حاوره: أسامة الرحيمي
في سنوات التكوين أتاح له مجتمع الفيوم رؤية تفاصيل النسيج الإنساني المصري، وعلاقة المسلم بالمسيحي ضمن عادية الحياة اليومية، فتشربت روحه التشابكات التاريخية بلا عمد.وقرأ في وقت مبكر قصة مهرج استبعده صاحب السيرك بسبب الشيخوخة، ولفرط تأثره بآلام المهرج احتفظ بها لسنوات، وحين فقدها حزن بشدة، فنصحه والده أن يعيد كتابتها من ذاكرته. وأضاف إليها من خياله حتي ظن أنها أفضل من القديمة، وفي كل الأحوال حسمت علاقته بفعل الكتابة.
وتولع بالقاهرة عبر صديق أشعل ذهنه بأخبار مقاهيها ومبدعيها، وحين انتقل إليها نهاية الستينيات رأي يوسف إدريس ولويس عوض ونجيب محفوظ، وخالط العديد من كتاب الستينيات، واحترف القراءة، وأدركته حرفة الأدب، ونشر بعض أعماله علي استحياء في دوريات متفرقة، لنجد أنفسنا الآن أمام مبدع عصامي خالص، اختط لنفسه أسلوبا يشبهه، صادقا جدا، وقليل الكلام.
رواياته بنفس القصة القصيرة كما وصفها علاء الديب، تحتشد بتفاصيل كثيرة مختزلة، لأن الكتابة عنده مثل تشيكوف وابراهيم أصلان تعني الاختصار، وتبهر وجدان المتلقي بوميض الوعي الآسر، وتمتعه في آن.
روايتاه الأخيرتان موزاييك وزمان الوصل صدرتا معا. رصد في الأولي التدهور الذي داهم مصر مع الانفتاح الاقتصادي، وآثاره التي تراكمت بالسلب تدريجيا فأدت إلي قيام ثورة يناير.
وفي الثانية عرض لواقع عجائبي يعيشه صائد طيور، اضطره ضيق الحال لبيع بندقيته، والتخلي عن عشقه، وأحاله تبدل الأحوال إلي نقيضها إلي طائر مهيض يتلهي به من أفسدوا زمانه، وعجزه عن الإفلات وسع المصيدة لملايين مثله، لم يعد بإمكانهم غير الحنين إلي زمان الوصل.
في روايتك الأخيرة موزاييك رصدت تفاصيل تحلل القيم، كأن لا أحد يمتلك شيئا يخاف عليه، والمجتمع في حال مخيفة من السيولة، تطرح سؤالا جوهريا، من فعل بنا كل هذا؟ هل يمكنك الاجتهاد في إجابة السؤال كما اجتهدت في إحكامه؟
من فعل بنا هذا؟ أعتقد أنني أجبت بشكل درامي في آخر صفحتين من الرواية وهي حكاية تراثية عن ديك كان مراوغا ومخاتلا، وحصل علي كل شيء من الناس ولم يعترض أحد إما خجلا أو إذعانا، نحن السبب وليس الديك. والرواية عرضت لفترة الانفتاح الاقتصادي أيام السادات، حين أخلت رأسمالية جديدة مختلة بالعدالة الاجتماعية علي يد الانتهازيين الذين لا يعرفون من أوطانهم غير ما يقدرون علي خطفه منها، وكذا ظهور الفن الهابط في تلك الفترة التي أدت إلي انهيار عام دفع الأوضاع في النهاية إلي قيام ثورة25 يناير.
وروايتك الجديدة أيضا زمان الوصل تعد أول عمل في الأدب المصري عن صيد الطيور، وعلاقة الصياد وبندقيته، وتشابكات حالة الصيد المدهشة، فمن الصياد ومن المصيد بنظرك، وهل بتنا طيورا يتلهي بنا البعض للتسلية؟
كنت من عشاق صيد الطيور، لكنني أقلعت عن تلك العادة السخيفة التي تقوم علي القتل، ونحن بالفعل بعد ثورة25 يناير صرنا طيورا يتلهي بنا البعض، لكننا لسنا فريسة دائمة ولا سهلة كما قد يتوهم ذلك البعض، خاصة إذا كان الصياد أقل ذكاء.
الراوي ذاته يبدو عصفورا مهيضا ينزف، كأنه وقع في فخ قاس، وصيادون غلاظ القلوب هدموا عشه، وبددوا أمانه، فبات يحوم حائرا بلا مستقر.. فأي ألم هذا، ولماذا أبطالك حزاني إلي هذا الحد؟
في زمان الوصل تحديدا كنت أشعر أنني أصبحت في مكان ليس مكاني، وزمنا ليس زمني، وأتوق للرحيل، وبت آمل أن يعود زمن الوصل ولو ساعة واحدة، وقد خففت ثورة يناير عني قليلا، ثم عادت وأثقلتني بأحزان مختلفة.
رواية المواطن ويصا عبد النور تظهر حميمية نسيج المجتمع المصري، فالتسامح فيه ليس تفضلا من طرف علي الآخر، بل طبيعة جينية، فهل هي استفادة بما عشته بنفسك في الفيوم، أم إنشغال شخصي بالمسألة القبطية؟
نعم التسامح جين طبيعي لدينا، وصفة أصيلة في الشخصية المصرية، ولم يكن يوما تفضلا من طرف علي الآخر، وعندي انشغال قديم بالمسألة القبطية مضاد للتطرف من أي طرف، وهو أحد أهم الهموم التي تتردد في أعمالي، وأعتقد أن الأدب قادر علي مواجهة التشوش الطائفي، والمشاركة في التنوير بشرط عفوية المعايشة والتناول، وإلا أصبحت الحكاية تلك الصورة الشهيرة للشيخ وهو يسلم علي القس.
في روايتك السابقة سعدية وعبد الحكم وآخرون عرضت لزمن محمد علي ليس عبر وقائعه السياسية الكبري، بل من خلال تفاصيل صغيرة، مثل مهنة البغاء، ومدرسة الممرضات، وأول استخدام للكلاب البوليسية في مصر. فهل يمكن للإبداع قراءة التاريخ من تلك الزوايا المنسية؟
أعتقد أن مهمة الإبداع تحديدا هي قراءة التاريخ من الزوايا المنسية.
أشرت لتحطيم الخمارات وإغلاق بيوت الدعارة وتشديد القوانين هل الروائي ملزم بالمعلومات الدقيقة عن المرحلة التي يتناولها؟
ألزم نفسي بالمعلومات الدقيقة عن المرحلة التي أتناولها لأن ذلك يعطي العمل مصداقية وفي رواية سعدية وعبد الحكم كتبت ثبتا بالمراجع التي استخدمتها عن تاريخ الفترة وتاريخ الأمراض والأحداث المهمة وحتي الإعلانات في الصحف. إن هذا النوع من الكتابة يتطلب قارئا جادا وأعتقد أنه موجود وإن كان بنسبة قليلة.
نهلت بقدر كبير من ذكرياتك وحياتك الشخصية، كما يبدو في أعمالك، فلأي مدي يمكن إخضاع التجارب الشخصية لشروط الكتابة، وهل يكفي الحنين والاجترار لبناء إبداع؟
الذكريات والحياة الشخصية يمكن فعلا اخضاعها لشروط الكتابة علي أن يحترس الكاتب من الوقوع في أسر جمالها، واستعادة الماضي ليست مجرد حنين، لكنها استحضار للماضي القريب ووضعه في حالة جدل حول الواقع المعيش، والمفارقة بين الماضي والآني تؤدي إلي التوقف والدهشة، وتراكم الاندهاش يشارك بشكل أو آخر في التغيير.
الجنس في أغلب أعمالك يتجاوز الحسي إلي الإنساني، بمنأي عن منطق التحليل والتحريم، فعل عفوي يعكس طبيعة الإنسان، وشخصية المتشدد تحظي باستخفاف ملحوظ، فهل هذا ناتج عن موقف فكري؟
ليس ناتجا عن موقف فكري، لكنه الاتساق الذاتي للشخصيات وتفاعلاتها الطبيعية في الحياة.
العلاقة بين المعرفة والخسارة شرطية لديك، فمن يعرف يخسر ويحزن، أليست المعرفة سببا للحضارة، ونتيجة لها، وسبيلا لراحة الإنسان وسعادته؟
هناك علاقة بين المعرفة والحزن، فمن يعرف يحزن، ونظرة الأدب لهذه القضية تختلف عن نظرة العلم والمنطق، وهنا أذكر مقولة للشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي في ديوانه جوابات حراجي القط أنا شفت.. ولما شفت.. عرفت الفرق بين البلياردو وعنبر العمال.