فنان هندسة الزمن: حسين عبد العليم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 17
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د. نعيمة عبد الجواد

العمل الأدبي هو عبارة عن عالم فريد يمتزج فيه الواقع بالخيال؛ ليدخل القارئ في دوامة من المشاعر والأحاسيس التي تجعله يتلهف على قراءة العمل وصولاً لنهاية الأحداث؛ ليعلم مصير الشخصيات التي عاش معها في خياله، وشعر بما يموج بها من خواطر وأحاسيس ربما لساعات أو لأيام. ومن الأسباب الجوهرية التي تجعل أي عمل يختلف عن الآخر ليس فقط الفكرة التي يقوم عليها، ولكن كيفية صياغة الفكرة، وتقديمها لجمهور القراء. فكم من أعمال أدبية ذات أفكار رائعة لا يتقبلها القراء لعدم تقديمها بشكل يلقى الاستحسان.

وعند التطرق لأعمال الكاتب والروائي “حسين عبد العليم”، نجد أنه يبرع في تقديم الفكرة، ويمتلك زمام عرضها من خلال تقديم عمل يعتمد على إعادة ترتيب زمن الحكي بطريقة مشهدية تجعل القارئ شريكاً في كتابة العمل الفني، من خلال دفعه لأن يدخل في غمار أحد الأحجية – والتي هي الحبكة الروائية – وتكون مهمة القارئ إعادة ترتيب الأحداث حسب زمن الحكي في العمل الفني، وكأنه يبحث عن القطع الناقص. ومن ثم، يفهم المشاهد التي يقدمها الكاتب من منظور عدسة سنيمائية جريئة، وسريعة التنقل. أما الغريب، فالعمل بالرغم من أنه مقدماً في شكل أشتات متفرقة، لكن عند قراءته، يلاحظ أنه ليس بالملغز، أو المجزوء؛ فكل مشهد وحدة فنية متكاملة، أو فصل رائع من فصول كتاب قد يكتفي المرء بقراءته، لفهم الكثير من المعاني. لكن، وفي نفس الوقت، هذا الأسلوب يجعل القارئ في حالة من التلهف لمعرفة المزيد عن الإشارات والمعاني التي يدور حولها النص، وقبل أي شئ مصير الشخصيات التي تنتقل من بين سطور العمل الإبداعي لعالم الواقع. “حسين عبد العليم” يجسد في أعماله شخصيات من لحم ودم، يتعاطف معها الجمهور. ومن ثم، يتقبل القارئ فكرة كتابة الأحداث وفق بنية زمنية متقطعة، وكأنه يستمع لأخبار أفراد على صلة بهم، وينتظر معرفة ما حدث لهم. وبالتأكيد، التكنيك الذي يجتذب به القارئ هو خلطة إبداعية من تيار العبث Absurdism والتجريب Experimentalism ، وينبلج ذلك في اختيار “حسين عبد العليم” لعناوين رواياته القصيرة (نوفيلا)، وكذلك في بنية النص المشهدية، التي يكون فيها المؤلف كمسافر عبر الأزمان لعرض نصوصاً وأحداث للشخصيات التي يتناولها بالسرد. والمدهش، هو تنقله عبر السنوات جيئةً وذهوبا في شكل عشوائ لا معقول (عبثي)، وكأنه يحفز القارئ أن يبحث معه على القطع الناقص للأحجية التي يعرضها. فأهم ما يميزالروايات القصيرة التي يكتبها “حسين عبد العليم” هو أنه لا يتدخل في سير الأحداث في النص، بحيث يعرض الحكاية بكل أمانة دون التدخل بنقد أحد الشخصيات، أو حتى التحيز لها. كمسافر عبرالزمن، يفضل الكاتب أن يتخذ محل القارئ أو المشاهد؛ لأن تدخله يعني العبث بالزمن، مما يفقده القدرة على التنقل المشهدي عبر النص بسلاسة.

وعند النظر لنوفيلا (رواية قصيرة) “فصول من سيرة التراب والنمل” للكاتب والروائي “حسين عبد العليم” نجد عملاً يمتزج فيه التجريب والعبث. عنوان النوفيلا ذو المفردات المهيبة قد يشير للوهلة الأولى أن العمل المطروح هو أطروحة علمية، أو عمل شديد الجدية. ويزداد الإلغاز مع مفتتح الرواية، الذي هو مجرد نعي مطول في صحيفة لسيدة ينتمي أهلها أجمعين لطبقات متعلمة تحتل مناصب كبرى. ومع أول مشهد بالرواية القصيرة، يجد القارئ نفسه في شقة قديمة، صاحبها الطاعن في السن ينتمي لزمن ولى. وعلى الرغم من ذلك، يحارب التراب الذي يتراكم بدون سبب في أرجاء المنزل مُحضراً معه أسراب غفيرة لا تنتهي من النمل، الغير عابئين بوجود سكان المنزل، الذين حتى وإن حاولوا مقاومتهم بشتى الوسائل، لا ينصاعون ولا يهمدون. فتراكم التراب والنمل الغير آبه بأن المنزل غير مهجور، هو عبارة عن نبوءة، أكثر من كونها حشرات غازية للمنزل، بأن الخراب والتعفن لسوف يصيب قريباً ذلك المكان حتى يهلكه. وأن محاولات التخلص من النمل والتراب ليست فقط فاشلة تماما، بل أيضاً مؤذية، لأنها تضر بأثاث المنزل وصحة سكان المنزل عند محاولة التخلص منهما. فالمنزل وسكانه على مشارف التحلل، ورائحة الموت التي تم افتتاح النوفيلا بها تتغلغل وتزداد كلما خاض القارئ في سير الأحداث.

وبالرغم من أن الكاتب قد صاغ عمله على طريقة استحضار مشاهد من الماضي قبل ثورة 23 يوليو 1952، حين كانت الأرستقراطية، والرقي هما سنة الحياة المدنية، وحاول بكل الطرق ألا يتطرق للأحوال السياسية بشكل مباشر، وكذلك ألا يعلق على الشخصيات التي كتبها، أو يتدخل بصوته عند سرد النوفيلا، لكنه استطاع أن يهمس في أذن القارئ، ويوجه أحاسيسه لتتقابل وميل “حسين عبد العليم” لعالم نظيف راقي ينتقد فيه تدهور الأحوال بعد ثورة يوليو 1952، عندما صارت الأرستقراطية هجينة الدماء مع تزاوج بنات الطبقات الراقية بضباط جيش ينتمون لعامة الشعب. أضف لذلك، تآكلت الطبقات الراقية وهبطت مرتبتها للطبقة المتوسطة، بعد تجريدها بشكل متتابع من ممتلكاتها؛ فالطبقات التي لم يطالها التأميم، صارت أملاكها من عقارات وأطيان لا تدر دخلاً يوفر لها حياة كريمة.

ونفس هذا الانحدار والتعفن، قد أصاب المعالم المدنية الراقية، مثل النوادي، والكازينوهات، ودار الأوبرا، والشوارع، ونوادي الطبقات الراقية. حتى ولو كان المَعلَم لا يزال قائماً، مثل قهوة أم كلثوم بوسط البلد، نجد أن التعفن والتحلل قد أصابها أيضاً، منذراً بفنائها عما قريب.

أما أخلاق البشر، فعبر السنوات قد انحدرت بشكل مذري. تلاشت الرقة والذوق؛ لأن الشعور بالانتماء للبلد آخذاً في التضاؤل. فعندما يحكي “الدكتور عزيز” على المقلب الذي نفذه في مشرف الرحلة، والذي ربما كان فحواه مثاراً لضحكات كثيرة حينئذٍ؛ لأنه يعبر عن جرأة فائقة في مخالفة الأوامر والتصرف بطيش وعبثية – حسب مفاهيم ذاك الزمان الغابر. لكن في هذا الزمان الأغبر، انتشرت البلطجة، وصار السوقة هم أصحاب الأملاك التي تدر أموالاً طائلة، والذين يفرضون أذواقهم المتدنية على البقية الباقية من الشرائح المجتمعية التي تقاوم الانحدار والتلاشي. فصاحب البوتيك الفظ وولده “البلطجي” صار لديهم الجرأة ليس فقط لتلويث سمع عائلة د. عزيز الأرستقراطية الأصل بأغاني هابطة، يتم تشغيلها بصوت عالي جداً لدرجة أن كلماتها قد تصير غير مفهومة، وأن من يحاول أن يثنيهم عن ذلك – حتى ولو بقوة القانون – يصير عدواً مهدداً في أي لحظة بأن يتم الفتك به، بنفس الطريقة التي يتحرش بها صاحب البوتيك السوقي بدكتور عزيز لفظياً، ويتوعده بالرغم من أنه طاعن في السن. حتى القانون، لم يعد يرى في تصرفات هؤلاء السوقة غضاضة؛ لأن انحدار الذوق والأخلاق صارا العرف السائد.

ومن الجدير بالذكر أن أسماء أفراد أسرة د. عزيز، وأسماء أصدقائهم القدامى تضيف إلى فكرة التحلل والتعفن، وتعزز من رائحة الموت المنتشرة في أرجاء النوفيلا. فبطل القصه “د. عزيز” اسمه يشير إلى عزة الزمن الغابر، والتى حاول أن يعززها ولا يتنازل عنها طوال حياته.  وحتى وهو على شفير الموت، كانت رحلته الأخيرة لشراء أغاني تعيده إلى الزمن الذي ولَّى ولن يعود، ومات وهو يستمع لها رافضاً أن يغادر حجرته لإصابته باكتئاب الحنين للماضي. وبما أن موت د. عزيز الجسدي أني بعد وقت طويل من موت روحه بانفصالها عن عالمها الراقي، بعد أن غادرت الروح جسده، تبدى الجسد وكأنه قد فارقته الحياة منذ زمن بعيد؛ والدليل على ذلك أسراب النمل التي تنخره، وتجول بين فتحات جسده وهي تعلم مستقرها وسبلها. ودور النمل في هذه النوفيلا يشابه تماماً سيرة النمل في قصة سيدنا سليمان، الذي تبدى جسده للجان نابضاً بالحياة، لكنه في الواقع قد فارقها منذ عقود. أي أن دور النمل هو كشف الحياة من الموت.

أما زوجته “عايدة”، فحياتها الراقية هي أوبرا مهيبة راقية، مثل أوبرا عايدة. وبالرغم من بساطتها، وبراءة تصرفاتها، لكن كانت حياتها هي الشئ الوحيد الذي يربط أفراد أسرتها الذين يعيشون في عالم اليوم الردئ برقي الماضي وأصالته. ومن ثم، غزت أسراب النمل والتراب منزلها بعد أن فارقت الحياة؛ لأنه بموتها مات الرقيّ، وعلى أفراد أسرتها الكفاح ضد رداءة هذا الزمن.

وبالنسبة لولديها، “فاروق” و”فؤاد”، فاسماهما يضاهي أسماء ملوك العائلة المالكة التي ترعى أخبارها “عايدة”، وكانت تأمل بمولدهما أن يكونا إمتداداً للحياة الراقية الأرستقراطية التي تقدسها. فالأول، “فاروق”، هو نسخة مصغرة من والدته في رقتها، وبراءتها وبساطتها، لكنه لم يستطع أن يتحمل رداءة العصر، فغادره إلى العاصمة الإنجليزية لندن؛ لعله يجد فيها رائحة الزمن الجميل. ولما لم يجد، مات في ريعان شبابه بسبب محاولاته الدؤوبة للانفصال عن الواقع بالانغماس في الشراب. وبالنسبة للثاني، “فؤاد”، فلسوف يساعده اندهاشه وعدم قدرته على تفهم الواقع – مما يجعله يظهر غبياً بسبب تصرفاته البلهاء – على العيش لفترة أكبر، وإن كانت لن تطول. فبكاؤه الحار على موت أخيه يوضح أنه يحاول أن يدفن رقيه حتى يجاري ما يحدث بالزمن الرديء.

لقد برع “حسين عبد العليم” في أن ينقل شخصياته من عالم الخيال للواقع، ويجعل القارئ يتفاعل معها لدرجة قد تغريه – في محاولة عبثية – أن يخفف عن تلك الأسرة المنكوبة آلامها. ولعل العبث الأكبر هي حياة الكاتب نفسه، الذي لم يحصل على نصيبه من الشهرة، بالرغم من براعته الفائقة في السرد والتصوير. ربما لم يعلم كيف يطرق أبواب الشهرة في هذا العالم الردئ. لكن العزاء الوحيد أنه قد فارق الحياة في 20 فبراير 2019 بعد صراع مع المرض، تاركاً أعماله تتحدث عنه لتخلِّد ذكرى أعمال جميلة في زمن رديء.

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم

تشكيل
تراب الحكايات
موقع الكتابة

ثقوب