنسية الذي خرج مع من خرج من الأقباط الذين ذهبوا إلى فرنسا؛ لم تكلل بالاكتمال لا بالزواج ولا بغير الزواج نتيجة لغلبة المشاعر الدينية ومقتضياتها الصارمة على العاطفة ، فالعلاقة بين منصور حنين القبطي ، وزهرة بنت الشيخ على العطيفي التي تزوجت يوما من الضابط رينيه الفرنسي إبان الحملة ثم ما لبثت أن أصبحت أرملة ذلك الرينيه وحملت لقب مدام برجون ورحلت عن مصر أيضا ضمن من رحلوا على السفينة بالاس، فبعد أن أصلت الرواية أو الراوية علاقة قوية بينهما باتت تفصح عن توطد أواصر الحب بينهما ، لكن منصور حنين حين صارحها بحبه ورغبته في الزواج منها، رفضت ذلك إلا إذا أشهر إسلامه، ولما واجهها بأنها تزوجت من قبل من رينيه، تصرح أن رينيه أشهر إسلامه ولو باللسان فقط .
ثم نعود مرة أخرى لفضل الله الزيات في حديثه لأبينا عبد الملك في القسم الرابع من الفصل السابع الذي سبق الإشارة إليه، وهو يحدثه عن بحثه الدائم عن من هو نمر أفندي ذلك الذي خاطب من أجله القبطان ديزموندس رئيسه الأرل أوف سانت فنسنت اللورد الأول للبحرية الانجليزية وقدم له مشروعا لاستقلال مصر عن السلطنة العثمانية، هنا نتوقف عند سؤال كبير بل لعله أكبر الأسئلة شأنا ، وهو هل سيقبل المجتمع المصري السني السلفي الغارق حينها في الوهم والخرافة مقدم حملات أخرى أجنبية تحمل لواء الاستقلال على يد قبطي؟ أظنه وأنا القبطي على نحو ما أنه أمر يقع بين السذاجة وحسن النية لا أكثر.
فضلا عن أن المراجعة التاريخية تفيد أن مخاطبتي نمر أفندي بصفته وكيلا عن الوفد المصري كانت إحداهما للقنصل العام بونابرت والأخرى لتاليران وزير خارجية الدولة الفرنسية آنذاك .
***
بقي أن أشير إلى أن الكاتبة بذلت جهدا مشكورا ومحمودا وكبيرا أيضا في الغوص خلف الموضوع بين كتب كثيرة منها : تاريخ الجبرتي ، وكتاب محمد شفيق غربال عن الجنرال يعقوب وغيرها من الكتب التي تناولت هذه الشخصية ، كما أوضحت ذلك في الملحق الذي ذيلت به العمل، فضلا عن كتب التاريخ القبطي والصلوات المسيحية مثل الأجبية وغيرها، وأنها نجحت في زراعة بعض مقتبسات من هذه النصوص في جسد النص دون أن يشعر القارئ بغرابة أو غربة هذه النصوص عن العمل، بالإضافة إلى الجرأة على الدخول لمنطقة من مناطق المسكوت عنه .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روائي وناقد مصري
والمقال منشور بجريدة القاهرة المصرية نوفمبر 2020
روائي وناقد مصري
والمقال منشور بجريدة القاهرة المصرية نوفمبر 2020