أجنحة بطول سور غرناطة

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

نسمة سمير

"غزالة بيضاء صغيرة بصدري تريد أن تركض نحو الشمس .. افتح لها" تلك العبارة المنقوشة على سور غرناطة، حفرتها ليلة سقوطها، كنت أعني ما أقوله جيدًا أريد تحرير الغزالة لتبني بجسدها الهزيل جسرًا يحمل حبيبها لبلادهما التي دمرها المتنمرون، ليعودا إلى بيتهم الصغير الخشبي على تل الحمراء، ذلك الموطن الدافيء، يغرقا فى أحلامهما على ضوء النجوم ويستيقظا على صباح يشبه رائحة خبز أمه الذى يحن إليه.

كانت ليلة صافية، دافئة مثل باقي ليالي غرناطة، حملني على كتفيه لأسرق الرمان من شجر قصر الحمراء، ثم سقطت على ظهره كعادتي وغرقت فى الضحك وهو يتألم ويتوعدني، ركضت نحو التل االصغير الذى نجلس عليه نغني ونتسامر حتى تسكرنا السعادة ويغلبنا النوم، فجأة ارتفع صهيل الخيول وأصبح الليل نهارًا إثر النيران التى أشعلها الجنود ليروا الطريق، ودٌقت أبواق الحرب، وصار الأطفال ينشدون”لا تَبْكِ يا أُمَّاهُ بلِ اضْحَكِي، واحفظي لِعَبَنَا، سيأتي إخوتنا فيلعبون بها.. اليوم سقطت غرناطة”.

جلسنا على التل حتى زارنا الفجر وكأننا نقيم مراسم الوداع، كان صامتًا مستسلمًا ورافضًا فى آن واحد، أما أنا لا زلت أرى شجرة الرمان وأسمع غناءنا، وأيقن أننا سوف نصافح الفجر فوق التل مرة آخرى، أمسك بيدي وتجولنا فى شوارع وممرات غرناطة فى صباح حزين بارد، كانت عينيه منطفئتين، وكأنها سماء بلا نجوم، وصدره تحول لأرض قاحلة، ترفض أن تركض بها الغزالة البيضاء الصغيرة، يتظر إلى الأرض وكأنه يبحث بين حصاها على الفرح، يردد: لن نعانق الصباح فى غرناطة مرة أخرى، لن نغني .. لن نرقص ولن ننجب أطفالًا يركضون بشوارعها وممراتها، ابتلع الظلام وطننا، قلت له: لن نترك غرناطة سنبقى هنا، سنموت بها وندفن بترابها الأحمر، أتسمعني؟!، أنت لم تنظر لي منذ ليلة البارحة ألم تشتاق إلى عيوني؟!، لم يلتفت وبصوت حزين قاسي قال: لم أعد أشتاق لشيء، قلت له: حتى أنا، أجابني بأسى: لقد أجبتك، تلك اللحظة كانت الأزمة الكبرى التى مر بها حبنا، لقد جرحني بعمد وقصد يجعلني لن أغفر له بقدر ما أحببته.

وقتها رأينا أبو عبد الله الصغير يمتطي صهوة فرسه مولياً ظهره لقصر الحمراء، ومعه أمه وأهله ليسلك الطريق الملتوي الذى يمر بين جبال غرناطة، قرر هو أن يذهب معهم، قلت له لن أرحل سأبقى هنا، لا تترك يدي، ، قال: السفينة تغرق وعلينا أن نقفز منها، علينا أن نفارق غرناطة إلى الأبد، قلت له بغضب شديد: لا علينا أن نبحث عن مفتاح غرناطة الذى سيعيدها إلى أهلها.. نحن، قال بصوت منكسر: لن يعيد غرناطة إلا رجال أشداء يملكون المال والسلاح والقوة، سأعود عندما يصبحون معي، لن أجلس لأبكي كالنساء على مُلك لم يحافظ عليه الرجال، قلت له بقسوة ومرارة: العيب ليس فى البكاء ولا فى النساء، بل فى حياة عاهرة تسلب بيوت الله وتبيع أحلامنا فى المزاد الأسود، والآن تريدني أن أسلم غرناطة وأرحل، لا سأبقى أبكي وأرعى حشيشة حلمنا حتى تكبر وتظلل على الحمراء.

راقبت ظهره وهو يختفي رويدًا رويدًا من أمامي، ناديت عليه بعزم ما في من صوت: إن عدت ولم تجدنِ لا تقطع الشجرة، وحرر الغزالة لا تسجنها فى حفرة بدرج حجري، لا تغلق الباب الأسمنتي عليها، ولا تضع ذلك الغطاء القاتم فوق وجهي بل اغزل لي من البنفسج فستانًا ناعمًا، لا تجعل قلبي طعامًا للدود، انثر روحي على التل لتطعم العصافير الصغيرة، وعانقني فقد رحلت وروحي تتوق لعناقك، وقل للصغار أن الفراق مر و أثره يبقى لا يزول، علمهم لا ينكرون أفعالهم الخاطئة ربما تكون هي الصواب الوحيد الذى فعلوه، وضع أسفل رأسي بعض شعر لحيتك حتى أشعر بالدفء فى الليالي الباردة، ولتكمل الحكايات التى لم أكملها، اخبر العالم أن الأشرار وجوههم جميلة وكلامهم لبق ، لا يمتلكون عيون حمراء كما كانت تخبرني جدتي، ودائما يتعاطف معهم البشر،  واكتب على التل كان لديها أجنحة بطول سور غرناطة تعبر بها لي كل ليلة ولكني لم أصدقها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

كاتبة مصريّة 

مقالات من نفس القسم