في كل فصل كان يشمر عن ساعده، رغم كبر سنه، فيبدأ في ترميم ما تصدع من بقايا بيت لا يملك غيره، كان يحدوه أمل كبير ألا يتداعى عليه هذا البيت مادام حياً، أما أولاده الذين جحدوه فكان على يقين بأن الزمن كفيل بهم، و هذا الزمن اللعين نفسه الذي كسر ظهره، وترك أثره، يدعو مع ذلك أن يصفو لأولاده رغم كل شيء..رغم كل شيء..
زوجته، التي تعرش في داخلها حقل من نبات العليقة سقاه الأولاد بعقوقهم، تركته لبيته وحيداً، وماتت فجأة، وآخر ما قالت له قبل أن تنام دون أن تصحو أبداً هو:
لا تكترث، لا شيء يستحق في هذه الحياة..
بعد موتها ظل يهيم في زوايا البيت وحيداً، كانت في الزوايا خفايا، وكل زاوية تذكره بها وبولد من أولاده أيام الصفاء، الآن في هذه الأزمنة صار إنساً منسياً، غابت أخبار أولاده، ولم يعد يعرف عنهم شيئاً بعد أن غادروا البيت دون إذن، ولا وداع، حتى جنازة الأم لم يحضرها أحد منهم، ابنته فاطمة لم تدقّ بابه إلا في أربعينية وفاة أمها، زوجها أخفى عنها الخبر كما ستعلل فيما بعد؛ “علي” أكبر أولاده، منذ أن غامر مع سمسار في قوارب الموت، لم يظهر له أثر، وآخر خبر تداعى إليه هو أنه في إسبانيا، في “إليخيذو” تحديداً، وعلال الابن الثاني يشتغل نادلاً، صاحب المقهى زوّجه ابنته نكاية بأبيه، الولد ،من جهته، وافق رغم أنه كان يعلم ما بين والده وصاحب المقهى من خصام حاد سببه إمام مسجد حيهم، كان الشيخ ممن رأوا إبقاءه، أما صاحب المقهى وآخرون فكانوا يصرون على أن يغادر، ويتم استبداله لأنه يطيل الركوع والسجود..أما أحمدُ الصغير، آخر العنقود والذي سماه على اسمه، فقد كسر ظهر الأب بعد أن اقتفى آثار أشقائه في إقصاء الأب الذي بات، عندهم جميعاً ماركة غير مسجلة، أب خردة، لا مندوحة من الاستغناء عنه، وهو تالياً لا يلزمهم اليوم.. أحمد الصغير هو أيضا تزوج مؤخراً دون أن يخبر أباه..
ابنته فاطمة كانت استثناء بين أولاده، حظها العاثر مع زوجها أعاد صياغتها، وبشكل غريب، وجعلها ترق لحال أبيها؛ قبل زواجها، ورغم أنها الأنثى الوحيدة بين ثلاثة ذكور، كانت أكثر خشونة من إخوانها جميعاً، زوجها السكير روضها؛ منذ أن زُفت إليه، لم تشبع الطعام قط وهي معه، مدة عشر سنوات كاملة قضتها في سريره، ولم تنفع خشونتها معه كما كانت تفعل مع أبيها، شيء ما كسرها، وصارت مهيضة الجناح، ابتليت بزوج لم يكن يجيد غير النوم، والسكر، مع جولات من فن الملاكمة يلعب فيها دور بطل فائزٍ دائماً، كان جسمها ينال نصيباً وافراً من لكماته، ضرب عشواء تنهال عليها فوق وتحت، بسببها كانت مناطق حساسة من جسدها مدعاة للرثاء، وهي نفس المناطق المتورمة التي كان يتحسسها بلذة شبقية كل ليل حين يضاجعها..
ابنته فاطمة هذه حين ملت النوم، واللكم، وجربت مع زوجها الجوع عادت منكسرة لبيت الشيخ، خاوية الوفاض ؛ ومنذ أن عادت قل كلامها، شهيتها للطعام هو الشيء الوحيد الذي كان يزداد لديها، وأغرب شيء عادت به من الزوج، أولعلها اكتسبته بطريقة ما هو حرصها، مبالية وغير مبالية، على كسر أول حرف من كل كلمة تنطقها، ومنذ عادت لم تنادِ أباها إلاّ بالشيخ (مع كسر الشين)، وما درت يوماً لماذا كان الكسر يلازمها، أبوها الذي لم يتعود منها ذلك، لم يكلف نفسه سؤالها، لكن غيره من أترابها، وأقاربها لفتوا انتباهها لهذا الكسر، وكانت ترد عليهم بالقول:
أنا مجرد كسرة في هذا الوجود، فدعوني لكسوري، وذنوبي..
ومنذ عودتها كانت تنام كثيراً، وتأكل كثيراً، ولكنها أيضاً كانت ترثي لحال أبيها كثيراً كلما حدثها عن إخوانها، وما أبكاهما يوما معاً هو كيف يتزوج أصغرهم دون أن يسأل عن أبيه، أو أخته، ولولا همس الغرباء لما عرفوا بخبر العرس..
قال لها متحسراً:
الآباء، حين يتزوج أبناؤهم في حضورهم، يبكون.. فما بالك إذا تم العرس في غيابهم، وقصد الأولاد هذا الغياب.
فاطمة لم ترد، تعمدت ألا ترد، حمدت الله في داخلها لأنها لم تنجب أولاداً، وما درت هل السبب منها أو من الزوج، الأولاد نعمة في جميع الأحوال، وأكبر نعمة حين يدرك هؤلاء الأولاد قيمة الآباء، أما حين يديرون لهم ظهورهم في جحود فأية نعمة بعدُ؟..
المال النعمة الثانية، يعدم الأب كل الوسائل في الحصول عليه، إنه يعيش مستوراً من ثمن لا بأس به ناله من قطعة أرض باعها قسراً كمقامر وهب كل ما يملك لزمن لا يرحم..
المال والبنون!
المال ما عاد يهمه وهو في أرذل العمر، وكل ما يبغيه هو ثمن كفن أوصى به فاطمة، أما البنون فقد لفظوه كشتيمة.. ومع ذلك هو ليس حاقداً، ولا نادماً لأنه أنجبهم، إنما الذي يتقدم على هذا، لأنه يحز في قلبه أكثر هو أن لا أحد من أولاده يشبهه..وهذا ما يجعله متأكداً بأن الآتي من أيامهم لن يكون سهلاً..
يتذكر كيف كان يحب أباه، وكيف كان يقبل يديه كل صباح، ومنذ أن صار بالغاً لم يعدم يوماً وسيلة في إرضائه عبر تلبية طلباته، ويوم مرض، وصار مُقعداً، سهر على راحته، حتى الحفاظات لم يكن يدع أمه أن تتكفل بها، هو وحده من كان يتولى بها، وحمامه أيضاً، يتولاه بنفسه ، الاقتراب من أبيه لتلبية طلباته ممنوع مادام موجوداً..خدمة الشيخ كان يعتبرها واجباً مقدساً لا محيد عنه..
نال رضا والده، وأمه، وما حير الشيخ أحمد الآن هو كيف لم تطله دعوات أبيه، أو أمه.. كيف لم تنزل البركات عليه، وهو الذي تفانى في خدمتهما.. لماذا خذله أولادُه إلى هذا الحد المعيب وأين قولهم (كما تدين تدان؟!).
ما من شك أن هناك خللا ما، هو ذاك، هو الاستثناء ما دام لكل قاعدة شذوذ…
اليوم وحدها فاطمة تملأ عليه البيت بعد أن صارت مطلقة، فهل تعوض فاطمة أباها الشيخ، وهل تضمد جراحه، وجراحها؟.. والجروح لا تندمل، كلما التأم جرح جد بتَذكار الأولاد جرح آخر..
الأب وفاطمة الآن وجهان يبكيان..وحدهما يواجهان صروف الحياة، وكونهما معاً تلك نعمة أخرى، ولا شيء الآن غير فضاء البيت، وكله صورة تذكره ببعض ما فلت من الزمن.بيه أ أو أخته
منذ أن ماتت الزوج، وغاب الأولاد وهب الحاج أحمد نفسه لزمنه في انتظار أن ينال حقه المؤجل منه، يقضي نهاره بين المسجد، وبين رعاية شجرة يظل يسقيها، وحين يتعب يأوي إلى ركن ظليل، ثم يبدأ في سرد حكايته لها؛ أما بالليل فيمارس طقساً آخر، لا يقضي أول ليله إلا رفقة شمعة، يضرب عن الكهرباء، وتستهويه الشموع، فكم يحس بنفسه حين ينتصب أمامها يتأمل نسيس نارها تأكل الشمع كما يأكل الزمن ما تبقى من خريف عمره، أما ربيع هذا العمر فهو اكتشاف متأخر، لذلك لم يحس به كما يجب حين كان أولاده من حوله؛أفكار كثيرة كانت تتراقص أمام عينين محملقتين، جاحظتين، يبدو أمام شمعته، وهو النحيل مثل غاندي تماماً.
فاطمة ابنته لم تستطع أن تنسى حاله في ليلة من لياليه مع الشمع، تلك كانت ليلة فريدة، جلس فيها الأب أمام شمعته، وسبحة في يده، وحين أشعلت الكهرباء، صرخ فيها بصلابة قائلا:
بهذا الكهرباء أقصيتم ليلي..
لم تكن تعرف من يقصد بعلامة الجمع في (أقصيتم)، ولكن حين كانت ترمقه وهو يحني رأسه، ويقترب من الشمعة، قالت له:
حاذر، النار محرقة..(كسرت أول حرف من كل كلمة)..
قال لها:
بل النار هم أولادي..
بعد ذلك واصل طقسه مع شمعته، وبدا أمامها كولي صالح، يتأملها، ويواصل تمرير حبات سبحته في يده، ثم فجأة نظر إلى فاطمة، ترك نار الشمعة تأكل بعضاً من لحيته أمام استغراب ابنته، وقال لها ضاحكا بشكل مريب:
لولا الأولاد لما أصبح للدنيا طعم، ولولا الشموع، بالنسبة لمن يعدمهم، لتفحمت القلوب التي الصدور.
…………..
*قاص وكاتب من المغرب