كانت المدينة شوارع ضيقة و حارات و بيوتاً ؛ و شجرة زيتون استقرت وسط المدينة تماماً منذ خمسة و ثلاثين عاماً ، لم يتبق لها سوى أعوام خمسة لتصل ذروة عطائها و قمة نضجها ، تمتد جذورها أمتاراً تحت الرض ملتفة دائرياً بقُطر هائل حول ساق الشجرة من أسفل .جوار الشجرة من جهة مسجدٌ متهدم في أغلبه ، كرجل في التسعين من عمره ، و من جهة أخرى بيت متبق من عصور زائلة لا يسكنه أحد منذ زمن ليس بقريب . و كما كان البيت العتيق لا تسكنه روح و لا يملؤه جسد ؛ كان المسجد ” الأوسط “ لا يرتاده إلا عجائز ثلاثة يؤمهم عم ” حسن ” الذي يؤذن و ينظف و يراقب .
لم تكن ككل مدينة ؛ و كانت ككل مدينة ؛ تنبت الأحلامُ فيها كل لحظة ؛ ثم تموت ذابلة قبل ان يرويها ماء أو تدفئها شمس. لكن الباحثين لم يسأموا يوماً ، و العابرون كانوا يتزايدون مع كل غروب ؛ يعبرون أو يمكثون.
عمّ ” حسن ” نفسه كان عابراً لحظة غروب ما ، كان أصغر سناً و أقل شيباً بكثير، يحتضن مزماره الذي كان يسميه ” الغاب” و الذي صنعه بنفسه من ” البوص” حين أدخله النار يسخن و يرتعد و يمتليء بالحنين حتى يصبح جاهزاً للحكيو البكاء و الغناء ثم فتحه من أعلى فتحات عدة و سماه ” الغاب” ، يحمله في كفه الممتلئ ؛ و عيناه لا يثبتان نحو اتجاه . يعزف و يغني و يحكي ، و لا يوقفه إلا موعد الآذان فيُصمت مزماره و يؤذن بصوت دافئ.
كان يسكن المسجد أوقات الصلاة و ما قبلها بقليل ، و يعتلي سطحه باقي الوقت ؛ يعزف و ينزف و يبتسم و يعبس و يحكي بغابه ؛ لا يسمعه أحد سوى الطير و المخلوقات الصغيرة ذوات الأذان الأكثر حساسية ؛ كان يحكي و هو يراقب ، يغني و عيناه تمسحان المَشَاهد أمامه و حوله ، تبعث عيناه تسجيلات فورية و تطمئن فؤاده أنه ما زال حياً ، فقد كان يحب الحياة و لا يريد تخيل انتهائها ، يعلم المعجزة و ُقّدر المنحة و يقّدس الروح فيه ، ربما كان توثيقه للحكايا وسيلة للبحث عن الثغرة ، عن النقص الذي يجلب النهاية و يُعجّل بالانتهاء ، فالروح واحدة ؛ والأجساد لا نهائية و التجارب لا تكتمل أبداً .
ولأستمرَ في الحكي ؛ فرضٌ أن أستمر في المشاهدة.
كرامة
كانت الطفلة السمراء ذات الشعر الأسود و العينين السوداوين ساكنة بين ذراعي أمها ، عيناها تكادان تدمعان لكن يمنعهما كبرياء أو قدرة على المواجهة قد التصقت بها منذ بدء هجوم المرض المراوغ على دمائها، كانت ترتعد و هي تُلصق نفسها بصدر أمها الدافيء رغم أن جسدها كان يصرخ من ارتفاع حرارته ؛ من غليانه ، تحملها أمها بين ذراعيها تجوب بها المكان الضيّق علّها تنام فيسكن شعورها بالوجع فترة .
كانت خفيفة كفرخِ طائرٍ خرج للعالم فوراً .حين استكانت قليلاً و بان أنها نامت ؛ حاولت أمها وضعها على السرير الخشبي العريض ؛ كانت أصابع الأم تلمس كدمات و بقع زرقاء انتشرت في جسد طفلتها دون سبب ظاهر ،كانت الطفلة تئن من الجوع في خفوت لكنها ترفض الطعام لأنها تعلم أنها ستعيده مرتجعاً من فمها مرةً أخرى ، و لم تستطع النوم سوى لحظات ؛ فقد انكتم نَفَسُها و شهقت و زفرت بصعوبة و ضيق.
حملتها الأم مرة اخرى بين ذراعيها ؛ حملتها بين عينيها الواسعتين ؛ بين قلبها و روحها ، ثم جلست بها و هي تستند جنب السرير ، تطاردها أمنيات الشفاء أو الخلاص ، تلاحقها كل لحظة مشاهد موجعة لطفلتها التي تواجه اختبارها المكتمل قبل أن تعي نطق جملة كاملة . كانت تجربة . كان الألم ؛ و كان الأمل في ألم أقلَ فقط ؛ ذلك حلمها كل لحظة . كان الوقت قد عبر منتصف الليل بمرحلة واسعة ،
و لم يتبق على الفجر سوى ساعة أو اقل أو أكثر قليلاً ، الأفكار في رأسها لا رابط بينها سوى الخلاص أو العودة لنقطة ما قبل الصفر ، قبل الخلق ، أن لا تكونَ أصلاً ؛ فلا تكونُ طفلتها و لا يكون الألم . جرّبت كل ما نُصحت به و اختبرت كل وصف و دواء ؛ ذهبت لأطباء و شيوخ و قساوسة .
من أعطاها علاجاً للمعدة و من وصف لها دواء للبرد أو مهدئاً ، أشعة مقطعية و سينية وإيكو و رنين و غيرها بأسماء كثيرة و مصطلحات بلا نهاية .و الناتج دوماً كان خواءً أو تساؤلاً متعجباً عن الحالة الغريبة .
كان الوقت سواداً و الأصوات منعدمة تقريباً إلا من احتكاك سيارة مسرعة بالأرض المتربة ؛ أو نباح متقطع لكلب بعيد . لم يتبق لها من طريق سوى الغريبة الأخيرة التي اندسّت في المدينة الصغيرة بزيّها البدوي الغريب على العين ؛ بابتسامتها الرائقة ؛ و نظرتها التي تحتضن عين الناظر المنظور إليه ، لن تخسر شيئاً ، فأسوا الاحتمالات ليست اكثر سوءاً مما تعيشه و يحتويها هي و طفلتها الصامدة .
” ريحانة ” ربما تكون الحل . حتى لو كانت الطريق الأسرع للنهاية ؛ فالنهاية السريعة أكثر رحمة من الشفاء المأمول كحلم لن يتحقق أبداً .
حين طرقت الباب طرقة واحدة حادة ؛ كانت تضم طفلتها لصدرها بقوة الخائف المرتعد ، فتحت لها الباب ” ريحانة ” بنفسها فخفضت ناظريها و ازدادت رعشتها كأن ارتعاد جسد ابنتها الضئيل قد مسّ روحها أو كأنهما صارا جسداً ملتفاً حول ذاته .
حين مدّت ” ريحانة ” ذراعيها لتحمل الطفلة ؛ تقدمت لها الأم برفق مستسلم ، بعينين آملتين ، احتضنت ” ريحانة ” الطفلة و أدارت ظهرها متجهة للداخل تتبعها الأم في خطوات ثقيلة سكرى . كانت الأضواء بيضاء واضحة ، تُظهر الأرواح من تحت أجسادها ، ترى القلوب أجسادها في وضوح و تلذذ شيق ، حين جلست ” ريحانة ” على الأرض و هي تحتضن الطفلة الواهنة ؛ جلست الأم متربعة أمامها تماماً ، تواجه ما لا تعرف ، و تأمل فيما لا تفهم ، كانت عيني “ريحانة ” قد غرقتا تماماً في جسد الطفة ، في كل تفاصيلها ؛ التقيتا بعيني الطفلة و امتزجتا ، كانت تلمس أناملها الهادئة الواثقة كل خلية و كل نقطة من جسد الطفلة ، لم يكن توهج الصغيرة بالحياة مفاجئاً أو دفعة واحدة ، بل كان تدريجياً هادئاً منظوراً ، كانت أنفاس الطفلة تعلو ، تتضح ، اتسعت عيناها للحظة لتشمل الكون كله ، لتشهد البداية و المراحل في ومضة محببة للنفس مريحة للروح ، كان صوت عم ” حسن ” يتردد في السكون مؤذناً لموعد الفجر ؛ و الطفلة قد سحبت أمها خلفها من ذراعها و هما تخرجان من الباب بخطوات خفيفة ؛ مودّعين ” ريحانة ” و المدينةَ ببسمة صافية واثقة ، يحملان بضعاً من ” ريحانة” ؛ قَبَسَاً من روحها .
لم تكن الأم ضئيلة الجسد و ابنتها السمراء كملاك مسالم أول الفيض من كرامات ريحانة ” وأعاجيبها ؛ بل سبقهما كل أهل الحي و بعض سكان المدينة ، كانت تمسح على رؤوس النساء لينجبن ذكورا أو ليشفين من العقم ؛ كانوا يصنعون قطعاً مختلفة الأشكال من الخبز كقلوب أو أجنحة ملائكة ؛ كانوا يسمونه ” عيش ريحانة” ، يضعون الخبز في الأواني البلاستيكية المتراصة لصق الجدران داخل بيت ريحانة. لم تمتلئ الأواني بالخبز ابداً و لم تفرغ منه ، حين أيقن الناس من قدرة روحها على النفاذ لأرواحهم ؛ على انقاذها من ضربات الحياة المؤلمة ؛ كانوا يغنون لها ، كان الزائرون يدورون حلو منزلها ثلاث مرات و هم حاملين قطع الخبز الجافة ، يحلمون و يغنون :
يا وردة الريحان يا وجهة الغلبان
يا ام الشال اخضر يا شافية للتعبان
تسعى لك قلوب دافية ما تهاب من السجان
كان عم ” حسن” يراها في أوقات متناثرة متجهة نحو الطريق المؤدي للمدينة ؛ تظهر حاملة قُلّة للعطشان أو خبزاً للجائع ؛ و كما تظهر فجأة تختفي بدون أن ينتبه أحد ؛ كانت روحاً لا تستقر و لا تهدأ سوى بين جدران منزلها المجاور للمسجد ، و كأنها ولدت و تربت و نمت و عاشت فيه طوال عمرها ، و كان هذا من أعاجيبها ؛ فقد اتفق الناس على عدم المرور جوار المنزل الفارغ من عصور ولّت ؛ و لم يكن يمر جواره سوى العجائز الثلاثة المصلين و عم ” حسن ” . أما ” ريحانة ” فقد أقامت فيه منذ دخولها و ابيها و حمارها ؛ دون أن تخاف شبحاً أو ترتعد من ذِكر جن أو مخلوق سفلي ؛ فلم تكن تلتفت لكلمة من أحد .
***هكذا دخلت ” ريحانة” باب المدينة الموارب للعابرين :
يَلوحُ خيال مهتز في الأفق ، يرنو من بُعد ، حمار يجرّ عربة ؛ و العربة تعلوها عصّي من الغاب ، تقع على أطراف الكارو ، و تلتف حولها قماشة بلا لون تقريباً ، بكل الألوان ، و الحمار يتهادى ببلادة اعتيادية جارّاً وراءه الخيمة المحمولة ؛
كانت تخفي ما تخفي ، و ظلت حتى النهاية تخفي ما تخفيه ” ريحانة ” عن الجميع. متى انتبه أحد لوجودها ؟ متى أدرك أحد استقرار كيانها في المدينة ،
لا دليل و لا برهان سوى حكاية عمّ ” حسن ” الذي يراقب المدينة ليل نهار من فوق المئذنة العتيقة ؛ قال انها استقرت بالركب الصغير لوهلة جوار عربة ” عبده ” الفكهاني ، كانت أصغر الركب الضئيل سناً و حجماً لكنها كانت تقودهم ؛
ثم استكملت سيرها متمسكة بيد امرأة عجوز يتبعها أبوها في تسليم راضٍ نحو البيت المجاور تماماً للجامع ؛ و الذي استقرت فيه حتى خروج روحها للأكثر رحابة الذي يسعها و يسع أمنياتها .
و كما رآها عمّ ” حسن” خيالاً مهتزاً يرنو من البُعد نحو المدينة حين قدومها ؛
رأى روحها خيالاً مستقراً فوق سماء المدينة يحيطها بذراعين أبديين حين رحيلها .
……………………
ما قصّه “عبده ” الفكهاني عن معرفته الحكاية من أولها :
لا مكان لها ؛ و تتعلق بكل مكان ، و بكل واحد ؛ ثم ترحل دون أن تحاول أن تعرف عنه شيئاً ؛ إلاّ هنا . تعلقت روحها بمدينتنا و لم تتركها إلاّ لتعود لعالمها الأصيل . جاءني أبوها يوماً يسأل ستراً و رزقاً ؛ فهديته للسكن و ” نصبة” الشاي ، لم أسأله عن حكايته يوماً ؛ لكنها حكت لي ، رغم طفولتها كانت تعلم الكثير . كانت تروي لي في سلاسة موت أمها تحت “حديد القطر “، صراخ أبيها ، محاولته رمي نفسه مثلها، كيف قيّده المحيطون ، كيف صارت أمها قِطَعَاً، كيف ظلت عينا أمها تنظران نحوها ، كيف ظلّ ذراعا أمها يحملانها ليلاً ؛ تمشي أنامل الأم بين شعر رأس ” ريحانة ” الطويل الأسود ، تحكي لها حكايتين ، تطير بها فوق كل الأحداث ، تروي لها ما صار و ما سيصير ، تخبرها عن مدينتنا ، عن الجامع و المحبين و حكايات الليل، عن موت أبيها بعد سنين تحت نفس الحديد ، عن الأطفال و القطط و الملائكة ، و عن ” حسن ” مرآة الليل و الأسرار ، حكت لها عن النيل و عن العابرين و عن زواجها و موتها .
دُهشتُ ساعتها من خيال فاق خيال العاشقين ، لكّن الأيام أرتني ما رأَتْ و ما حَكَتْ .
كانت ” ريحانة” تحب الأطفال و تصادقهم ، تلاعبهم و تقص عليهم حكاياتها ، و كان الأطفال يحومون حولها و يتمسحون بساقيها كصغار حيوانات أليفة أخلصت لمُطعمها ، كانوا يصمتون حين تحرك شفتيها أو تنظر لهم ناوية الكلام ، كانوا يشعرون بأنها ستقص عليهم خبراً لم يألفوه ؛ أو حكاية تملؤها الأعاجيب .
و هي كانت تحبهم أجمعين ؛ و تفضل عليهم الطفلة ذات الشعر الأسود و العينين السوداوين – كانت تشبه أمها – ، و الطفل الأسمر – كان يشبه أباها – . حكت لهم مئات القصص و آلاف العِبَر و عشرات البطولات، حكت لهم عن ” عبده ” و عن ” حسن ” و عني ، حكت لهم عن أمها و أبيها و عن القطار و حديده ، علمتهم الرسم و غنّت معهم ، روت لهم قصة ” حمارها ” و عربتهم ” الكارو ” و لم تحك لهم قصتها هي سوى مرة واحدة . مرة أخيرة .
كان يوماً بارداً ممطراً و عاصفاً ، صوت الرعد متقطع متكرر ، و السماء تضيء بغضب للحظات ، كانت ” ريحانة ” تحس دنو يومها ، قرب تحقق نبوءة أمها ، ستحكي حكايتها و ترحل في جلال هادئ .
حمدت ربها و شكرته كثيراً و قبّلت كفّها الأيمن ظاهراً و باطناً .. ثم نظرت للأعلى و حمدت ربها ثانية ، و قالت :
لم تلدني أمي ؛ إنما خرجت من ضلعها ، كنتُ جزءاً منها و كانت كلّي ، و الوقت لا يتكرر ، إنه المنحة الوحيدة في الحياة التي لا نستطيع استعادتها ، اللحظة ستعبر بأي حال ؛ إن كانت جميلة فاقتنصها فلن تتكرر ، و إن كانت مظلمة فتكيف معها لأنها ستعبر ايضاً ، الوقت منحة ؛ و الحياة منحة ؛ نحن مُختارون ، We are chosen ؛ لا أوقن أين سمعت هذه العبارة أو قرأتها ، لقد تم اختيارنا نحن تحديداً لنحيا ، لننجو طالما استطعنا لذلك سبيلاً ، أؤمن أن هذه المنحة لن تتكرر ، لن تتكرر بهذا الشكل ، بي كما أنا و بكم كما أنتم ، النِعَم كثيرة و المتعة متاحة كل لحظة ، تذوقوا الحياة يا أبنائي ، جرّبوا مذاق كل شيء ؛ فربما لا تنعمون بهذه التجربة ثانيةً ، و ربما تنعمون بها فتكون لكم خبرة بمذاقها ترشدكم للطريق ، فتعلمون اين تضعون أرواحكم ؛ و أجسادكم الفانية ، الروح هي الأصل و الجسد لباسٌ بفترة صلاحية محدودة ، لكنه جزء منك ؛ فأرحه و أسعده ، روحك هي أنت ، خفيفاً باحثاً عن السر في كل ركن .
الموظف
متمهلاً يمشي جانب الطريق ، تعبر السيارات حوله مُسرعة عند النقطة جواره تماماً ؛ فتنقبض روحه لوهلة ، ثم يكمل مسيرته الصباحية ، فتستقبله في نهاية طريقه أمواج من البشر و الموتوسيكلات و التريسيكلات و عربات الكارو و عربات النقل الضخمة المحملة بالمجهول ، تقابل عيناه الأرملة و المطلقة حديثاً و ابنة الهارب و ابنة المسجون ، يميزهن من ملابسهن و طريقة نظراتهن للموظفين الصامتين كأصنام عتيقة ، بسهولة يميز زملاءه ؛ حتى الذين لا يعرف وجوههم –فهم كثرة- من اصطناع واضح كهزل كرتوني سينمائي ، يعبر الطريق الأخير قبالة البوابة الهائلة و هو يقبض بكفّه داخل جيب بنطاله اليمين على جهاز اتصاله المحمول ؛ يتأكد من وجوده كل لحظة ؛ ثم يخرجه واضعاً إياه داخل جهاز التفتيش وسط البوابة ، فيتلقاه من الداخل و قد اضطرب قلبه لحظات غياب الجهاز عنه ؛ يكمل خطواته المتمهلة نحو المصعد الحديث ، ينتظر دوره في استسلام بين مجموعة متباينة من مخلوقات الرب الرحيم ، و هم يتوقعونه موظفاً من نظراته المتارخية و رائحة ملابسه النظيفة المختلطة ببخّات لعطر هاديء فيسألونه عن الطابق الذي يعمل منه الأستاذ ؛ يشير لنفسه بسبابته ؛ فيتنهدون عميقاً .
–عاوزين الورقة لاجل ترتاح في مكانها …
–انتم الورثة ؟
–مالهاش مخلوق .
يتبعون خطواته في اضطراب ناظرين لحذائه الرياضي ؛ يجلس خلف مكتبه الخشبي مسترخياً ؛ ثم يطلب منهم أوراقاً و توقيعات فيقدمون له غلافاً ورقياً ممتلئاً بأوراق ذات أحجام مختلفة يقرأها كلمة كلمة و هو يتلذذ بقهوته الأولى ؛ و الثانية ؛ و السابعة ، و لا يرفع بصره نحوهم أبداً .
يقرأ و يرشف و يقلب شفتيه ؛ يطالع أختاماً و خطابات رسمية و أوراق صفراء و صوراً باهتة ، يُقلّب شهادات حكومية و كتابات بخطوط طفولية ، قصاصات و أظرف و بطاقات أعياد و صور قديمة . انسكبت حياتها بين أنامله و تسربت لكل خلاياه ؛ ذُهل و ابتسم و بكى ، تألم و صمت و تأوّه ، كان اسمها موجوداً في كل ورقة ، كل قصاصة ، كل جزء من ورقة ، ” ريحانة ” ؛ كلما قرأ اسمها استراح و هدأت روحه .
وسط قراءته رفع بصره فجأة نحوهم و سأل عن عمّ ” حسن ” كان واقفاً أمامه تماماً يتقدمهم جميعاً بجلباب سماوي باهت و فوق كتفه قد التفت عباءة ذهبية كالحة كوشاح سميك ؛ أمر الجميع بالرحيل ثم طلب منه الجلوس على المقعد المواجه للمكتب الخشبي . لم يسأله أو يوجه له أي إشارة بأي فعل .
اكتمل غرقه بين الأوراق و الحكايات الناقصة ، ذاب وسط البدايات التي بلا نهايات و النهايات التي لا تبدو بداياتها واضحة اندفع يلتهم ما بين يديه ؛ عيناه تروحان و تصعدان و تجريان يميناً و يساراً كان جسده يلاحق عينيه ؛ يحاول إعادتها مرة أخرى ، لكنها كانت تهرب سريعاً راكضة وراء الحروف و الصور ، كانت عيناه تلاحق ” ريحانة ” في كل لحظة مرّت بها ، و جسده يعدو خلف عينيه ، عيناه تعدوان خلف ” ريحانة ” ، و ” ريحانة ” تحلّق عالياً ، تبتسم و تحيطه بذراعيها الدافئتين ،و هو عالق لا يستطيع انعتاقاً .
فقد الزمن لفترة لا يعلمها إلا العليم القادر ، ثم وجد نفسه مكانه يتصبب عرقاً من كل ذرة في جسده ، وقّع على الورقة المطلوبة ، ختمها ؛ ثم طلب من عمّ ” حسن ” أن يسمح له بتصوير كافة الأوراق و الصور .. منحها له بعده في صمت ؛ و انصرف الرجل .
مضت ساعات عمله و كأنها دهر بلا نهاية ، حمل ثروته تحت ابطه يحيطها بذراعية رقيقاً ؛ حتى وصل منزله و غرفته و أغلق بابه خلفه ، عاد يقرأ بتمهلِ مسافر قبل التاريخ بتاريخ ، حينها تجلّت ” ريحانة ” أمام ناظريه و احتضنته عميقاً حتى ذهبا سوياً يكشفان ما حدث .
ما كان بين عم ” حسن ” و ” عبده ” الفكهاني : –
–و ماله .. كل سقطة و ليها لاقطة …
كان صوت عم ” حسن ” مهتزاً خافتاً و هو يوميء برأسه لأسفل و أعلى مرات ؛في حين كان ” عبده ” الفكهاني حاسماً في وقفته ، حاسماً في نظرته ، لا يهتز و لا يلين ؛ و قال لحسن :
“تقرا مزاميرك على مين يا داوود” ؛ لمّا تشوف هتوعى .
يتذكر عم ” حسن” اعتراضه على سكن ” ريحانة ” و أسرتها الصغيرة البيت الملاصق للمسجد ، و لم يكن لرأيه أهمية بكل الأحوال ، لكن ” عبده” أخبره من باب اللياقة كجار للقادمين الجدد ، و ” حسن ” أعلن اعتراضه كون ذلك سيُغضب السكان الاصليين من مخلوقات الرب التي يُهدئها بأذانه و ” غابه ” لتظل على حالها لا تؤذي أحداً ، كانت كلماته في أول الأمر حادة مضطربة تتكيء أساساً على خوفه من أن يراقبه شخص آخر .
كيف يحدث له هو هذا و هو المُراقب و المُشاهد للراحين و الغادين ، و المغامرين و الهاربين من حيوات لم تعد تُحتمل . و لم تكن كلمات ” عبده ” أو ثورته على حسن ” هي سبب تراجعه و خضوعه ، لكنهما العينان ، لكنه الصوت ، عينا الصغيرة الملائكية ” ريحانة ” و صوتها الباعث للحنين و الدفء ، هي من تقدمت أسرتها و هي من تحدثت ، و هي من كبّلت كل من واجهها بعينيها السحريتين اللتين تحويان زهوراً و ألواناً و أغان لا يُسقطها الذهن أبداً . عيناها اللتان ترى فيهما حلمك متحققاً لا ينقصه سواك ، كان حسن يذكر أول مرة رآها تراقب و رأته يراقب ، كانت بعينيها تحوي المشهد كاملاً أما هو فكان جسده يتضاءل و روحه تتمدد ليعزف بآلته البدائية خلفية شارحة ، مُنبئة ، مُوثّقة لما يصير ، امتزج ” حسن” كجزء صغير في عالمها دون اعتراض أو رفض ؛ بل برجاء لاستمرار لا ينقطع . و بينما كان يرى و يشاهد ليحكي يوماً ما ، ما صار و ما جرى ، كانت هي تراقب لتعرف الحلم و تفهم الرغبة و الأمل ، تنسج أنشودة من حياة فسيحة تكفي الجميع ،و تفيض بأحلامهم بين أيديهم و أمام عيونهم .
بدأ يحكي لعبده ما يراه كل ليلة ، غير مهتم بغضبه الأوليّ كون ” حسن” يراقبه هو ايضاً ، لكن ” عبده ” حرّك ” القوالح ” بالماشة” الصدئة بعد أن هدأ و استكان ، ثم أمره أن لا يتكلم في هذه السيرة مرة أخرى ،
– دي سيرة بهيّة .. اللي يشوفها يتفرج في سكات .
و كان ” حسن ” يُطيع ” عبده” بلا نقاش دوماً .
هكذا أنهى ” عبده ” الحديث عن ليال المراقبة و الرؤية ؛ تاركاً عم ” حسن ” يدخل العالم البهيّ وحده ، مكتفياً بالحذر في خطواته القادمة التي يراقبها
” حسن ” و تعلمها ” ريحانة. “
ما حكاه عم حسن عن ” ريحانة ” :
عمّ ” حسن ” يتذكر ” ريحانة ” يوم أجبرت أباها على أن يُفّصل القماشة القطيفة الحمراء التي اشتراها لجدتها فستاناً لها هي ، مع أنها لم تكن تعدّت العاشرة؛ قال عم ” حسن ” أنها 🙁 كانت بنت حرام من يومها ) ،
و أنا ضحكت و قلت له ( اتق الله يا شيخ الجامع ) .
آخر الليل جلست معه نحاول اختراق الظلام بعيون صامتة ، ينخلع قلبانا نحو المدينة فنراها مجتثة من رقبتها ، مواربة ساقيها للعابرين .
كانت أيدينا تصفق للعرض الكلاسيكي و في ذات الوقت تضرب بقوة فوق أقفيتنا ، لكن دماءنا تنكمش مذعورة ، تفّر من أنوفنا و أفواهنا ، فنصير كممياوات أبدية ، تهتز ضمائرنا بعنف ، كمدمني حلقات الذِّكر ، نردد كلمات بمعان لا نهائية ؛ و لا نفهم معنىً واحداً .
قال لي ” هل تذكر زمن الخطابات ؟ ” ، هذه الأوراق البيضاء و الملونة ، المحلاة بزهور أو ألوان شفافة ، تلك الغارقة في بقع من العطور الهادئة أو الزاعقة . صرنا كباراً فجأة ، باتت طفولتنا و صبانا تاريخاً ، ربما يُحكى و ربما لا . لم نكن وقتها نتراسل برسالة الكترونية ، لم يكن في بلدنا جهاز كهربي أصلاً ، كنا نُحّس ، كانت لنا مشاعرنا الخاصة ، لم تكن هناك رنّات موبايل تتغنى باسم حبيبتك ، و لم تكن هناك نماذج جاهزة لرسائل تُعبّر عن العواطف ، رسائل حب مُعدّة سلفاً ، نماذج تختار من بينها أقربها لإحساسك ، لا يتركون لك حتى فرصة الشعور الحر ، عليك أن تختار قالباً يخصهم ليُعبّر عنك ، فلتختر ألوان قيودك و مقاساتها .
” ريحانة ” كالخطابات القديمة ، لها لون و رائحة ، الخطابات القديمة حيّة ، و ” ريحانة ” حيّة” دوماً .
كان عشاقها يزحفون وراء ظلها ، يتنسمون نسائم احتكاك جسدها بالهواء ، تهبهم نظرة كل فترة تطول أو تقصر ؛ فيُذهلون عن مواضعهم ، لكنهم لا يقتربون منها أو من بيتها ؛ كأن سياجاً كهربائياً يحيطها يصعقهم حين اقترابهم فيبتعدون ؛ يحومون و يحلمون و لا يقتربون . إلا هو ؛ لم ترفع عيناها عنه أبداً ، ذاب بروحها و امتزجت بروحه ؛ تناغما و تماسّا ، اختلطت أرواحهم و عظامهم و انسكبت دماء كل واحد منهما في جسد الآخر ، حين وقف أبوه سداً أمامهما هددّ و توعّد بالبابور و الكبريت ،سكب الجاز في انتظار تراجع الأب أو احتضان الأم ، أشعل حياته في لحظة ؛ و انتهى . لكنها لم تذبل و لم تتوار ، تزوجت لتّصمت الجميع ؛
انتقته أكثرهم عجزاً و أضعفهم ، بُهتوا و هللوا لكن سياجها الكهربي اتسع ،كانت تبحث عن المحبين ، تمنحهم المكان و الوقت و السترة ، تنقلهم لعالمها ، يدخلون و لا يخرجون .
طويل عريض هذا الشارع ؛ و مسدود من الناحيتين بالبشر ، أكوام من الناس متلاصقين ، كلهم ينظرون لأعلى كلهم مبحلقة عيونهم متسعة أحداقها ، غمغماتهم تطغى على اصوات الميكروفونات وبائعي الخضار ، حتى اصطكاك صاجات بائعي العرقسوس صمتت ، أمّا نداءات بائعي الخبز و شجارات السائقين فتوقفت ، كأن سهام آلهة الصمت أُطلقت من السماء تُلصق شفاههم ببعضها ، شهقة جماعية فغمغمات فصمت ، فشهقة.
كان المسجد ، و فوق المسجد مئذنة ، جوار المئذنة تمتد أسلاك الكهرباء ، و بين الأسلاك ، تتمدد قطة .
لا يعرف أحد كيف وصلت هذه القطة لهذا الوضع الغريب ، أظافرها ناشبة حول السلكين المتطرفيْن و بطنها تمددت فوق الأوسط ، لم تكن تموء ،لكّن رعب العالم كله استوطن عينيها ؛ فأطلقته نحو الجمع ، هل استوعبَتْ أن الكهرباء ستقتلها إن لم يقتلها السقوط من هذ العلّو ، أم أنها كانت مرعوبة من كل هذا الحشد الناظر إليها ، ماذا يريد الحشد منها ، كلما زادت غمغمات الواقفين ارتبَكَتْ ، تكاد الأسلاك تلتصق فيشهقون ،كانت نهاية الأسلاك من ناحية اليمين بيت عال ؛ فوق سطحه تربّعت ” ريحانة ” ، وضعتْ أمامها طبقاً مُليء ” لبناً” ثم بسبست بصوتها ذي البحّة التي تدعوك للعناق ؛ فصفّق الجميع ، و هي انتظرت حتى أتت القطة كبهلوان رقيق ، ثم انتهت من لعق اللبن و الطبق و فمها .
بعدها مدّت ” ريحانة ” يدها و أمسكتها من ظهرها بلطف .
ثم ألقتها من فوق السطح بهدوء .
…….
حشرات كثيرة .. بق و قمل و براغيث تجوب رأسي ، تأكله و تحرقه حرقاً ، تنخر دماغي و تُعشش في ثقب جمجمتي ، فأشتعل ؛ و لا يحميني سواكِ ، حين تنحني رأسي بين ذراعيك ، تهدهدين أفكاري في صدرك ، ثم تعيدينها لي منقاة مرتبة صافية ، حين تضمين شفتيك السماويتين ، فقط لو تكوّرتُ و سكنتُ قلبك ؛ فقط لو يتركني العالَم بكِ قليلاً ، حينها ، سأكون أنا ، أنا الذي اعتدتُ أن أنظر أولاً لقدم الشخص أمامي ؛ لأصابع قدميه ؛ تحديداً لأظافره ؛ ربما كانت عقدة نفسية ، أو خللاً في عقلي ، ربما كان حتى اضطراباً في أمعائي ، أو أي مما يقذفه أصحاب الكلام في أذنيّ ، لكنني اعتدت هذا مذ كنت صغيراً أحبو بين أقدام الكبار ؛ أعبث بأظافرهم الصلبة الناعمة، المختلفة تماماً عن ألوان جلودهم الوردية أو الغامقة ؛ كنت حتى أحاول قرضها بأسناني ؛ فيضحك مني الجميع ثم يحملونني و يقذفون جسدي الصغير لأعلى كي أضحك ؛ فأبكي . و لا تترك عيناي هذه القطع الصغيرة الصلبة أبداً ؛ لكّن أظافر ” ريحانة ” كانت كالبللور ، شفافة باردة ، عندما أضغط عليها بأصابعي الصغيرة تثور كوجنات الصبايا الخجلات ، كنت أراها كوجهها تماماً ؛
و كذلك كنت أرى وجوه الآخرين في أظافر أقدامهم ، أظافر عابسة أو ضاحكة ، عنيفة أو رقيقة ، أظافر خبيثة و أخرى ساذجة ، كنت أحب ” ريحانة ”
لأنها الوحيدة التي لم تكن تقذفني لأعلى حين أعبث بأظافرها ، كانت تتركني أضغطها و أتأملها أو حتى أُقبلّها . كنت أحب ” ريحانة ” و كنت أيضاً أُشفق عليها .
…………………..
ما رويته بنفسي لنفسي :
ساخراً كان النيل و صامتاً ، ناظراً نحوهما في حكمة العارف المستمر ، كانت عشش الدجاج و أبراج الحمام مصفرة مكفهرة من الهواء المُحمّل بالتراب الناعم ، و كل واحد منهما يعيش على أحد طرفي النيل الذي يقسم المدينة لنصفين متنافرين ، متوازيين .
قال لها أن قلبها باتساع حياته ، باتساع الحياة ، عيناها بَراح الزمن ،و صدرها الدفء كله ، كانت رحبة كجنة أبدية ، و فائقة الروعة كاكتشاف لون جديد للوحة جديدة ، حكاياتها أذهلتهُ و لم يكن ليُذهل من حكايا أنثى ، أو حكايا ذكر ، يراهم جميعاً عالقين في المنتصف دوماً ، يرهبون الهبوط و يستميتون في النزوح فوقه ، و يهابون الصعود خشية فقدان ما تحت أقدامهم ، رغم هشاشته ، يظلون هكذا ، و تظل هي شذوذ اثبات القاعدة ، كان النيل يفصل بينهما ؛ و تجمعهما ” ريحانة” ، في بيتها يكون اللقاء ، و بين جدرانه تتولد الحياة ؛ و ينتشي المحبون ، كانت تأوي الصادقين ؛ و تحب المحبين ؛ تمنحهم من الحياة حياة و للحياة حياة .
كل ليلة منتقاة نترك أرواحنا تحركنا ، نسير مبتهجين نحوها ؛ و دوماً تنتظرنا ” ريحانة ” أمام بيتها غير عابئة بالعيون الساخطة أو الحاقدة أو الجاهلة ؛ و بينما تكون هي جنتنا كنّا نحن نيرانها و عقابها الدائم ، كانت ترانا نخلق كل يوم حياة من حياة من حياة و هي ترنو بحسرة نحو تجاعيد ذراعيها المكشوفين ؛ و رعشات يديها النحيلتين …
…………
الزوج:
آخر فرد في الشارع و الحي و المدينة كلها يحسبونه حين يعدّون الرجال الأشداء أو الشباب الفحل أو الذكور ذوي الشخصية الواضحة أو أصحاب الأموال المعقولة ؛ لم يكن موجوداً بمعنى أدق . كان مجرد جسد ضئيل يسكن رِفق أمه غرفة منزوية خلف المسجد ؛ يتنقلون طوال النهار تبعاً لوجود البنايات الحديثة ؛ كحارس لمواد بناء نهاري أو كمساعد لأمه في تقديم الشاي و المياه للعُمّال ، كان نكرة بالنسبة للجميع حتى مقارنةً بأقلهم شأناً .
لم تنم عيناه أبداً ، نصف مغمضتين لكنهما يقظتان دوماً ، يبحثان عن حياة غير الحياة ، عن حلول أو عطايا . كانت ” ريحانة ” بالنسبة له شمساً حارقة أو نجماً بعيداً لا يفكر في مجرد التفكير فيه ، لكن عينيها امتزجتا بعينيه مرةً فلم يبرحاهما ، احتضنت روحه – التي لا يراها و لا يحسها أحد – روحها الطليقة التي يراها الجميع دوماً في أحلامهم و أمانيّهم ؛ اختارته دوناً عن شوارب عريضة و أصحاب محال و شباب مشتعل بمستقبل منتَظَر .حين أصابه العجز في يده و ساقه بعد زواجهما بفترة قصيرة ؛ أيقن الجميع أن نظراتهم الحاقدة قد أتلفت الزوج المسكين ؛ لكن فرحاً خفياً و حقيقياً تسرب بين الجمع ؛ كونها ستحتاج ذكراً ثانية ؛ كون الفرصة متاحة لمحاولة اخرى ، لكنها تشبثت بروحه اكثر ؛ تعلقت به كأمل وحيد للنجاة ؛ و ربما كان عناق روحيهما هو ما زاد قدرتها على لمس أرواح الضعفاء و اكتساب آلامهم ، كانت تمتص داخلها كل انكسار و وجع ؛ لتخرجه أملاً و حباً في حياة تراها فرصة الفرص و أفضل الممكن و المستحيل ؛ و كان هو متقطعاً متشظٍ بين آلام جسده الذي يتضاءل أكثر و بين روحه التي تحمل همّاً و غمّاً لا ينتهيان . كان يفكر كيف لو أن اختفاء ” ريحانة” من حياته ربما يعيد له حياته ؛ لكنه كان يجزع للفكرة رغم أنه يراها خلاصه الوحيد و الطوق الاعجازي الذي يجب أن يُقدم له . لكن الحياة كانت قد اتخذت خياراتها من قبل الأزل بأمد طويل.و لم تكن أفكاره الموؤدة لتتحقق و لو تمناهاو جاهد من أجل تحقيقها عمراً فوق عمر ؛ لولا أن الحياة قد قررت ذلك فعلاً .
***ما رويته بنفسي لرفاقي :
لم أكن صغيراً بما يكفي حين كنت أذهب لبيت ” ريحانة ” ، أمكث عندها من صباح الله حتى تأخذني أمي لأنام جوارها ، تُراجع عيناي ما تفعله طوال اليوم فأدمع و أبتسم مندهشاً .
كانت تستيقظ من صباح ربنا لتغسل وجه زوجها بقماشة مبللة بالصابون ، ثم تجففه ، لكي يتكيء على كتفها الرقيقة و كأنها تحميه ، تذهب به للحمًام تساعده على قضاء حاجته و تُنظفه ، تستنشق عرقه و يُغرق فخذها بولُه ، حين تتساقط بقايا الطعام من فمه تمسحه بجناح ملائكي ، ثم تُجلسه فوق مقعده ذي العجلتين ليتمتم بآيات الله حتى الظهر ، و تنظر نحوي ، فأقترب ، أرى زوجها بنصف فم و ذراع واحدة سليمة ، بساق واحدة تتحرك ، ينظر نحوها و هي تُطعمني ، فيقذفها بلعناته و ساقه السليمة فوق جسدها المكدود ، فلا تفعل هي شيئاً سوى أن تبتسم في وجهه ، تحتضنه و تُقبّله في شفتيه ؛ فيكاد يطير فرحاً بكرسيه الثقيل ، لكن وجهه يتجهم بقية اليوم ، كذكر عربي مسلم أصيل ، و لا تنبسط عضلات النصف وجه إلا حين تأتي أمي لتأخذني ؛ فيقول لها ( ما تسيبيه يونّسنا ) ؛ و هو يخبط على قفاي بيدٍ كالمطرقة .
في الغرفة كنت أواصل فُرجتي ؛ ملابسها القليلة النظيفة و هي معلقة خلف الباب ، بيض الدجاجات الي جمَعَته من فوق السطح صباحاً ، الكانون ، الفحم ، أكواب الشاي الصغيرة مغسولة و مقلوبة على وجوهها ، صورة زيتية باهتة – معلقة وسط الجدار- تُظهر رجلاً بملابس بدوية يضم طفلتين بين ذراعيه ، الرجل ينظر للفراغ
و يبدو حارساً لطفلتيه من خطر قريب ، كتاب لتعليم الحروف و الكلمات الأولية مستلق فوق منضدة خشبية لا يزيد طولها و عرضها عن نصف متر ، و تقف جواره زجاجة شفافة تحمل سائلاً ما داخلها ، كما لفت نظري عميقاً أشكال عجائبية من الخبز الجاف التي تملأ طبقاً عريضاً يتمدد فوق ” الكانون” المُطفأ ،كان جو الغرفة ناعماً هادئاً نقياً ، يحمل ذرّات الاسترخاء و الأمان ، كان الجو مريحاً للروح ،و كنت أتمدد في الزاوية المجاورة للفحم و الكانون المطفأ أتأمل الحياة الغريبة عن هذه المدينة الساذجة ، و لا أفكر أبداً في الذهاب من هنا ، كانت ” ريحانة ” تبتسم لي بطريقتها ،ثم تقدم لي قطعاً صغيرة من الخبز الجاف ساكنة فوق باطن كفها الناعم .
………
في هذا اليوم حكت لي ما كانت تراه في سكونها اليومي ؛ حكت لي كل شيء ؛ اكتمل فهمي يومها فاكتمل وعيى ؛ صرتُ رجلاً فجأة ، ساعات فصلت بين طفولتي الساذجة و بلوغي المؤلم ، كشفتْ لي الحياة و كشفت لها الحلم ، كانت رحلة مختلفة عن كل يوم ؛ تكشط الركام و ذرّات الواقع من فوق روحينا ، حدّثَتْني أكثر و أكثر ، حدثتني عن كل شيء سوى الموت. أسكَنَتْني حكاياتها ؛ و زادت عوالمُها المحكية من اشتياقي و نشوتي ، هنا تمنّيت لو يدور الزمان حول نفسه ؛ لا يتقدم و لا يتأخر .
…………………………
قالبان من الطوب المحروق ؛ استقرت فوقهما الأرجل الثلاثة للبابور ذي العين الكبيرة أعلاه وعاء من الألمونيوم قد رُبطت يده البلاستيكية السوداء مثنى و ثلاث و رباع بسلك غليظ ، كان الوعاء مملوءاً بماء ممتزج بذرات تراب و عُفار خفيف ، على يمين القالبين المحترقين يسكن النصف السفلي لجركن بلاستيكي به ماء لغسيل الأكواب المتسخة ، أما الأكواب العريضة القصيرة فمتراصة فوق طبق أصفر باهت ، كل كوب به ملعقة شاي ناشف و سكر كثير ، بينما كان أبوها جالساً فوق نصف لوح من الخشب أمام كل هذا .
ملعقته الصدئة كانت تدور بسرعة و بلا انتظام ، تخبط في جنبات الكوب فيكون سائلاً بنياً أقرب ما يكون للسواد ، و أعلاه فقاقيع شفافة و بيضاء متلاصقة ؛ -كان يقول أنها تجلب الرزق – ثم يرص الأكواب فوق الطبق المستطيل الأصفر الباهت كيفما اتفق، يوزعها على السهرانين ، يرشفونه سريعاً كي يضاعف تحليق أدمغتهم في الخواء ، عيون مذهولة أو خاوية ، كلها تنظر في كسل نحو الراقصتين ، تترجرج الأفخاذ المترهلة و الكرشان العظيمان ؛ بقفزات بهلوانية و أقمشة ملونة مترترة ؛ يحاولن اثارة الساهرين كي يحصلن على ” نقطة” مُرضية ؛ لكن الخمر الرديئة و أوراق البانجو قد فعلت ما فعلت ؛ فانتشى الجمع .
ثم أخذت ” ريحانة” زوجها ليتبخترا سوياً منتشيين بحياة سعيدة قادمة لا محالة ، فوقفت أمه لصق البوابة الحديدية ؛ رفعت رجلها اليسرى فوق ضلفة البوابة ليمرّا من تحتها ؛ ثم منحتهما كوباً من اللبن يشربانه لتبدأ حياة ما .
……………….
كانت قدمي زوجها تلتصقان بالأرض فيرفعها بطلوع الروح .. و تسقط وحدها ، و كأن ريحاً خفية هي التي تحركه، و على بُعد أمتار من دائرة حركته يقف ” عبده” الفكهاني خلف عربته ذات اليدين مائلة و قد خلع عجلاتها ، راصّاً فوقها أقفاص المانجو و مُعلقاً بها أسبطة الموز ، كان يتابع خطوات زوج ريحانة المهتزة ، التي – و بشكل طبيعي – أجبرته على السقوط و أكوابه و طبقه و مائه المغليّ فوق بعضهم و على الأرض المليئة حُفراً و زلطاً صغيراً ، وكان ضحك كثير .
كنا نحكي ما حدث له لبعضنا ؛ رغم أننا جميعاً شاهدنا ما حدث ، كنا نقول و نعيد نفس الكلمات مرات عديدة، كان ضحك كثير .
يتحرك أحدنا من على مقعده الخشبي حتى يصل لمقعد آخر ، يضحك و يعود، ثم يعود و يضحك ، و لم يتحرك أحدنا لمساعدته ، كانت الحياة كلها كمشهد جانبي ، خرجنا منه بليونة و جلسنا نشاهد بأطراف عيوننا دونما اكتراث، فقط نشاهد و نضحكو نذهب و نعود ، و لم يغضب منّا ؛ فقد كان متأكداً أنه يحبنا ؛ و لمّا ابتسم ” عبده” ابتسامته الملونة ؛ قذف في وجه عربته كوباً مكسوراً ؛ ثم لملم أشياءه المبعثرة ، أمّا نحن فقد نمنا على صوت لحن قديم لم نعرف مصدره . كنا نصدق اللحن تماماً ؛ و لا نتذكره.
حينما جاءت ” ريحانة ” لتصحب زوجها ؛ توقفت الحياة تماماً ؛ تصلبت أطرافنا ، و سقطت عيناي من وجهي تحتضنها ، شفتان كقلب منح الحياة حياة ، عينان بروعة الحلم ، رائقتان و بهما حكايات بلا نهاية ، و أنف يستنشق لوثات العالم ؛ و يمنحه هواءّ دافئاً كزهرة قررت منح العالم أسباب بقائه ، فبقيتُ مدهوشاً لا أستطيع إرجاع عينيّ أو إغماضهما ، حينها ، قررت أن أفاجيء نفسي بصفعة عنيفة على وجهي تكسر أسناني ؛ ستعود لي أفكاري من جديد ، و سآكل كثيراً من الشيكولاتة ، سأسجد للوظيفة الحكومية ؛ و أنام كثيراً ، بلا مواجهات أو اكتئاب أو قرارات .
و بينما كانت أفكاري تترجرج في زوايا دماغي ؛ كانت تضغطها تلك المخلوقة الهاربة من الجنة ؛ جسدها ضاجٌّ من تلك العيون المحيطة و اللعاب المحيط بها ، بينما زوجها يحمل فرحة العالم كله و رعب الكون ، فرحاً بزهرته النابتة في الأرض الهشة ، خائفاً من كل العيون التي تسوّر جسدها ؛ أما فستانها القصير فكانت تحبه كثيراً ؛ كانت تحبه و تحب ظهور جسدها الرقيق أسفل الثوب و على جانبي ذراعيه ، كانت تحب أن ترى نفسها حلوة و أن يراها الناس جميلة ، كانت تحب نفسها ؛ و كانت تحمل لعنتها .
كلعنة الفراعنة . ” الفراعنة ” ، ذلك المقهى الذي يجمع الجميع ليلاً ،هل كان مجرد اسم تقليدي للمقهى أم أنه كان يحمل في طياته اشارة ما ،كانت رسومات الفراعنة مبعثرة فوق الجدار ، أخناتون يمد ذراعيه نحو الشمس ؛ خطوط متعرجة لما بدا كحروف هيغروليفية ، بينما شمخ في المنتصف رسم زيتي كبير للمسجد الأقصى ،
و عن يمينه المسجد النبوي ؛ أما عن يسار الصورة فقد لُصقت صورة كبيرة لحديقة صناعية تتوسطها نافورة بلا مياه ، أما عن مقاعد المقهى فكانت خليطاً بين الخوص المدهون بلون ابيض باهت و الخيرزان الاصفر، فبدى المقهى كمزج عجيب للوحة حداثية مبهمة .
كان موتاً مُلئ بالحياة .
وكانوا يعلمون أن أكثرهم قدرة على التذكر هو عمّ ” حسن ” ؛ الذي كان بذاكرة أرابيسكية تكتمل و لا تنقص.
حينما رأت الطفة ذات الشعر الأسود و العينين السوداوين ” ريحانة” في المنام ، كانت تحمل نوراً ناعماً سعيداً بين يديها ؛ يحملها نور قوي على هيئة جناح ملائكي ، كان تغني و تنظر نحونا بينما ترتفع ، تبتسم لنا بعينين واسعتين ، يتردد صدى غنائها المبحوح الدافيء من كل بُعد، ثم أشارت بذراعين مفرودين نحو بيتها الذي تحول قبة خضراء فسيحة ، تمدد جسدها حتى احاط القبة و الجامع و المدينة بنهرها ، ثم انهمر فوق المدينة كمطر غزير يروي النبتة و الأرض و عابر الطريق ، نلهو بملائكة من طين ، أجنحتهم هشة ؛ و قلوبهم تظهر فوق قلوبهم ؛ نحبو جميعاً نحو القبة باسمين ؛ حين نصل تتشابك أصابعنا و أجسادنا تحيط المدينة في رقة متمددين ، هادئين ، كاشفين .
قالت الطقلة حين قامت من رقادها بعد أن صرخت صرخات مكتومة متتابعة :
ابنوا عليها بنياناً .
موت مُليء حياةً …
هكذا كانت اللحظات الحالية ، أعمدة خشبية و قماش فِراشة و كراس مُذّهبة وقهوة ، عُمّال يهرولون في اتجاهات عدّة ؛و سلالم خشبية متنقلة ؛ عمائم وجلابيب و بناطيل جينز و بِدَل سوداء و بنية ؛ بينما صوت المُقريء يعلو كل الأصوات ؛ لم يكن صاخباً ، كان كخلفية موسيقية حالمة لفيلم خمسيني ،و في الشوارع المحيطة ميكروفونات متحركة تُعلم الجاهلين بموتها .
صدّق القليلون و كذّب الكثرة ؛ لكّن الجميع حزنوا ، و تذكروا .
كان أكثرهم قدرة على التذكر عمّ ” حسن ” ؛ كان بذاكرة أرابيسكية تكتمل و لا تنقص كما كان يردد دوماً ، لكنّه في هذا اليوم لم يقو على الكلام ، تكلّم الجميع إلا هو .
رحلت روح ” ريحانة” فصمت لسان عمّ ” حسن ” ؛ و لم يهدأ قلبه .
قالت الطفلة ذات الشعر الأسود و العينين السوداوين أن :
“ريحانة “ رجعت بيتها اللّي في الجنة ، تحت بيت ربنا ، أنا شفتها.
قال الطفل الأسمر : ( ” ريحانة” حبيبتي وحدي ، هي قالت لي ) .
و هتف المعمّم ذو الجبّة أن ( وحدّوه ، لا دائم إلا وجه الله ) فأمسكت النسوة رقبته و عمامته و صرخن ( ما تفوّلش يا غراب ) .
(كل يوم مرّ كان يحفر مَعْلَماً عن ” ريحانة ” في نفوسنا أجمعين ؛ كل ذنب اقترفَته طهّر في نفوسنا إثماً و خفّف ألماً ؛ و كل جميل فعلَتْه يسّر في قلوبنا الرؤيا ، ذات يوم كانت طفلة ليست ككل طفلة ، لاحقَتها الحياةُ و سابقتها و سبقتها ، ابيّض شعر رأسها قبل بلوغها الثلاثين ، حين تتسمّر ساعات طوال فوق سطح منزلها المجاور للجامع تماماً ترى الكثير ليلاً ؛ و يراها ” حسن ” المرابض فوق سطح الجامع يومياً كممارس لمهمة لا تنتهي ؛ لا تخبو عيناه لحظة من صعودها حتى تلسعها سخونة شمس الصُبح المائلة ، فتهبط مترنحة كالسكران ، ثم تقف أمام مرآتها ؛ ساكنة ؛ هشّة؛ بلا أحد ، يحيطها الفراغ من كل اتجاه، و يسكنها .
و لا تُنهي طقسها اليومي سوى طرقات أمي الرتيبة و نداءاتي باسمها من الخارج ، فيبدأ يومي سعيداً ؛ إلا أيام الجُمَع و الأجازت و مرض أمي، حين أظل طوال اليوم بين ذراعي أمي لا أتحرك سوى لاحتياج بيولوجي بعيداً عن محيطها ).
يا الله، المصابيح المحيطة بالفراشة تُصدر نوراً روحانياً ما ؛ هذه الأنوار البيضاء المقدسة تنعكس في خمول فوق سطح النيل الساكن ؛ تأخذ روحك بعيداً ؛ تجعلها تُحلّق بين حقول النشوة و سماوات الحرية ، تُذكرك بأزمنة طويلة بين ذراعيها ، لكنها اليوم ليست هنا ، لكنها اللحظة ليست هنا ، بعيداً بعيداً راحت “ريحانة” ،.. تخلق بين ذراعيك جناحين بقوة الحلم ؛ فتخفق بهما و تروح روحك ، هل هذه حقيقة ؟ أنت الآن تأخذ عزاء ” ريحانة ” ، يا الله .
تتجه نحو الأنوار اللامعة من بُعد و من قُرب ؛ قدماك تخطوان نحو الطقس المهيب بينما قلبك يحاول إبعادك ، يُرجعك للخلف ، عيناك تنظران للسماء بعتاب خفيف غير مفهوم لك ، و كأّن نظراتك المستعطفة ستُعيد ” ريحانة ” .
……..
يُخرج من جيب بنطاله سيجارة في خفة ؛ يُجبر قديمه على الالتفاف قبل وصوله للحشد المقدّس ، المشهد جليل و روحه خفيفة لا تحتمل ، يُشعل السيجارة و هو ينظر للنيل الساكن ماشياً جواره، ينتظر منه تفسيراً أو حلّاً، أثناء خطوه يسمع اسمه متردداً من كل صوب ، في خفوت مسموع ، هذا صوتها يناديه كما اعتاد أن يسمعه دوماً ، خافتاً رائقاً تحتويه البحّة المُسكرة ؛ فتذكّرَ تخلّيه عن كل أحلامه ، عن حياته ، ترقّبه الموت كل لحظة،
تذكّر وجودها في حياته فجأة ، كيف منحته حياة ، كيف علّمته الحياة ،مهّدت له الطريق و قالت ” سر” فسار و هرول و جرى ، دخل الانعطافات و المنحنيات و عَبَرَ الجسور و الأنهار ، أرتهُ عالمَها بسيطاً هادئاً رقراقاً، لا حلم لها و لا أمنية سوى رؤيته سعيداً ؛.يعرف ما يريد، كانت ذروة فرحها أن تراهم عارفين ، موقنين ، كاشفين أرواحهم و ذواتهم ،كانت تتركهم فقط عند النقطة الأولى .
إنّ وجعاً سميكاً صلداً يسكنهم أجمعين، ينهش قلوبهم و يُظلم أمام عيونهم ، لم يتخيلوا رحيلها أبداً ، من منحتهم الحياة كيف تفقدها يوماً ؟!
لكّن الصوت السابح حوله لم يهدأ ، ذكّرته بما علمَتهم ، كيف ارتقت للدرجة التالية من سلم الوجود ؛ في انتظارهم يكتشفون معاً سراً جديداً يُلهم قلوبهم ، ذكّرته بإيمانهم أن الجسد لباس ضيق و أن العقل مساعد كسول . الروح دائمة ؛ غير مستقرة ؛ لا ترحل من عالم إلا لتعبر عالماً آخر ؛ لا تنتهي . فهي منه و إليه . ترتحل و تسمو و تهبط و تتأرجح دوماً ؛ و لن تستقر حتى يجتمع الكل .
تهفو أرواحهم على بعضها و تنساب في كل الكل ، حينها فقط تستقر أرواحهم روحاً واحدة منسابة في اتساعات الحب الحُلْم.
لم تكن قدماه تطيعان عقله حين اكتشف فجأة أنه امام سرادق العزاء تماماً ، كانت قدماه تطيعان روحه ، يجب أن يودّعها بما يليق بها ، أيقظه صوت قاريء القرآن المتهادِ… زاد سكينته سكينة .
أبريل 2018