فصل من رواية ضريح أبي

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 42
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

طارق إمام

        أرسل أبي في طلبي، فعرفت أنني سأموت اليوم.    

        لم يشأ أن يزورني في منام، مثلما يفعل مع الغرباء، لكنه أوفد لي أحدَ حراسه.

        طرق الرجل الأسود بابي مع أول خيوط الفجر، وسلمني القصاصة المقتضبة التي كتبها ولي الله الصالح بخطه الميت.. لأقطع، للمرة الأخيرة، الطريق الطويل إليه (الطريق الضيق نفسه الذي طالما تنفست فيه هواء موت الآخرين، والذي سأتحرك باتجاهه الآن، لأستنشق، للمرة الأولى، هواء موتي بالذات).

        بدا الحارس ميتاً، كأنه امتداد غامض للهيكل العظمي الذي أرسله. وعندما امتدت لي يده بالوريقة المصفرة، تمكنت من رؤية أقدم كف في العالم، والأكثر تيبساً، قبل أن يدس في كفي رسالة شبح سحيق، كان أباً لشخص واحد في العالم، هو أنا.

        وهو يعبر عتبة بابي، بدا أكثر عدوانية واعتداداً بنفسه. كانت المرة الأولى منذ سنوات طويلة التي يغادر فيها مملكة الظلال لكي يعبر طريقاً طويلاً وعراً ينتهي به عند باب خشبي تختبئ خلفه الحياة التي طالما تجنبها، كثيفة ومنزوية مثل طفلة في حلم.

         كنت أقابله داخل ضريح أبي، (منذ أيامٍ أشعر بها بعيدة الآن). يعد لي وجبة طعام أفشل في التعرف على مكوناتها، بالطعم المخاتل، في الضوء الخافت الذي يُطير آيات قرآن سحيقة قادمة من حنجرة مجهولة، كأنه يذكرني بذنوبي. يعاملني كخادم، مطرق الرأس، لكي يخفي أنفه الشائخ الذي سقط من وجهه ذات يوم.

         بعد أن أفرغ من طعامي، يأتي بصندوق النذور الضخم (لا أعرف كيف يتسنى له حمله) ويضعه أمامي، ثم يتركني وحيداً. أفرغه، أضع المال في جيوبي والرسائل المتضرعة في حقيبتي.

        أبقى وجهه مرفوعاً، غائباً في نقوش السقف، حتى أنني اكتشفت، لأول مرة، أنه لا يملك على وجه التقريب أكثر من عينين. رفض الجلوس على مقعد، التصق بالأرض مقرفصاً وظل يرتل “ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون”، يكررها بتلاوات مختلفة. أخيراً نظر لي واجفاً، ونهض.

          ظللتُ خجِلاً (ذلك الخجل المصنوع من مادة الرعب نفسها) وأنا أرقب دخان السجائر الذي يغمر الشقة. لم أكن صائماً، رغم أن الخيط الأبيض ليوم رمضاني جديد كان يخترق الصالة، وكانت السيجارة التي حاولت إطفائها بشكل سيئ فور اقتحام الطرقات الناعمة، تبعث بدخانها من المنفضة، مؤكدةً كُفري، فبقيت ناظراً للأرض في خجل، لكنه في جميع الأحوال لم يكن بمقدوره أن ينهرني. لقد كان، مثل كل رجال أبي، خادماً لي. ورغم أنني بلا كرامات، ولم تشهد حياتي ما يدل على جدارتي بأن أكون ابنه، إلا أنني ظللت مرهوب الجانب، فلقوة الدم معجزاتها.

          لقد كان، مثل كل رجال أبي، خادماً لي. ورغم أنني بلا كرامات، ولم أقدم في حياتي ما يدل على جدارتي بأن أكون ابنه، إلا أنني ظللت مرهوب الجانب، فلقوة الدم معجزاتها.

          لم أتوقع زيارة كهذه، وشعرت أنني أتعرى على يد لص، وأنا أتجسس على نظراته التي تجوس في مكاني. كانت سجادة الصلاة مثبتة على الحائط منذ زمن بعيد بأربعة مسامير قوية، بعد أن اكتشفت أن مكان نقوشها الغزيرة ليس قدمي الحافيتين، وكانت الآيات التي صنعتها يدي على الحوائط محفوفة الآن برسوم نساء تنحني لتلتقط طيوراً من ماء، وبوجه متكرر لامرأة، رسمته من خيالي واعتبرته وجه أمي. ومن كل ركن في الشقة، كان يمكن لأنف خبير أو ممعن في التقوى، أن يعثر على الرائحة المميزة لعري امرأة.

          وأنا أتأمل الحارس الصامت، متأبطاً كتابه الكبير الذي لا يتحرك بدونه، فكرت أن أطلب منه أن يقرأ لي حكاية تقتل أرقي، لكن نظرة واحدة لجسده المنكفئ كأنه دخل للتو مقبرته، جعلتني أتراجع عن التحدث لإله الموت الغامض الذي يدخل لأول مرة منذ سنوات واحداً من بيوت الفانين، الملوثة والسابحة في هواء الإثم.

         ذات يوم كان قاطع طريق. يقال إنه فكر مرة في التسلل للضريح ليسرق صندوق النذور، المتخم على الدوام بأموال وذهب، وفي اللحظة التي فتح فيها الصندوق، فوجئ بالرجل ذي القامة المديدة متكوماً بداخله، يحمل خيطاً نحيلاً، ويرفو ثقباً في حصيرته.

         كان عارياً، يرفل سجادة صلاته، عندما نظر إلي ورمى بخيطه على يدي فانفصلتا عن ذراعي”. هكذا سيظل قاطع الطريق القديم يتذكر، وهو يتأمل كفيه اللذين عادا، بعد أن جثى وتوسل له أن يعيد إليه يديه ويدعه يعود من حيث أتى. رق له قلب ولي الله.. لكن قاطع الطريق لم يجد في نفسه رغبة لشئ إلا أن يسهر على حماية صندوق النذور ذاك بالذات.

          عندما أهم بفتحه، كان يختفي على الفور، كأن الولي الملتصق بقاع الصندوق سيخرج ليجرده من كفيه مجدداً. عندما خرجت آمناً في المرة الأولى، ظل ينظر إلي غير مصدق. ربما رهب جانبي منذ ذلك اليوم، مصدقاً أن ولي الله هو أبي، بدليل أنه لا يصيبني بأذى ولا يقطع يدي رغم أنني أفتح صندوقه وأسرق الأموال والرسائل التي يجب أن تبقى سراً بينه وبين مريديه، تماماً مثلما حاول قاطع الطريق أن يفعل ذات يوم.

          بمجرد أن أتممت الثامنة عشرة، صرتُ وصياً على الصندوق ومؤتمناً عليه، أُعطي الحارس والخادمة نصيبهما، وشيخ الطريقة نصيب رجال الطريقة، وكان الباقي هو نصيبي.

          ـــــ أين المخطوط؟

         جعل سؤاله الجاف الآمر جلدي يتجعد. قبل أن أفكر في رد، قال وهو يدير عينيه في أكداس الكتب بالمكتبة:

          ــــــ إنه يريده..

          لم يكن من الممكن أن أقول له إن الحياة التي يريد أبي استردادها الآن، تحولت لشئ آخر، لحياةٍ أخرى كالموت، أو ربما لموتٍ مثل الحياة.

          كنتُ الشخص المكلف بكتابة حياة أبي، أو بالأحرى حيواته وميتاته في مدن المنام، لكني بدلاً من ذلك، بتؤدة وعلى مهل، وبشعورٍ قاسٍ بالذنب ما لبث أن تحول لخطيئة يوميةٍ، جعلت من المخطوط الغامض مكاناً لكتابة حياتي.

          

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم