استيقظ وثيابه ملطّخة بالزّيت الأسود المتعفّن قد مزّقت وخرّقت وتهرّأت، وشعره الأشعث قد عبثت به الأمواج فتداخلت به الرّمال وأشتات من القاذورات المترامية على الشّاطئ، يا للشقّاء الذي لا ينتهي، كيف لشاب أن يحمّل البضائع نهارا وينظّف المحرّكات ليلا دون أن يتغيّب يوما واحدا طيلة اثنتي عشر عاما، يا للخصاصة القاهرة ! ، تحامل على نفسه المترنّحة بسكرة البؤس و الدّمار، مشى قيد رمح، ثم تهاوى على الأرض حتّى أنهكه السّعال ثم قال بعينين مرهفتين يناجي روحها : أخيرا يا حبيبتي … لقد تمكّنت أخيرا.
سعل حتّى لفظ دما ثم أزاحه بكمّه و أتمّ متداركا يتصنّع ابتسامة منكسرة: جمعتُ ثمن الخاتم.
أعلم أنّه لن يكون بالحسن الذي تتمنينه، و لكن أجر الميناء زهيد، وأنا لم أجد سواه مكسب رزق. أعلم أنّك ستتفهّمينني. أعلم أنّك تنتظرينني بفارغ الصّبر. أنا آت. أنا آت.
ساقته نشوة قهرت ضعفه ووهنه، مضى نحو صائغ فاشترى الخاتم الذي أفنى أيّامه الحلوة في سبيله، واتّجه صوب منزلها … وصل ، وجد نافذة الشّرفة مفتوحة و لكّنها ليست تطلّ منها كزهرة تنفخ شذاها. اقترب قليلا فسمع صوتا يسألها : و متى الزّواج ؟ . فتردّ في ضحك : متى أراد هو ذلك .
تبسّم و قد طربت روحه وأوصاله كما يطرب الطّفل الصّغير بقطعة الحلوى أو بلعبة العيد المنتظرة، سرور بريء و ساذج و جامح جموح النّيران، و لكن أتمّت كلماتها قائلة : إنّك لم تري ما هداه لي يوم أتى بخيله و عربته ، لقد وهبني خاتما من الألماس وثوبا من الحرير والدّيباج . فتقول الأولى : ولكن ألم تتفكّري لحال مصعب المسكين ! ، لقد أفنى أيّامه حتى يحظى بحبّك …
فتردّ ساخرة: وهل جننتُ كي أفني أنا عمري في البؤس الحقارة، فلييسّر اللّه له .
ثمّ ضحكت و أردفت: تعالي أريك الخاتم و الثّوب .
وغاب الصّوتان داخل عتمة المنزل .
تهاوى على ركبتيه، أجهش بالبكاء حتّى دوى أنينه، شهق بعنف، لم يسيطر على مدامعه الحارقة تنهال على الثّرى وضغط على الخاتم الصّغير حتّى مرّ بين جلده و لحمه، وخرّ مستسلما وقد سرت بجوانحه رعشة أشفقت لها الأرض الصامتة، وطار الحمام وغربت الشّمس وهطل الثّلج حتّى سجّاه و ستره من عراء اللّيل.
2017/10/09
……………..
*كاتب من تونس