رسالة المعذب م . ع

رسالة المعذب  م  . ع
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

 

محمد عبد النبي

عزيزى مُحرر باب (اسأل قلبك) .. بعد التحية، ترددتُ كثيراً قبل الكتابة إليكم بمشكلتي، وربما هى ليست مشكلة من الأساس، مقارنةً بما نقرأه كل يوم ، لكنها بالنسبة لى أزمة وأى أزمة، تكاد تجعلني أُجن، إن لم أكن أصبت بمس من الجنون فعلاً.

أنا يا سيدي موظف متوسط الحال تجاوزت الخمسين بعامين ، متزوج منذ أكثر من 20 عاما” ولدى ثلاث بنات وشاب ، حياتى هادئه ومستقره ، أو كانت هكذا بالفعل قبل حكايتى هذه ، والحكايه أننى منذ حوالى ثلاث أعوام أكتشفت فى نفسى موهبه عجيبه أو قدره خارقه أو ما لا أدرى ما هو ، اكتشفت أننى إذا نظرت لوجه أحد الاشخاص أستطيع فى التو أن أكتب عنه ملخص حياه : أهم الامور التى حدثت له أو حتى تلك التى ستحدث له قريبا” ، بيان حاله موجز مع إسقاط التفاصيل .

لا تتعجل يا سيدى بالحكم ، فلست مجنونا” ، على الاقل حتى الان ، وأن رجل يعرف الله جيدا” ، لكنى عقلانى جدا” ولست درويشا” ، أقرأ بإنتظام وعندى مكتبه صغيره ، بها معظم أعمال مصطفى محمود وأنيس منصور وهيكل وغيرهم .

والحكايه بدأت كالتالى : كنت فى طريقى للعمل عندما وقع بصرى فى الاتوبيس على رجل يجلس قريبا” من مكانى ، عندها حدثنى شىء ما بداخلى أن هذا الرجل الطيب المسالم والذى لم يؤذ مخلوقا” طول عمره ، هذا الرجل سيموت قريبا” ميته بشعه تاركا” وراءه أطفالا” صغارا” .

حاول تفهمنى أستاذى العزيز ، لقد جائنى هذا الخاطر مره واحده ، هكذا : طاخ طخ ، طلقه ناريه طائشه ، كأنه ومض البرق يختفى بمجرد أن يتوهج ، أو كأنه نافذه تنتفض فى عز الليل مفتوحه من ريح شديده ، لكن عذرا” لن أسترسل فى تشبيهاتى تلك طويلا” لأننى لو تركت لها نفسى لابتعدنا عن أصل المسأله وتهنا معا” .

القصد: لما جاءنى هذا الخاطر الغريب كنت أريد أن أصرخ فى وجه هذا الرجل لينتبه ، يعمل حسابه ، يحترس ، يفعل أى شىء لانه سيموت قريبا” جدا” ، لكنى ضحكت من نفسى وسخرت من الفكره وسرعان ما نسيت الامر برمته ، الى أن صدمتنى صورة نفس الرجل بعد يومين أوثلاثه ، على صفحات الحوادث ، وتحت عنوان( شهداء الشهامه) : نزل الرجل فى إحدى البلوعات لانتشال طفله سقطت بها ، لم تنقظ ومات الرجل مع آخرين . أصبنى الهلع ، إذن فالاشاره صحيحه والطلقه صائبه ، رحت ألف وأدور حول نفسى ، أتوضأ وأصلى وأقرأ قرآنا” ، هل هو إمتحان من الله ؟ هل هى كرامه من عنده ؟ طيب ما معنى هذا كله ؟

بقيت لمده أتحاشى النظر لوجوه الناس ، لكى لا تنزل على صاعقه جديده ، وماذا لو الامر لا يتكرر ، ربما هى لحظه مضيئه جاءت وذهبت وخلاص ، اكتشفت خيبتى سريعا” ، المر كله متروك لى ومجرد إمعانى النظر فى الوجوه ، ورغبتى فى النبش وراء ملامح من حولى فى الشارع أو المواصلات ، الناس الغرباء بالذات ومن أراهم لاول مره : مثلا هذه المرأه السمراء السمينه مطلقه وعندها عيلان وتمشى مع واحد من جيرانها وتبحث عن شغل ، وهذا الولد الأحول تقريبا” يفكر فى الهرب من البيت ليفلت من قبضة أبيه القاسى ، سيظل يفكر طويلا جدا” ولن يفعل أى شىء حتى يكبر ويشيل الهم بعد أبيه ، والفتاه المسمسمه على يمينى خطيبها فى الكويت وتنتظر رسائله بفارغ الصبر ، والرجل الذى يضايقها منذ طلع العربه واقع فى مشاكل ماديه سيترمى به فى السجن بعد شهرين على الاكثر . لم أكن محتاج لتتبع أثر هذا الشخص أو ذاك للتأكد من صحة خواطرى حوله ، فقد كانت تأتينى كيقين لا شك فيه .

هل يبدو لك الامر خياليا” مضحكا” ؟ لكنه حقيقى مئه فى المئه ولا يبعث على الضحك بالمره ، أمواج الوجوه تطاردنى أينما أروح ، كل وجه يحدق فى كأنه يطالبنى أن أنبش عما وراءه ، أ أخلع عن الناس العابرين قشورهم ، لأرى المكائد والخيبات والامانى ، أرى فساد القلوب وعمارها ، أرى الحيره والتعب والمحبه ، أرى كل شىء ، وصدقنى يا أستاذى إن كل ما يصل اليك بالبريد من مصائب ليس شيئا عندما تبدأ فى قراءة الوجوه ، وتزدحم رأسك بحكايات موجزه وقصيره ، لكن حاده وجارحه وتوجع القلب ، عندها فقط تستيقظ وتنتبه ، عندها تدخل الجحيم الحقيقى الذى نعيشه جميعا” ، لكن لماذا أكتب اليك الان بعد مرور ثلاث أعوام من بدء هذه المحنه التى تعوتها مع الوقت ، هذا هو المهم فبعد أن دخت السبع دوخات لكى أشفى من هذا المرض أو أن أخلص من هذا الوهم : طبيب نفسى ، دار الافتاء ، الاولياء والمشايخ ، نصاب سودانى ، يدعى أخوة الجان عرض على العمل معه ، والمكسب طبعا” مضمون لمن يقرأ الوجوه كأنه يقرأ واجهات المحلات فى الشوارع . سبب كتابتى إليك بعد أن أصبحت هذه المحنه لعبه يوميه مسليه ، هو حدوث ما لا أتوقعه ، ما يجعلنى أخبط راسى فى الجدران وأعض الارض : كنت أنتظر الاتوبيس الذى تأخر عندما رأيتها ، بشره بيضاء وعيون عسليه ، فى الثلاثين تقريبا” ، شرعت بلا إهتمام أو جديه أقرأ وجهها ، ربما لاخرج من ضيقى لتأخر الاتوبيس ، وبمجرد أن حاولت داهمنى الفشل ، كقلعه منيعه لا يبلغ لها البصر نهايه تهزأ بالغزاه ، هزيمه بالغه ، بياض صاف جدا” لا شىء ، بعد ثلاثة أعوام من اللعب المتواصل تأتى هذه البنت الآن لتسخر منى ، إننى حتى لا أعرف إن كانت بنتا” أم امرأه ، ياربى ، إن وجهها الهادىء لا يخبرنى بشىء ، لم يسمح لى بالاقتراب منه ، كأنها تمتلك جهازا” خاصا” يشوش محاولتى ويلقى بها بعيدا” ، كانت تنظر أمامها فى صمت ، لا تبص على شىء بعينه ، كـنها تنظر بداخلها فتكتفى .

والله لا أعرف ماذا أقول ، أنا الموظف المحترم الذى تجاوز الخمسين ولديه بنات مخطوبات وولد كالبغل ، يحدث لى كل هذا ، طبعا” ذهبت الفتاه قبل أن أفيق من ذهولى ، منعت نفسى بالقوه من الذهاب فى إثرها ، قلت ربما إنتهت اللعبه وهذه هى الاشاره ، لم يحدث فقراءة الوجوه أصبحت أكثر يسرا” ، لكن من غير طعم أو معنى ، فما جدوى أن تقرأ حكايات بعدد العيون والحواجب والانوف فى العالم ، ما جدوى ذلك مادمت وقفت عاجزا” أمام وجه أبيض وعيون عسليه تنظر الى ذاتها ، كيف إمتنعت على ، كيف أفلتت من الضوء الخاطف الذى يضىء أمامى فى لمح البصر حياة إنسان فى جملتين أو ثلاثه

وأنا الان فى حاله يرثى لها ، أخذت من العمل أجازه ، إنعزلت فى حجرة المسافرين لا أكلم زوجتى ولا الاولاد ، ربما يكشف الله عنى هذا الغم ، أقرأ القرآن والادعيه ، أصوم وأصلى وأنام لماما ” لكنى أنهض بمجرد ما أنام مفزوعا” لما أرى وجهها يسخر منى ويعلن خيبتى ، عندها أبكى ، أى والله يا أستاذ أبكى بحرقه طوال الليل ، لإحساسى بالمهانه والعجز والخذلان .

 

السلام

المعذب م . ع

 

 

                                                 مايو 99

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم

تشكيل
تراب الحكايات
موقع الكتابة

ثقوب