خبزٌ منهك

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

مريم وليد 

أيقظني صوت خطى أقدام جدتي وخالتي، ففتحت عينيي، وقمت من على السرير بجسد لم تفارقه آثار النوم بعد، تشبثت بعباءة خالتي طالبة منها أن تأخذني معها، قالت جدتي:”البسي بسرعة عشان نلحق”، وأسدلت خمارها الرمادي على شعرها وصدرها حتى وصل إلى بطنها، وركضت سريعًا، فقفزت بداخل بنطالي الجينز الصغير وبلوزتي الوردية. مدت جدتي يدها فالتقطت مشط الشعر من فوق  المنضدة، وراحت تمشط لي شعري الخفيف على عجل، ناظرة إلى خالتي التي كانت ماتزال تلف طرحتها نظرات يملؤها الغضب توبخها بها على تلكئها في ارتداء ملابسها.

أمسكت جدتي بيميني، وخالتي بيساري، بينما حملت كل منهما على رأسها صينية مستديرة كبيرة فارغة، ومشينا ثلاثتنا خارجات من حارة جدتي الضيقة إلى حارات أخرى لا تختلف عنها في شيء، أراضيها غير مرصوفة، وتصطف القمامة على جانبي بعضها مكونة تلال صغيرة أو كبيرة، كلها شبه خالية، ففي هذا الوقت من الصباح غالبًا ما تكون الشوارع والحارات والأزقة شبه مهجورة، فحتى طلاب المدارس، وباعة الفول لم يبرحوا منازلهم بعد.

وصلنا إلى الشارع المنشود، ورغم أن عمال المخبز كانوا قد بدأوا لتوهم في إيقاد فرنهم القديم الذي يشبه فوهة بركانية عميقة، إلا أن النساء اللآتي كن يمثلن أغلب الحاضرين، وبعض الرجال كذلك كانوا قد وفدوا بالفعل إلى هذه الحارة الضيقة بأعداد كبيرة قبل وصولنا، حين رأتهم جدتي يشكلون طابورين طويلين متعرجين يخرج من كل منهما تفريعات صغيرة، نظرت إلى خالتي بامتعاض، ورددت بنبرة يملؤها الغضب:”قلت لك شهلي”.

وقفنا ثلاثتنا في الطابور، وأخبرتني خالتي بأنها حين يأتي دوري ستعطيني المال لأشتري حصة إضافية من أرغفة الخبز، فلن تكفي هذه الحصة التي لا يمكن أن يتجاوزها أي مشتري عائلتنا الكبيرة، هززت رأسي موافقة، وكانت جدتي تقف أمامنا محاولة إحصاء عدد من يسبقوننا في الدور، بينما تدير لي رأسها من وقت إلى آخر لتلقي لي بابتسامة تسفر عن الخطوط التي تملأ ذقنها فتعطيها شكلًا أشبه باللوحة الفنية، أو لتشاركنا الحديث الذي نتشاطره أنا وخالتي، التي كانت تعدني بأن تشتري لي فطيرة صغيرة بالسكر، وكيس من التمر هندي، وتحكي لي جدتي بعض الطرائف، والنوادر، والمواقف المثيرة للسخرية، التي رأتها في طفولتها بقريتها الصغيرة، أو حتى بعد زواجها وانتقالها إلى حي إمبابة، لكي تلهيني حين أبدأ في الإلحاح عليها بالسؤال:”أمتى دورنا؟”، وحين يزداد إلحاحي تقول لي:”قلت لك بلاش تيجي معانا”، فأصمت وأغير الموضوع خشية أن تحرمني من صحبتهما في المرة القادمة.

أستمع إلى حديث أمرأتين تقفان خلفنا, تقول إحداهن للأخرى:”سمعت عن الراجل اللي مات من يومين في طابور العيش؟”، أحاول استراق السمع إليهن لأتسلى أثناء الانتظار، ولكن لا يسعني الإمساك بأطراف حديثهن، فلا تمضي ثوان قليلة حتى يتغير الحوار من موضوع لآخر، فمن الخبز، للبيت، والعيال، والمصاريف التي لا تنتهي، ولعرس إبنة إحداهن بالشهر القادم، ويترامى إليّ صوت رجل يقف بالصف المجاور، فألتفت إلى مصدر الصوت، وأراه يرتدي نظارة ضخمة تتحرك من موقعها بين الحين والآخر فيعيدها لتلتصق بعينيه في حركة سريعة تلقائية، بينما يمسك بين أصابعه بصحيفة يقرأها على آخر يقف بجانبه، مرددًا في صوت مسموع:”شهداء الخبز”، فأفكر متسائلة من هؤلاء الشهداء؟ ومن هذا الرجل الميت؟ وكيف ماتوا جميعًا؟، وأقرر سؤال جدتي أو أمي في وقت لاحق.   

تأتي الناس وتذهب، ويبدو لي هذه الحشد وكأنه لن ينفض أبدًا، ولا يجيء دورنا مهما انتظرنا، وأسأل خالتي كم مر من الوقت فتفكر مليًا ثم تقول لي:”تقريبًا ساعتين”، فأنظر إلى الأرض، وأرسم بنعل شبشبي الصغير قلوبًا مشوهة فوق التراب، ولا أرفع رأسي إلا حين أرى حركة قدم جدتي السريعة متراجعة إلى الخلف، فأنظر إليها، لأراها تحاول الاستناد على خالتي، بوجه مصفر يملؤه العرق، فتحتضنها خالتي ساندة إياها، وأحاول مساعدتها، ولكني لا أتمكن من الوصول إلى كتفها، فأتشبث بخصرها، ثم تشير إلي خالتي بيدها قاصدة أن أبتعد، فأتراجع خطوتين إلى الوراء بينما تدورعيناي في كل جانب، وتجلس جدتي على صخرة مربعة كبيرة، وتسند رأسها إلى حائط منزل صغير خلفها، بينما تتلاحق أنفاسها بلا توقف، وتلح عليها خالتي بالسؤال عما بها، حتى أنها تقترح عليها أن نعود إلى المنزل، ولكنها تأبى في إصرار، وتخبرها:”هأفطر، وأخد الأنسولين، وأبقى كويسة”، فتجثو خالتي على ركبتها بجانبها، وأقلدها في فعلتها، وتمسك كل منا بإحدى يديي جدتي، وتربت عليها، وتقبلها.

 تخبرنا جدتي بأنها أصبحت بخير، وتشير إلينا بأن نعود إلى الطابور، فنعود على مضض، ونواصل النظر إليها كل ثانيتين تقريبًا، فنراها مازالت مستندة إلى الحائط بعينين مغمضتين، فتلمع في عقلي كلمات السيدة القليلة عن الرجل الميت للحظات ثم تختفي. حين يأتي دورنا نشتري أنا وخالتي الخبز، ثم ننسل من بين الحشد، لنعود به إلى جدتي الجالسة على صخرتها، فتمسك جدتي بالأرغفة الهزيلة المنهكة، ذات اللون الغامق، وتوزعهم على الصينيتين ناظرة إليهم بامتعاض، وبعد أن تنتهي تنظر إلى خالتي، فتقول لها الأخرى:”الأمر لله”.

 تحمل كل منهما صينيتها على رأسها ساندة إياها بإحدى يديها، بينما أتشبث أنا بيدها الأخرى، وأنظر إلى جدتي فأجدها ترمقني من تحت صينيتها مبتسمة، فأتشجع، وأطلب منها بعد صمت طويل أن تشتري لي قطعة من القماش حين نذهب إلى سوق الجمعة القادم، فتجيبني:”من عينيا”، فتملأ البهجة كل خطوة أخطوها، وكل قفزة شقية أقفزها، وأفكر في أنني بهذا القماش، وبالخيط، والأبرة التي بالكاد أستطيع استعمالها، سأصنع لجدتي جلباب جديد، ولخالتي تنورة، ولأمي قميص.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كاتبة مصرية شابة 

مقالات من نفس القسم