حكاية صرصار

حكاية صرصار
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

شيماء زاهر

1

حين قابلته، كان يقف مذعورا ووحيدا مثلي، نحيفا كحورية لم يكتمل نموها بعد؛ أخبرته أن هناك مكان آمن، تبعني وهو منهك القوى وقدماه بطيئة الحركة، حكى لي عن نفسه، عن مطاردات الـ (بني آدمين) له كلما أطل برأسه إلى الدنيا، على الجدارن، وبين الشقوق، وحتى بجوار الحشائش، أخبرته عن مخاوفي، النمل الذي يحاصر فريسته ويفتك بها، أعين النمل الصغيرة تصبح حينئذ تيارات سوداء تفقدك توازنك و تبتلعك، و قوارضهم تصبح أشد فتكا من رائحة المبيد ، وأقدام الـ (بني آدمين) حين تهوى على رأسك، باختصار، أنا لا أكره شيئا مثلما أكره النمل.

لكنَّ الخوف زال تدريجيا، أصبحنا نخرج سويا للبحث عن الطعام؛ وفي رحلاتنا اليومية، كنا نتفقد البناية من فوق ، ننظر للخراف بالأسفل...،ونتخيل أنفسنا في مكان آخر..أنا وهو نطير في مكان كبير...يلمحنا أحدهم، فيتركنا نسير كما نشاء، حتى النمل، يسير في طابوره ولا شأن له بنا...

ثم نعود إلى حيث كنا، بجوار اللوح الخشبي نقف نتحسس الجدران القريبة و نفكر أننا لم نر (بني آدم) واحد، منذ أن أتينا إلى هنا... نحتار أين نقضي الليل... هل على الممرات الملساء الباردة، أم على الصوف الناعم؟! أم بين الأخشاب؟! 

 

2

حين خرجت إلى النور في الصباح، كنت أقول لنفسي: إني أعطيت النمل أكبر من حقه؛ هم في نهاية الأمر كائنات صغيرة تموت بالآلاف كل يوم؛ وأمام عيني ، كنت أرى نفسي كائنا كبيرا، جناحاي و قدميَّ و قرنيَّ استشعاري، للمرة الأولى أحس بالفخر، أني خلقت صرصارا! على الأقل، أنا لست صغيرة كالنمل ولا عملاق كـ(البني آدمين).

اليوم، مر سرب من النمل على مرمى بصري، فردت جناحاي لأعلى قليلا ، مشيت أمامهم بثقة وأنا استجمع شجاعتي؛ تلكأت أمامهم ، فإذا بهم يتجنبوني حتى لا ينفض الطابور! منذ قليل كنت استحم في بركة مياه صغيرة، كانت هناك نملة تائهة، وحين رأتني اختفت بين الشقوق، تفحصت المكان من حولي و حين أخبرت رفيقي بما حدث اليوم، رفع قرني استشعاره، ثم راح في النوم.

 

3

هل كل ما مضى كان حلما إذن؟! الـ(بني آدمين) عادوا اليوم وبدأت المتاعب؛ حين زاد وقع أقدامهم، انزويت في ركن مظلم خلف اللوح المعدني؛ هو أيضا لمحته يقف في ركن بعيد، بدا لي أنه ميت، حين اقتربت منه كان لايزال ينبض بالحياة.

وحدي –الآن- أقف خلف الباب أشتاق إليه، ولأحاديثنا سويا، في ذلك الوقت من الليل كنا نتحدث عن الغد الذي سيكون أجمل…سنسير والسماء شق كبير يحتوينا، سنستمع لجدول المياه وخريره العذب وسنخطو على حشائش يفوق ملمسها كل ما عرفناه هنا. هل كانت أحلامنا مستحيلة؟! فقط، لو ينزع عن نفسه شرنقة الخوف، ربما هربنا من هنا وبحثنا عن أحلامنا…

 

4

قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، كنت ألتفُّ حوله في ذعر و أنا لا أصدق أني سأصبح -منذ الآن- وحيدة خوفي، أدرك أنه لا يزال حيا، لكنه لم يستجب لنداءاتي ولا لقرني استشعاري اللذين كانا يلهثان حوله؛ ظللت أناديه ولم أنتبه إلى أن النور أضيء فجأة، اقتربت مني مساحة الظلام… جريت…على السطح …وعلى الجدار …وعلى طوابير النمل ودوامات الخوف التي كانت تسير أمام عيني…وحين تسمرت خلف الباب، كانت رائحة المبيد تملأ الهواء المحيط و تصيبني بالدوار…

لا أدري، لِمَ توقف الرجل ولم يفرغ في وجهي كلَّ المبيد..هل شُلَّت يده؟! هل حدث شيئ ما في عالمهم جعله يتوقف؟ هل كان أمامه صرصار آخر أراد أن يلحق به قبل أن يهرب؟!

 

5

أدرك –الآن- أن رفيقي كان معه حق؛ فلا النمل ولا تقلبات الطبيعة يضارع الـ(بني آدمين) و حماقتهم…خرجت في الصباح كعادتي، أبحث عن الطعام، وحين عدت في المساء، كانت رائحة المبيد تملأ كل الغرفة! أتعجب من أن هذه معاملتهم لنا؛ بينما يعيش النمل بينهم دون أن يتذمرون منه؟

ليس لدي ما أفعله سوى أن أقف في العراء، في الصباح ستفتح الشبابيك وتقل رائحة السم، ويمكني حينئذ أن أدخل الغرفة من جديد…

 

6

منذ عدة أيامٍ لم أخرج من هنا؛ الجوع يقرصني، لكني أخاف، إن خرجت، ألا أعود إلى هنا أبدا…حين مددت قرني استشعاري للخارج، كان كل شيئ هادئا؛ لو كان رفيقي معي لخرجت على الفور، لكني أصبحت أكثر حذرا منذ أن مات؛ أكثر من مرة أخرج جسدي ، لكني حين أحسُّ بنفسي خارج المكان ، أعود لمكمني…

حين تبدد الجوع بي، نسيت خوفي، و وجدت نفسي بالخارج ألفّ، وأدور، تحسست كل شبر في المكان، لكني لم أعثر- سوى- على حبات سكر وملح، لا تصلح لي على أية حال. اتجهت للخارج، طابور من النمل يسير للداخل… سرت على الجدار، مررت على الخراف المقيدة، سبحت في بركة المياه، خرجت، قابلت صرصارا آخر.

ــــــــــــــــــــــ

* نص من مجموعة “100% قطن” الصادرة عن دار نهضة مصر

*قاصة مصرية

 

خاص الكتابة

 

مقالات من نفس القسم

تشكيل
تراب الحكايات
موقع الكتابة

ثقوب