فصل من رواية إلين لــ رشـا نعمان

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

رشـا نعمـان 
"شاهر"
يناير 2015


" أنا المرأة التي غرقت بها المراكب كلها
وخذلتها، وحين لم يبقَ لها من الأشرعة
غير جناحيها، تعلمت كيف تتحول من
امرأة إلى نورس "
"غادة السمان"
 

 

مكتبة ضخمة تحتل ثلاثة حوائط، ومكتب صغير، وفراش لفرد واحد، وجهاز فونوجراف عتيق، كانت هذه محتويات الغرفة التي اخترت أن أقيم بها في هذا المنزل الذي كانت تعيش فيه “إلين”, رأيت أن المكتبة تحتاج إلى ترتيب، فقد أذهلتني محتوياتها، قضيت يوما كاملا في إفراغ محتويات جانب واحد منها .
لم أعلم كم مضى من الوقت إلا عندما شعرت بالجوع والإنهاك، فاستلقيت على الفراش ليخطفني النوم بلا تفكير  ربما كنت أحلم , لكني كنت أشعر بها حقيقة ملموسة، رأيت “إلين” تمسك بكفي وتغمر وجهي بقبلاتها الرقيقة، كنت أشتاق لملامحها إلى حد الألم، احتضنتها وشعرت بحرارة جسدها وهي تضمني، بدت نحيلة ورقيقة كطفلة برداء أبيض أنيق, محدد على خصرها بشريط من الستان, مزدان بزهور بيضاء, وجديلتها البنية تصل لأسفل ظهرها، عيناها الخضراوان أكثر لمعانا ونقاءً، “إلين” اشتقت إليكِ كثيرا يا حبيبتي . قلت لها, وخيّل إليّ أنها لم تسمع شيئا، كانت تجذبني من يدي بكفها الناعمة, فاستسلمت لها وسرت خلفها إلى حجرة مجاورة, وهناك فتحت خزانة خشبية لحفظ الملابس، ثمة باب صغير بداخلها, جذبته لتظهر خزانة أخرى داخل الحائط، تحوي صناديق خشبية مصفوفة رأسيا  كل صندوق يحمل اسما نقش عليه بخط كوفي بارز، التقطت أحد الصناديق كان يحمل اسم “عائشة” , مزخرفا بشكل مميز وساحر, ثم أعطته لي هامسة وهي تميل على أذني بدلال ” هذا حلمي ” .
فتحت الصندوق فوجدت أوراق كثيرة, وخطابات قديمة وصور وأشياء كثيرة, جذبني من استغراقي داخل الصندوق صوت ذكر منتظم : الله .. الله .. الله
لم أحدد من أين يأتي ذلك الصوت, مجموعة من الرجال يرددون الذكر بشكل منتظم .
تركتني “إلين” وخرجت إلى ردهة المنزل، سرت خلفها بخطوات حذرة، فرأيت مجموعة من الرجال, معتمرين بعمم خضراء, يطوفون حول أنفسهم على وقع الذكر المنتظم  أكملت “إلين” طريقها إلى البيانو وجلست على مقعدها قبالته , لتبدأ العزف كما كانت تفعل دائما، ابتسمت ابتسامة هادئة واثقة وبدأت تعزف بأناملها البيضاء الرقيقة لحنا حزينا ناعما, يتداخل معه صوت الذكر, مزيج مجنون جعلني أنتشي .
فتحت عينيّ, مازلت على فراشي، والحجرة معتمة تماما  تحسست أسفل الوسادة باحثا عن قداحتي أو هاتفي لإضاءة مصباحه، وجدته وأضأته وأنا أتذكر كلمات “نسرين” عن الأوراق، نهضت كالملسوع أبحث في ملابسي و متعلقاتي عن الأوراق .
 *   *   *
كنا نقف أنا و”نسرين” على ضفاف البحيرة ننظر لبائعي السمك وذلك الصخب في نداءاتهم، ولهو الصغار ومراكب الصيد الساكنة على شاطئها بأشكال شتى، ذات الصاري و الشراع، والآلية بشكلها المتقدم الحديث .
كنا ننظر هنا وهناك, والهواء يهدهد أرواحنا الحزينة، يتخلل أنفاسي عطر “إلين” مع هواء البحر، واستشعر روحها تحلق حولنا فوق المياه ورؤوس البسطاء كطائر نورس، كانت “نسرين” تخفي حزن عينيها بنظارة شمسية سوداء قاتمة، وقبل أن تُخرج الأوراق من حقيبتها قالت :
أنا لا أدري هل كانت “إلين” مريضة أم كانت تتمتع بحاسة لا يمكننا فهمها ؟ ففي اليوم الذي توفي فيه جدي وكنا نخفي عنه خبر وفاة أمي, كرر السؤال عنها حتى أجهدنا جميعا وقد استنفذنا كل الأعذار والمبررات، وبعد صمت طويل خيم علينا جميعا همست “إلين” بابتسامتها المعهودة :
“ها هي أمي إلى جوارك يا جدي، تمسح على رأسك وتمسك بيدك ” .
فنظر جدي إلى يساره وابتسم وكأنه كان يراها حقا، اقشعرت أبداننا وتبادلنا النظرات في صمت وذهول، كنا أنا و “رباب” وخالي “طه” , كان الأخير لا يزال في فترة النقاهة بعد الحادث الذي ألم به وأقعده، يجلس على مقعده المتحرك واجما، وفي هذه الليلة رحل جدي .
سألتها سؤال أعلم أنها لا تحمل إجابته, فمدت يدها لي بأوراق أخرجتها من حقيبتها وهي تجيب: وفاة أبي وهي صغيرة جعلها ضعيفة وحزينة جدا، وكل فقد مر بها أخذ منها شيئا، إلا أنه كان يضيف لها قوة وأشياء أخرى، فوقت وفاة أمي وجدي كانت قوية لدرجة لم أفهمها، هذه الأوراق كانت “إلين” تكتب فيها كل شيء, ربما تجيبك على سؤالك وتفسر لك حالتها أكثر .
     *    *    *
أخيرا عثرت على الأوراق في حقيبتي السوداء , تناولتها وذهبت إلى الحجرة التي أدخلتني “إلين” إليها، وفتحت الخزانة الخشبية، تحسست حائطها الخلفي فوجدت مقبض جذبته لتظهر الصناديق ذاتها بنقوشها و زخارفها, وبرز اسم “عائشة” كأنه يناديني، مازال الظلام مخيما على المكان ولا أملك سوى قداحتي ومصباح صغير شارفت بطاريته على النفاذ، أمسكت بالصندوق الذي يحمل اسم “عائشة”، وعدت لحجرتي لأفتحه، وضعته على المكتب الصغير وبدأت في إخراج محتوياته، وجدت به مصباح كيروسيني صغير لم يكن به وقود, ولكن عندما أشعلته بقداحتي اشتعل، وضعته على المكتب وأشعلت لفافة تبغ، ثم جلست أتفحص الأوراق والصور .
مذكرات يومية مؤرخة ل”إلين” موقعة باسمها، وصور قديمة لامرأة جميلة تشبه “إلين” كثيرا، وخطابات تحمل اسم “نبيل” و”عائشة” وأوراق أخرى غير مفهومة, و كتب صغيرة قديمة, وزجاجة عطر, ومسبحة .
…………………………………………………………………….
“صورة”
 كتب على ظهرها من اليمين : جدي “عربي”، “طه”، “فتحي”، أبي .
تبدو مناسبة عائلية، خطبة “فاتن الذاكر” أم “إلين” , أو جلسة عائلية لقراءة القرآن, مثل هذه المناسبات كان الاحتفال بإحياء الذكر والصلاة على رسول الله كنوع من المباركة للأمر .
يظهر الرجل على اليمين في حالة وجد, مغمض العينين  يرتدي عمامة فاتحة اللون, الصورة غير ملونة ربما كانت بيضاء أو رمادية, يضع كف يده اليمنى على صدره وابتسامة واسعة تعلو وجهه, بينما الجميع مبتسمون في نشوة روحانية, ما عدا ذلك الرجل على اليسار الذي كان يرتدي حلة بيضاء, وينظر لليمين, وظهرت مجموعة أخرى في الصورة, غير معروفة, يبدون كمتفرجين، إلى جوار الرجل ذو العمامة البيضاء, كان شاب في العشرين تقريبا, يبتسم للكاميرا, عيناه واسعتان ممتلئتان بالحياة والذكاء, يضع يده على كتف “فتحي” الذي كان يضع يده على كتف صديقه ذو الحلة البيضاء الذي كان يفتعل ابتسامة, وعلى يمينه رجل أربعيني, هادئ الملامح يبدو شارد الذهن

………………………………………………………………………..
“إلين”

 “حياتنا كلّها فنادق رخيصة, وحقائب سفر
وغرف مبقعة الفرش بعرق الآخرين وبقاياهم”
“خيري شلبي”


الوحدة، ذلك الشعور العميق بالوحشة و الفراغ بداخلك, مهما كثر من حولك، شعور بالهشاشة والخواء يجعلك توطد علاقتك بكل شيء عدا البشر، بالجماد، الشجر، الموسيقى  الكتب، الجدران، مقعدك الوثير، شرفتك, نباتاتك خضراء كانت أو ذابلة، نظارتك، قداحتك، سجائرك، وفنجان قهوتك الساخنة . تحاول أن تصنع جسرا تخترق به عالمك الحزين محصنا قلبك من هذا الاختراق الذي يؤلمك بمخزون الذكرى .
كنت أنسج من وحدتي قصصا وحكايات، أصنع منها مضادا للألم والصدمات .
حين تصبح حياتك سطورا على ورق, تحاول من خلالها أن تصنع لك ذاكرة عوضا عن ذاكرتك الخاوية من البشر الممتلئة بوجوه مبهمة, لا تحرك النظرة في عيونهم شيئا بداخلك، ولا تذكرك بشيء, ولا تحمل لك أي شيء، ربما إن كنت هنا في هذه الدائرة لأصبت بالجنون، ولكني علي يقين أن البعد عن البشر, يجعلك شفافا تحلق في عوالم أخرى خارج هذا العالم الملوث بالضغائن والأحقاد والشرور .
نصحني الطبيب سابقا, أن أقرأ كلما اشتدت عليّ الوحدة وزاد بي الألم، ولكن نحن لا نتجاوز أوجاعنا بالقراءة, بل نهرب منها لبعض الوقت, وعندما نعود للواقع نجدها أكثر بروزا وكأنها تتحدانا، أما ما يجعلنا ننتزع أحزاننا من الداخل ونلقي بها على الطريق هي الكتابة، فالكتابة شفائي ومهربي الدائم، الوسيلة الوحيدة للوصول إلى سلامي النفسي .
أتيت إلى هذا المنزل هاربة، كنت أفكر أن الصفاء هنا سيجعلني أكتب رواية جيدة، ولكن تحدث هنا أشياء تزيد ارتباكي، أحيانا لا أميز بين الأحلام والواقع، ما أن وطأت قدمي هذا المنزل حتى تغيرت حياتي .
هذا المنزل ساحر، يشبه قبو قديم, إن دخلته شعرت بالرهبة  والخوف، ولكنه لا يخيفني أبدا، فقط تلك السيدة التي تمر في الرواق بعد الثانية عشر مساءً, برداء أبيض, تمسك بيدها مصباح كيروسيني صغير وكتاب، تخترق الظلام والجدران بصمت تام، لم تكن تنظر إلى أحد, ولا تتحدث أبدا وتشبهني كثيرا.

………………………………………………………………………
 رباب   

         
“نحن نخطئ دوماً حينما نظن أنّ
الذين نحبهم معصومون من الموت”
“واسيني الأعرج”


أنا هنا أصرخ على الورق فهل من أحد يسمع ؟
كيف لهذا البيت الذي كان يعج بالبشر, وركضهم و ضحكهم  أن يصبح خاويا, و باردا هكذا مثل قبر ؟!
لا أحد هنا سوى أرواح الموتى, وأنفاسهم التي مازالت تتردد في أشياءهم التي خلفوها ورحلوا، وأصواتهم التي مازالت جدران هذا المنزل تحمل همساتها .
أشعر بالاختناق يوما بعد يوم، لا أعترض أبدا على قدرى  أحاول فقط التحلي بالصبر, وأشكر الله أن لديّ منزل يجمع شتاتي ويحميني، فقد كنت وحيدة أمي “فاتن” , تعسة الحظ في زواجها, فقد طلقت بعد عام ونصف فقط، كان خالي “فتحي” صديقا لأبي أثناء دراسته في الجامعة وعمله  بالقاهرة وكان دائما ما يعود معه في إجازاته القصيرة لبيت جدي، وكان الصديقان يتطلعان للسفر إلى الخارج، ولكن الصديق هام حبا بأمي “فاتن” فور رؤيتها, ورغم أن زياراته كانت متكررة, إلا أنه لم يرها إلا في هذه الزيارة التي قرر فيها أن يتزوجها، وفي غضون شهر صارت زوجته، أقامت معه في القاهرة, العاصمة البعيدة عن البسطاء في المدن الصغيرة، وعند وداعها بكوا, وأوصوه بها خيرا, ولكنه لم يحفظ الوصية, ففور زواجهما حدثت الكثير من الخلافات التي كانت تمتد إلى الضرب والإهانة التي لا تحتمل, كانت تصمت وتتحمل حتى فاض بها الكيل, وعادت إلى بيت جدي مغاضبة, فعاد بها جدي إلى بيت زوجها قائلا : إن هذه هي الأصول.
لم يوبخ ذلك الذي امتدت يده إلى ابنته بالضرب, وأهانها ولم يفعل أي شيء لنصرتها أو رد كرامتها، حاولت أمي التصبر وتحمل كل هذه الإهانات والعذابات المستمرة, وعندما علمت أنني أنسج في أحشائها تحملت أكثر، وكذلك تغير أبي فصار لطيفا معها فترة الحمل, ولكن عندما علم أن المولودة أنثى  اسود وجهه وهو كظيم، وطرد أمي وهي تحملني بين ذراعيها, فسافرت بي إلى مدينتنا الصغيرة، وفي هذه الأثناء جاءت فرصة السفر التي حلم بها أبى، سافر هو وخالي “فتحي” إلى الكويت, و أرسل لها وثيقة طلاقها فور سفره .
كانت أمي دائمة الحزن, باكية العينين, وورثت أنا حزن عينيها الباكيتين, حتى توفت – وعمري عشر سنوات – كمدا وهما .
عندما بلغت الخامسة عشر أخبروني أن أبي يريد رؤيتي   فأخذني خالي “فتحي” إليه، كان في مستشفى كبيرة غرفته فيها كغرف الفنادق الفاخرة، علمت أنه مريضٌ بالسرطان وفي حالة متأخرة .
اشتاق أن يراني في أيام مرضه الصعبة, وأراد أن يعتذر لي ولأمي في صورتي، طلب مني أن أسامحه, لم أكن أفهم شيئا، فقد نشأت على كراهيته, وكل نساء المنزل تصب لعناتهن عليه، وأمي التي كانت تبكي على وسادتها ليلا وهي تحتضنني وعلى شفتيها جملة واحدة “حسبي الله ونعم الوكيل” .
لذا, فقد كانت مشاعري نحوه في هذه اللحظة متناقضة غاضبة من أجل أمي, ومشفقة عليه، أكرهه وحزينة لأجله أتمنى أن أضمه بين ذراعي, وأخفف عنه آلامه, ولكن عندما أنظر في عينيه أرى عيون أمي الحزينة الباكية, وجسدها المتألم, ولحظات وفاتها البغيضة، ويده التي قهرتها ضربا وبطشا, كنت أتمنى لو لمستها وأمسكت بها, واستشعرت دفئها كما كنت أرى رفيقاتي وآبائهن يحتويهن بأيديهم بحنان غامر، ثم لم ألبث أن بكيت وأنا أرتمي على صدره .
لم أعرف ماذا يمكنني أن أفعل أو أقول, فاحتضنني بذراعيه بما تبقى له من قوة, وقبّل جبهتي, ومرر كفه المرتعشة على رأسي وشعري المسدل على كتفي, بينما خالي في ركن يبكي ويرتجف .
كانت هذه هي المرة الأولى والأخيرة التي أقابل أبي فيها وعلمت أن له أسرة وأبناء عند توزيع الميراث .
سامحه الله, سبب لي التعاسة حتى بعد مماته بميراثه الذي حرمني من أحب .
كان ظن جدي الدائم أن الرجل الذى أحبه يريد أن يتزوجني طمعا، وأنه لا يريد أن يفعل معي كما فعل مع أمي .
فقهرني قهرا أكبر من قهر أمي .

ـــــــــــــــــــــــــــــ
روائيّة مصريّة 

الرواية صادرة عن دار نون معرض القاهرة للكتاب 2018 

مقالات من نفس القسم