عبد الهادي المهادي
مُكلّلا بالنّجاح عادَ من الجامعة. لم يُفكّر ذلك الصّيف فيما ينتظره من قساوة الحياة، كان بريئا لا يزال؛ فصاحَبَ المسجد، وخالط أهلهُ حتى استأنسوا به واطمأنوا له. يتذكر أنه في العطلة الماضية كان كثيرا ما يَغفل عن صلاة الفجر في المسجد، ولكنه ما إن أصبح من رواده الآن، وبعد أسبوع فقط، حتى اقترح على صديقٍ له، ثابتةٌ قدمه في الصلاةِ جماعةً، أن يجلسوا لذِكْرٍ صباحيٍّ إلى ما بعد الشروق… كان يفورُ حماسة.
ـ شْعَنْدك أخاي صفوان، طِحْتِ مْلْفراش وْلَّا… قال له صديقُه رضوان مازحا لينبّهه إلى كونه طارئٌ ويحتاج إلى تَرَوٍّ !
بعد شهر فقط، أراد الفقيهُ الرّاتبُ أن يزورَ عائلتَه في قرية بعيدة، ولكنه حار في إيجاد الرجل المناسب الذي يُمكن أن يعوّضَه في قيادة قراءة الحزب اليومي ورفع الأذان، ولأن صديقَنا كثيرا ما جلس المُصلون بين يديه يَعظُهم بعد المغرب، فإن الفقيه اعتقدَ أنه وقع على ضالته.
اختلى به ذات مساء بعد أن تأكد من مغادرة آخر مُصلٍّ؛ باسَطَهُ ولاطَفَهُ وأضْحَكَهُ بنُكتة مما تَعوّد الفقهاءُ على حَكْيِه… كان الأمرُ بالنسبة لصفوان واضحا؛ إنه يُمهّده ليطلب منه شيئا أو يكلّفه بأمر ما، هكذا خمّن.
في الأخير، خاطبه باحترام وهو يربّتُ على كتفه: وَاشْ حافْظْ القرآن أَوْلِيدي ؟
لم يدرك المَغزى الحقيق من وراء سؤاله، فأجابه على الفور: لا أسيدي، قبل أن يُضيف في اعتزاز: ولكن عندي الإجازة في الدراسات الإسلامية.
ظهرت ابتسامةٌ ناقصةٌ على ثغر الفقيه، يشوبُها نوعٌ من الأسف، لقد أُسْقِطَ في يده، فلم يَجد بُدّا من الكشف عن سريرته، لعله يجدُ حلا عند هذا الشاب المؤدب.
اِتّكأ صفوان على صارية نصفها مغلّفٌ بالخشب، بينما جلس الفقيه بجانبه مُرسِلا كلتَا رجليْه عَكسَ القِبلة… دبّرا معا مَخرجا مُناسبا، وغادرَ الفقيه وهو يَعِدُهُ بسلّة وافرة من الكرموس، وما تيسّر من البيض البلدي، بعد أن دعا له بدعوات خير.
فيما بعد، يتذكر جيدا أنه عندما خرج من المسجد وجد السماء صافيةً جدا كعيْنَيْ صَبي، بينما حلّق نَوْرَسان قريبا من أسطح المنازل على غير عادتهما، تأمّل انسياب حركتهما الصّامتة، ثم تابع طريقه إلى البيت وهو يقول في نفسه: غريب، نوارس بدون نعيق !
مع افتتاح الموسم الدراسي الجديد نشط صفوان ـ كعادته ـ في بيع الكتب والأدوات المدرسية، كانت تجارة موسمية تعوّد على مُمارستها كل عام، وكانت تُدِرُّ عليه بعض الأرباح التي تُغطّي الكثير من نفقاته لشهور، لذلك طالت سعادتُه بالحياة قليلا إلى أن استفاقَ ذات صباح على هواجسَ جديدةٍ لم يسبق له أن تذوّقها، وما كادتِ الشمس تميلُ غروبا حتى تَضَخّمَتْ في نفسه… بعد أسبوع تَقَرّحَتْ.
بدأتْ تتغيّر عَوائدُه؛ في البيت، كما في المسجد والحيّ ومع أصدقائه.
ضاقَ عليه الحالُ حتّى كاد يَـخـنُـقُـه؛ انعزل في غرفة وحيدة في السطح، بعد أن جمع كتبا ـ في صناديق كرطونية مهترئة ـ كان قد نشرها أمامه لتطوير بحثه الجامعي، وأصبح على غير عادته يسهر إلى ما بعد منتصف الليل رفقة ما صادفه من أفلام ومسلسلات، ولا يستيقظ ـ في بعض الأحيان ـ إلا على أذان الظهر، مُقفلا هاتفه حتى لا يتواصل معه أحد من أصدقائه ومعارفه الذين أصبح يضيق ببعض نصائحهم وتعاطفهم.
قال له أحدهم مرة: انتبه لنفسك، إذا لم تضع حدّا لحالتك هذه، قد يتطور الأمر بك إلى “اكتئاب”، وسيصعب عليك حينها الخروج من دوّامته !
ذات ليلة، وبينما هو عائدٌ من مقهى “حنفطة” رفقة ثلة من أصدقائه القدامى، قادهم النقاش للحديث حول “الأفق” و”المستقبل” والجريدة التي لا يَجدون درهمين لاقتنائها، أغضبَه أحدُهم لأنه تحدّث بـ”منطق الطاعم الكاسي” كما أسرّ لأحد أصدقائه.
في تلك الليلة بالضبط، وبينما هم عند مُفترق طرقٍ يتواعدون ويتوادعون، رنّ هاتفُ أحدِهم، كانتِ المُكالمةُ فألَ خير؛ أحد معارفهم يخبرهم بوجود فرصَة عملٍ مؤقتة، وعليهم، ثلاثتهم، أن يتّفقوا لمَن ستؤول… رابعُهم كان قد غادر، وهو على أية حال لم يكن ليهتمّ بها.
جميعُهم محتاجون، وينتظرون مثل هذه الفرصة التي طالما حلموا بها ليدشّنوا طريقا طويلة. وقفوا ينظرون إلى بعضهم في صمت؛ لم ينسحب أحد، فلم يبق أمامهم في الأخير سوى إجراء قُرْعَة تَـسْـتَـلُّ صاحبَ الحظ.
في الصباح الباكر، والشمس بالكاد أطلّت من مخبئها مُرسلةً أولى خيوطها في اليوم الوليد، خرج محمولا على عيني والدته وقد وقفت على عتبة البيت تُشَيِّعُه بدعوات حارّة، كانت تنطق أغلبها بلهجة أمازيغية أصيلة؛ سنوات طويلة جدا قضّتها في طنجة دون أن تتعوّد على عامية أهل المدينة، كانت ترفض أن تخاطب أبناءها بغير لغتها الأمّ.
في مقر الجمعية استلم عملا عبارة عن قائم بمكتبة يرتادُها تلامذةُ حيٍّ غارق في الفقر والبؤس، نشأ فجأة في غفلة عن الجميع باستثناء رجال السلطة ! في الغالب كان الأطفالُ يقصدون المكتبة لا للبحث والمطالعة، بل فقط ليجدوا مَن يساعدهم في إنجاز الواجبات المنزلية التي لن تَجدَ في بيتهم مَن يهتمُّ بها.
اكتشفَ أن الكثيرَ من المُكلفين بمركز الجمعية من معارفه، وبعضهم من أصدقائه القدامى، وهذا ما أفرحه، ولكنه عندما عبّر لهم ـ ذات صباح خريفي ـ عن نيّته في متابعة دراسته في السلك الثالث، وطلب منهم التّساهُل معه في التّغيّب أحيانا، على أن يُعوّضَ ذلك ولو يومي السبت والأحد، تنكّروا له، ورفضوا أن يناقشوا الفكرة من أصلها.
سنوات طويلة بعد ذلك سيحكي القصة لزوجته بنفس الحرارة التي عاشها لحظتها، قال لها بعد أن ألحّت عليه في ذلك:
جلستُ في قاعة مغلقة، أتذكّرُ أنهم دخلوا عليّ وقد مُسحتْ وجوههم من أية تعابير، وكأنهم يضعون أقنعة مُحايدة، كنتُ أعرف أن الجمعية تعاني من بعض المشاكل المالية، قلتُ مع نفسي: “لا بدّ أن حملهم ثقيل” !
عندما بدؤوا الاجتماع لم يقدموا لي شروحات وتفسيرات كما كنت أتوقّع، فلم يكونوا يعتبرون أنفسهم ملزمين بذلك، كما عبّر لي أحدهم فيما بعد، وهو نفسه الذي قال لي يومها في حَسْمٍ، دون أن يتجرّأ على النّظرَ في عيني: إما العمل أو الدراسة !
صُدِمتُ في البداية، فلم أكن أتوقع أبدا أن يحشروني في مثل هذه الضّيق، حدّثتني نفسي قبل مجيئهم قائلة: “في النهاية نبقى أصدقاء، ولا بد أن نجد حلّا ما بالتراضي”، ولكن بعد أن صَفَعَني الصّمت التّام فِقْتُ ـ متأخرا ـ وفهمتُ بأن القرار قد اتخذ في حقّي وبالإجماع!
عاش ـ كما حدّثني لاحقا ـ تحرقه الحسرة والنّدم، فيعض أصابعه إلى حدّ الألم، كلما تذكّر محاولته البئيسة استمالةَ عطفٍ كان قد هاجر صفحة وجوههم منذ دخولهم عليه.
أتذكره يوم غادر؛ كنتُ هناك أطلّ عليه من الشّرفة، صادف ذلك زيارة قمتُ بها لمركز الجمعية قصد ترتيب بعض شؤوني الخاصة، فرحا بدا لي ومُستبشرا؛ لقد اختارَ مَسلكا صَعبا في عزّ أزمته. وقفتُ أشيّعه بناظري، وهو يسلك طريقا ضيقةً مُتربَة امتدّ الشّوكُ على جانبيها، حتى وصل إلى حيث ركب سيارةَ أجرةٍ أسرعتْ في الابتعاد به مُخلِّفة وراءها الغبار… وعقولا غير مُتفهّمة.
لم يمر عليه سوى شهرين حتى اختاره أستاذه في الجامعة للمشاركة في دورة تكوينية في إسبانيا، أسرع في إعداد أوراقه، وبدا له للحظة وكأن بابا جديدا انفتح أمامه، ولكن ما فتئت فكرةٌ ثقيلةٌ أن أرّقتْه، وانقسمنا ـ نحن أصدقاءه ـ حولها: هل يعود بعد انتهاء مهمته، أم “يحرق الفيزا” ويبقى هناك يبحثُ عن مستقبل يبدو كالِحا هنا؟
عاش أياما مُتطاولةَ القلق، كانت هذه المسألة بالنسبة له بمثابة “عاصفة في جمجمة”.
قال لنا مرّة: إذا بقيتُ ـ وأشاح بوجهه كمن يُخفي دمعةً تكاد تفضح ضعفه ـ إذا بقيتُ هناك، سأخون الثقة التي وضعها فيّ أستاذي… وهو ما سيدفعه لعدم تكرار التجربة مع أحد غيري..!
لا أتذكرُ الآن كيف ودّعناه… ولكن ما أستحضره جيدا، وكأنه البارحة، أن إحساسا داهَمَنا بكون عُضو قد خُلع منّا، وهو الأمر الذي أحزننا كثيرا.
وككلّ غائب عن العين، أصبح شيئا فشيئا بعيدا عن البال، حتى لا أقول بعيدا عن القلب! أو هكذا أحسسنا أننا ـ على الأصح ـ أصبحنا بالنسبة له!
بمرور السنوات، ندرت الاتصالات، وحتى عندما كان يعود صيفا، لم يكن يبحث عن أصدقاء التَّلْمَذَة والطَّلَب؛ غريب… كيف يُطاوع الإنسانَ قلبُه التّفريط في صداقة امتدت دافئةً أكثر من عشرين عاما!
مرّات كثيرة كنتُ أتذكر فيها لحظات جميلة مرّتْ بنا معا، وكنت أتشبثُ بها بكِلْتَا يديَّ حتى لا تنفلت من بين أصابعي، ولكن ـ للأسف ـ الكثير يدفعونك دفعا لتُخفّف من قبضتك! حتى أن والدتي كانت كثيرا ما تقول لي في أسف: عْلاش صْحَابْكْ اللي مْشاوْ نْ أوروبا نْسَاوَك؟!
روى صديقه محمود ـ الذي سبقه بسنوات إلى بلاد الغُربة مُهاجرا بطريقته الخاصة ـ عن نوادر حقيقية كان صديقُنا صفوانُ بطلَها في ليالي الحي الجامعي، وعندما كنتُ أواجهُه بها، سرعان ما ينكر، ويتهم صديقه بالتلفيق.
حدثّني محمود، وله في ذلك شاهدان، أن صفوان اشتعلَ في فمه ذات ليلة ألمُ الأضراس الرهيب، وقد وافقَ ذلك حضور وجبة عشاء، يقول محمود أنه سمع صفوان يتألم بشدة ويقول: “علااااااااش أَربي غِيرْ أنا… علاش” !
في الحقيقة، وأشهد الله، لم أكن أقول ذلك، بل كنتُ أردد: أربي… أربي، ولكن صديقي محمود كان صاحب نكتة، واختلق هذه الحكاية لينتقمَ منّي بسبب خلافات كانت بيننا حول أمور تتعلق بتنظيف الغرفة وطهي الطعام والتّسوق!
ولكن ماذا أفعل وقد أُلْصِقَتِ الحكاية بي!
قضّيتُ في إسبانيا سنواتٍ طويلةً، أزحتُ جانبا خلالَها مشروعي الدراسي، وانغمستُ في بحثٍ محمومٍ عن كلّ ما يُمكن أن أحسّنَ به وضعيتي الاجتماعية. تزوجتُ ورزقت بثلاثة أبناء كالقمر، بعد محاولة أولى فاشلة؛ صارحتها برغبتي، كانت من عائلتي البعيدة، دائما كانت تعجبني بجمالها الطفولي وخلُقها الرّاقي، ولكنها ـ الملعونة ـ ألقتها في وجهي باردة كالجليد: نْـتِـيـنا فَحـَالْ خَايْ… مَـنْـقْـدارْشِ نْـتْـعامْل مْعاكْ على شِي أساس آخر! ومنذ ذلك اليوم إلى حدود الآن لم ألتق بها مطلقا، وكأن جنّيّا غَبّرها !
أثناء ذلك كان “حلم” حفظ القرآن الكريم لا يفارقني أبدا، صاحبني حتى بلغتُه أخيرا، فعلتُ كلّ ذلك بينما كنتُ أقوم بوظيفة إمام مسجد صغير ومعلم لأبناء الجالية المسلمة.
ذات فجر استيقظتُ على حلم غريب خَضّني؛ كنتُ في فلاة، وكانت أمامي قافلة تسير نحو الشرق، بينما أعطيتهم ظهري أخْبِطُ وحدي نحو الشمال، وفي اللحظة التي بدأتِ القافلةُ تغيبُ فيها عن ناظري انشقت صرخةٌ من فمي جعلتْ زوجتي تقفزُ من منامِها كي تستلّني من عالمٍ كان واضحا لها أنه مزعج.
أوّلتُ الحلم ـ وأنا الذي لا يزول كتاب ابن سيرين من بين يديه ـ بما كان ينبش في عمق قلبي ويقلق ضميري، ونويْتُ على تدفئة ما برّده الدّهر وكاد يُجمّده… فلا شيء يستحق أن أفرّط من أجله في صداقة أعرف جيدا أنها كانت صادقة ودون مصالح.
توضّأتُ، ورتّبتُ الغطاء جيدا فوق أبنائي، فقد كان الجو شديد البرودة، ثم خرجتُ لرفع الأذان وأنا نَوْرَسٌ حافظٌ للقرآن، ومجازٌ في الدراسات الإسلامية، تُرافقني دعواتُ زوجتي، وصورةُ والدتي التي كانت ـ رحمها الله ـ تَتَعَهّدني قبل أن تسمح لي بالخروج فجرا خوفا من رطوبة جوّ طالما طرحني مريضا لأيام.
…………..
*تنويه:قصة من محض الخيال، والتشابه الذي يمكن أن يلاحظه البعض بين أحداثها والواقع هو من قبيل المُوافقة والصدفة.