حسين عبد العليم
كان والدي كاتباً للقصة القصيرة ونشر بعض أعماله في مجلة “الرسالة”، وكان يمتلك مكتبة ضخمة «أدبية» علمتني عشق القراءة ثم آلت الى بعد وفاته.
في فترة الصبا المبكر كنت قد قرأت قصة قصيرة في مجلة ـ لا أذكر اسمها الآن ـ عن مهرج في سيرك، نظراً لشيخوخته قرر صاحب السيرك الاستغناء عنه، وكانت القصة تدور عن آلام وعذابات المهرج في مواجهة هذا القرار الظالم، إذ لم يكن لديه مكان يأوي اليه وكان السيرك هو كل حياته.
أعجبت بهذه القصة ونزعتها من المجلة واحتفظت بها ككنز. فجأة فقدت مني فحزنت لذلك حزناً شديداً، قال لي أبي: إنك تكاد تحفظها.. لماذا لا تكتبها إذن بخطك من الذاكرة؟، وفعلت، وأتت القصة أفضل مما كانت عليه (أو هكذا اعتقدت) إذ أضفت إليها من خيالي.
تلك كانت هي البداية وكان دافعها تسجيل شيء جميل عشقته خوفاً من نسيانه وضياعه، ثم توالى تسجيل التجارب على شكل تسجيل أجواء ومشاهد وعبارات كنت أراها في الأفلام الأجنبية وأخشى سقوطها من الذاكرة في سياق الحياة المتدفق، فقد كنت وما زلت عاشقاً للسينما.
كنت أعيش في محافظة الفيوم الهادئة وكان مندوبنا في العاصمة الفنان التشكيلي ثروت فخري الذي كان صعلوكاً كبيراً ومثقفاً كبيراً، يحمل لنا أخبار الإبداع وجديد ما نشر فتتوق أرواحنا إلى مقاهي وسط البلد.
انتقلت إلى القاهرة في أواخر الستينات وعشت كما أحب، تعرفت إلى يوسف إدريس ولويس عوض ونجيب محفوظ وكتاب الستينات، شاهدت الأفلام والمسرحيات وحضرت حفلات الكونسير وتوغلت في عالم القراءة بوعي، إلى أن بدأت أنشر أعمالي في الدوريات بحياء المبتدئ في 1973.
وتدريجياً بدأ يتكون الموقف وتتضح الرؤية، وأمدني فاروق عبد القادر وعبد الرحمن أبو عوف ويوسف القعيد بالكتب التي تنقصني ولا يمكنني شراؤها. وتمخضت رحلة الإبداع عن نشر ثلاث مجموعات قصصية وثلاث روايات، ولي رواية ومجموعة قصصية قيد النشر، فضلاً عن عشرات الأعمال الإبداعية والنقدية في الصحف والدوريات.
لا أرفض التجديد في الكتابة، أيضاً لا أقبله بشكل مطلق، أتأذى ممن يخوضون في غياهب التجريب بحيث تأتي أعمالهم خاوية لا رأس لها ولا أقدام، كما أؤمن بحرية المبدع التامة في الكتابة بشرط أن يكون ما يكتب عنه مضفوراً في جديلة متماسكة داخل النص وغير مقحم أو مقصود لذاته، وبشرط أن يكون ما يكتب عنه ـ في حالة شطبه ـ يحدث خللاً ملحوظاً. إما إذا كان يمكن الاستغناء عنه فلا بأس ولا داعي مطلقاً لتحميل النصوص بزيادات وترهلات.
ـ همي ـ باعتبار أن أي كاتب يكون له هم أساسي ومجمل كتابته تنويع لحني على هذا الهم ـ هو الماضي القريب / البعيد ـ بكل تفاصيله الحميمة والإنسانية، وذلك ليس بمعنى النوستالجيا أو مرض الحنين، وليس بمعنى الكلمة الشائعة حالياً: زمن الفن الجميل، لكن بمعنى استحضاره لإحداث مقارنة تلقائية في ذهن القارئ مع قبح الواقع الراهن.
وهنا تحدث الدهشة ويمكن رؤية العادي غير عادي وتنشأ الرغبة في الفعل / التغيير.
وطبعاً أنا غير منفصل بتاتاً عن واقع الفقراء والمهمشين في عشوائيات القاهرة، وأزعم أنني أمتلك عيناً راصدة لا بأس بها.
………………
*نشرت هذه الشهادة في جريدة الشرق الأوسط 2006