المسلسل

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عبد الرحمن أقريش

 الأصيل، نهاية يوم ربيعي جميل ودافئ.

يبدو كل شيء في مكانه مرتبا ونظيفا، استعادت غرفة الجلوس نظامها المعهود بعد الفوضى المؤقتة التي تخلفها عادة وجبة الغذاء، وطبعا، يعود الفضل ل (نهى) التي بمجرد عودتها من الجامعة، تتقمص دور ربة بيت متمرسة وشغوفة، فهي تنجز أشغال البيت بكثير من الحرص والمتعة، يبدو الأمر أحيانا وكأن علاقة عاطفية تربطها بتفاصيل المكان، تفاصيل يختل نظامها بفعل الاستعمال، الأكل، والشرب، واستقبال الضيوف، ولكنها في كل مرة تستعيد نظامها بدقة أكبر، الأواني، الوسائد، الستائر، المزهريات، قطع الديكور، كل شيء، ثم هذه الروائح التي تتناوب ويطرد بعضها بعضا، رائحة القهوة القوية، رائحة الخبز والحلوى، شذى الشاي، عبق النعناع الأخضر، ثم في النهاية روائح المساحيق والمطهرات التي تمسح كل شيء، وتفسح المجال لحالة من العدم تشبه البياض الممتد حيث لا لون ولا رائحة…

يسمع الجرس في رنتين خفيفتين، تلقي الحاجة (هنية) نظرة على ساعة الحائط، وتقوم بهدوء لتفتح الباب، وهي تخاطب نفسها بصوت مسموع.

– إنها جارتي (لالة الباتول) جاءت في موعدها المعلوم…

في طقس يومي يكاد يكون مقدسا، وبعد صلاة العصر تلتقي الجارتان، تستمتعان بالجلوس، وتنخرطان في أحاديث لا تنتهي، أحاديث ممزوجة بكؤوس الشاي وقطع الحلوى، نوع من الثرثرة التي لا تخضع إلا لقانون التداعي الحر، ذكريات، حنين، نميمة، وكلام كثير يستدعي بعضه بعضا عن الصحة والأولاد والأحفاد ووصفات الطبخ والطب الشعبي…

ثم في لحظة ما، تبدأ موسيقى الجنيريك لمسلسلهما المفضل، تمد (الحاجة هنية) يدها إلى آلة التحكم، ترفع صوت التلفزيون قليلا، تحضر (نهى)، تجلس منفردة في زاويتها المعهودة، ثم يهيمن الصمت، صمت مفعم بالترقب وضجيج العواطف، عواطف وانفعالات قوية تعبر عن تماهي وانخراط حقيقي في أحداث المسلسل، حب، غيرة، حسد، كراهية، خيانات، انتقام، بكاء وخيبات أمل…

يوفر الصمت، والإنارة الخافتة، والستائر المنسدلة، خلفية للتفاعل الوجداني مع قصة المسلسل، ومع ذلك هناك فروق جوهرية بين هذا الجمهور القليل العدد، فروق في التلقي والقبول والرفض والاستهجان ودرجة التماهي والذوبان.

مثلا، (لالة الباتول) تنفعل بهدوء، بصمت، يموج داخلها بأطياف ذكريات قوية، عنيفة، تطفو على السطح وتريد الخروج، ولكنها تكبحها، وتنجح دوما في تسييجها.

تبدو (الباتول) سيدة أربعينية أو تزيد قليلا، سيدة جميلة، هادئة، ناضجة وفي قمة العنفوان، ترتسم على وجهها الخطوط الأولى لابتسامة أبدية، ترتسم وتنمحي في كل مرة وكأنها لا تكتمل أبدا، ابتسامة تستعصي على التصنيف، تعبير غامض، شيء يشبه الألم أو الندم ورثاء الذات، تتنفس بعمق، تعب الهواء، تمسكه للحظات، ثم تطلقه، تحرره في تنهيدة منكتمة، حارة ومؤلمة…

أما (الحاجة هنية) فسيدة أكبر سنا، تبدو أقل جمالا، ربما بسبب ملامحها القاسية، ربما بسبب المرض والأعطاب التي تنخر جسدها من الداخل، ربما أيضا بسبب طبعها الحاد، وروحها القلقة التي لا تستقر على حال.

يبدو موقفها مختلفا، تتأفف، تهمهم، تفكر بصوت مرتفع فتبدو غاضبة، وبين الحين والآخر تطلق شتائم واضحة، توزعها على شخصيات المسلسل، تصنفهم أولا داخل خانات، ثنائيات مانوية ملونة، بيضاء، سوداء، رمادية، تصنيف يسهل عليها فهم الشخصيات وخلفيات الأحداث وضبطها، ثم أخيرا الحكم عليها، فهناك الأخيار، الأشرار، الأذكياء، المغفلون، الطيبون، الشياطين، الغشاشون، اللصوص وأولاد الحرام… 

– شوفي، ولد الحرام…يخاف ما يحشم…

– بنت الحرام…أرأيت ماذا فعلت في الحلقة الماضية؟ فضيحة والله…

– مسكينة بقات فيا، ولكنها ساذجة ومغفلة…

– شوفي الرجل عجوز وباقي مراهق…

– شوفي العقروشة المتصابية…

– الحب زوين لولا الخيانة…

– شوفي الكذاب، من النهار الأول، شفته، عرفت أنه كذاب وخائن…

– الرجال دوما هكذا، ما فيهم ثقة…كلهم!!

ثم أخيرا تعترض (لالة الباتول)، تتكلم بهدوء.

– إوا لاواه…ماشي كلهم، الرجال بحال العيالات، فيهم وفيهم !! (لا، ليس الأمر كذلك، هم أيضا كالنساء تماما…)

تبتسم (الحاجة هنية) ابتسامة شريرة وقاسية.

– أنت فقط طيبة، وعلى نياتك، إسأليني أنا…

تصمت (لالة الباتول)، لا تعلق، وتعود إلى عالمها الداخلي، تستعيد صورا من ذكرياتها البعيدة، أطياف وظلال لتجارب وخبرات نفسية دفينة لم تنمح أبدا، تتحين الفرصة، تطفو على السطح وتعود في كل مرة…

طبعا، هي لا تعجبها الأحكام التي تطلقها (الحاجة هنية) ذات اليمين وذات الشمال، لا يعجبها بالخصوص أن تنعتها بأنها مغفلة أو عديمة التجربة، أحيانا كثيرة تشعر بالغضب، غضب هادئ، حكيم وصامت.

تخاطب صديقتها، تخاطب نفسها بصمت.

– وما أدراك أنت بالحياة، أنا لست ساذجة، الحياة ليست سهلة، ليست دائما كما نعتقد…

ثم يعود الماضي فجأة، مفعما، قويا وجارفا، يشرق وجهها، تبتسم بهدوء، تستحضر تجاربها العاطفية الخجولة والمسيجة، تستحضر بداخلها صور وأسماء الذين أحبوها، تستحضر بالخصوص صور وأسماء الذين أحبتهم.

تخاطب ذاتها.

– هم كثيرون، صحيح أنهم عابرون، عابرون فقط، ولكنني لست نادمة، فقد كنت سعيدة رغم كل شيء…

أما (نهى) الشابة المراهقة التي تخطت بالكاد عتبة العشرين، فيبدو موقفها مختلفا تماما، فالمسلسل، أحداثه، والمواقف الإنسانية لشخصياته، كل ذلك مجرد قصص تحدث في أماكن، عوالم، سياقات أخرى بعيدة ومختلفة، قصص قد تكون جميلة، حالمة ورومانسية، ولكنها أقل أهمية، المهم هو ما يحدث هنا والآن، حياتها، عالمها، قصتها بكل تفاصيلها، الأرقام، المواعيد، الكلمات، الرسائل، الأيقونات الملونة، المهم هو كل هذه الأشياء التي تخبئها في ذاكرة هاتفها، تحرص عليها، وتحرسها بعيدا عن أعين الفضوليين كما لو كان أسرارا خطرة…

انتهى المسلسل منذ لحظات، عادت موسيقى الجينريك من جديد، في الخلفية يرتفع صوت الآذان، يمتزج بصوت الموسيقى، يتداخلان، يتناوبان، ثم تخفت الموسيقى تدريجيا، يتعالى الآذان منفردا، يسافر، يتلاشى، ثم يعود رجعا بعيدا.

قامت (لالة الباتول) تستعد للرحيل، تودعها (الحاجة هنية)، بابتسامة وهمهمة خفيضة تكاد لا تسمع، تفتح (سهى) الباب أمامها، تفسح لها المجال، تقترب المرأة من الفتاة الشابة، تميل، تقبلها، تضمها بحنان، ثم في نوع من التواطؤ الحميمي، تخاطبها همسا.

– اعتن بنفسك أيتها الجميلة وسلمي لي على الشاب الوسيم، استمتعي بحياتك، كوني سعيدة، كوني قوية وشجاعة، ولا تنسي، القصص العاطفية الجميلة لها دوما فضائلها، عندما تنتهي تترك وراءها ذكرى طيبة، وحتى عندما تفشل، تترك وراءها آلاما وجراحا أقل…

ابتسمت (نهى)، ابتسامة مختصرة يمتزج فيها الخجل بالامتنان، بدا واضحا أنهما تتقاسمان مشاعر قوية غير معلنة، نوع من التواطؤ العاطفي، خليط من الحب والصداقة وعاطفة الأمومة.

انتصف الليل.

انسحبت (نهى) إلى غرفتها، فتحت النافدة وسحبت الستائر يمينا وشمالا فتسرب تيار بارد إلى الداخل ، قررت ألا تشعل النور وأن تكتفي  بخيوط الضوء التي تتسرب من الخارج، كانت تلك طريقتها في الاختلاء بذاتها، فهي تشعر أن الضوء يفسد عليها حميميتها، تشعر أحيانا كما لو كانت عارية ومكشوفة، وقفت هناك، احتمت بالستائر وراحت تنظر بالتناوب للشارع وإلى صورتها المنعكسة على زجاج النافدة، تنظر فقط ولكنها لم تكن ترى، كانت شاردة وعاجزة عن التركيز، فقد ارتفع فجأة منسوب الضجيج بداخلها، ضجيج سببه الخوف من المجهول، من المستقبل، من عواطفها، من أحلامها، من الانكسارات وخيبات الأمل، الخوف من مخاوفها التي تكبر كل يوم…

تفكر، تخاطب نفسها.

– يفترض أن الحب مريح وآمن، فمن أين يأتي كل هذا الخوف؟

ثم في لحظة ما، تدخل فراشة تائهة، تحوم بخفة في فضاء الغرفة، تحط أخيرا على زجاج النافدة، امتزجت خيوط الضوء بظلال العتمة، فبدت صورة وجهها المنعكسة على الزجاج ومنظر الفراشة وكأنهما لوحة فنية أو تركيب لمشهد واحد…

تنظر، تتأمل المشهد في كليته، وجهها والفراشة، تبتسم، تهب نسمة خفيفة وباردة، تتحرك الستائر، تطير الفراشة في فضاء الغرفة في دورة أو دورتين، وتحط ثانية على صورة الفتاة، تحط على الزاوية اليسرى لشفتيها المنفرجتين قليلا، تبتسم، تتحرك الفراشة تطير وتغادر الغرفة…

منذ مدة تعيش (نهى) بداية تجربة عاطفية جميلة، قوية وجارفة لا تعرف إلى أين ستنتهي، تجربة مفعمة تشعرها بالكثير من السعادة، سعادة بطعم القلق والخوف والأمل.

لاحت الخيوط الأولى للصباح، آوت (نهى) إلى فراشها، قررت أخيرا الخلود إلى النوم، وضعت هاتفها جانبا، وراحت تنظر إليه وتنتظر، تنهشها الهواجس والقلق…

تتساءل.

– لم لم يتصل؟ أيكون تعرض لمكروه؟

اجتاحها كآبة عارمة، تشعر بالحزن، تعاتب نفسها لمجرد التفكير في ذلك…

ثم، تضيء شاشة الهاتف، وتنطلق الرنات أخيرا معلنة وصول الرسائل، تنظر إلى الشاشة بلهفة.

– مرحبا، أأنت هنا ؟

– مرحبا، نعم، أنا هنا أنتظرك…

– أنا أحبك، سأفعل كل ما تريدين… أريد فقط أن نكون معا، يكفيني ذلك لكي أكون سعيدا…

– أنا أيضا أحبك، أنا أيضا سأفعل كل ما تطلبه مني…تصور، سأفعل أشياء كثيرة حتى دون أن تطلبها !! سأفترض أن ذلك سيسعدك…

بدا الأمر شبيها بلعبة، تكتب (نهى) رسالة، تبعثها وتنتظر، تقاوم تعبها بصعوبة، تستسلم، تغفو، تستيقظ، في نوبات متقطعة ومتباعدة.

عندما عادت إلى نفسها، لاحت الخيوط الأولى للصباح، تسربت أشعة دافئة إلى الداخل، عادت الفراشة مرة أخرى، نفس الفراشة، بدت مفعمة وأكثر إشراقا، لم تكن وحيدة هذه المرة…

 

مقالات من نفس القسم