سيد محمود
عندما بلغنى خبر موت الكاتب حسين عبدالعليم لمتُ روحى بشدة لأنى وعلى امتداد سنوات من إدراك قيمته ككاتب لم أفكر مرة واحدة فى محاورته أو الكتابة عن أعماله الجميلة التى أحببتها دون أن أراه، لومٌ علمنى ألا أتأخر مرة أخرى فى التعبير عن تقديرى لما أحب وعزائى أن هذا التقدير وصله عبر آخرين.
مات كاتب قريب من القلب، وهذا كاف للشعور بالألم وبهذا الدافع أديت واجب العزاء لكي أصل بروحى إلى لحظة غفران لتقصير لم يكن متعمدا.
أطل اسم حسين عبدالعليم لأول مرة فى حياتى ضمن منشورات القطفة الأولى لدار ميريت أوائل العام 2000 وكانت الدار تحفل بأسماء لها وزنها فى الحركة الأدبية وتخضع منشوراتها لمعايير عالية لم يكن من السهل التفريط فيها، وأول من دعانى للتعرف على عالم عبدالعليم هو الراحل أسامة عفيفى، الذى كنت أحب حماسه لما يحب، وحين طالعت روايتيه «بازل» و«ورائحة النعناع»، أدركت أننى أمام كاتب فريد يكتب بعذوبة بالغة، ولا يفرط فى شيء من قوانين الكتابة التى يعرفها وهو المحامى المولع بالقوانين.
وبقيت أتابع كتابات عبدالعليم وجرأتها فى طرق مناطق مجهولة فى الذاكرة ولعلها النموذج المثال للكتابة التى تفض بكارة الحواس وتكسر التابوهات وتروح لـ«المسكوت عنه» دون زعيق أو تباهٍ، فهى على نقيض الفتونة والادعاء وليس وراءها أى دوافع إلا مقاربة الجمال والسعى لبناء نص سردى بديل يقاوم البلاغة الفارغة.
حكى لى الروائى أحمد صبرى أبوالفتوح ليلة العزاء، وهو الذى زامل حسين عبدالعليم نحو أربعين عاما، أنهما تعارفا فى كلية الحقوق جامعة القاهرة، بدآ معا الكتابة وحظيا بتقدير الراحل يوسف إدريس الذى كان يقوم بتحكيم نصوصهما فى مسابقات الجامعة، ولك أن تتخيل المعايير الصارمة التى كان يضعها ليخرج من بين مئات النصوص بكاتب جيد يستحق أن يكمل مسيرته، وحدث أن اختار صاحب «النداهة» عبدالعليم ومنحه الجائزة الثانية، فى حين ذهبت الأولى لأبوالفتوح الذى عاش حياته كلها يؤكد أحقية صديقه فى المركز الأول، فقصته كانت أحلى لأنه يكتب بميزان من ذهب، ولعل هذه الجملة تفسير الجانب الفنى الأعمق من مسيرة الراحل مع الكتابة، فهو كاتب الرواية القصيرة بامتياز وأغلب رواياته تكاد تكون أقل من مائة صفحة لكنها حافلة بالكثير الذى يمكن التوقف أمامه، خاصة على صعيد اللغة التى يكتب بها وكانت خالية من الزوائد ومخلصة تمام الإخلاص لدروس يحيى حقى فى ممارسة الاقتصاد اللغوى للحد الأقصى.
وبالإضافة إلى اللغة ظل لافتا بالنسبة لى طريقته فى اختيار موضوعاته واختبارها، بل والعودة لقضايا عالجها سابقا، ولك مثلا أن تعاين مثلا نضارة إدراكه لقسوة التغييرات الاجتماعية ولحظات الأفول والغياب، لذلك تفطر الروايات بالحنين وبنبرات الفقد وحس الرثاء للأماكن وللبشر الذاهبين إلى الغياب، فهى الكتابة التى تستند على نبرة إنشادية لا تسقط بها فى فخاخ الكليشيهات أو الكتابة الخشبية أو النمط الاستشراقى الذى كان بالإمكان أن يقوده لفخاخ كثيرة.
نجا منها جميعا خاصة فى ظل شغفه بقضايا الأقباط، ولعل أكثر كتابنا شغفا بالموضوع الذى ظل لسنوات حكرا على الكتاب الأقباط، ويبدو هذا مفهوما فى ظل الحساسية المفرطة التى تلازم التطرق لهذا الملف، غير أن ما استهدفه عبدالعليم يتجاوز الحساسية الدينية سعيا لمقاربة عالم على حافة القلق، حافل بالكثير من الهواجس التى تصلح كموضوعات للكتابة والاشتغال على «مكامن الحواس».
وجانب آخر من جمالية كتابة عبدالعليم يتعلق بكيفية النظر لها كمصدر تاريخى، ولعله أيضا من أوائل الكتاب الذين راكموا فوق منجز سعد مكاوى لكتابة رواية، تستعين بالتاريخ لكنها ليست رواية تاريخية فهى لا تلزم نفسه الا بالتخييل السردى وتحترم الوقائع لكنها تعيد بناء العالم وهو ما يمكن ادراكه فى «سيرة التراب والنمل» أو «سعدية وعبدالحكم»، وأيضا فى «ويصا عبدالنور»، فكل رواية من بين هذه الروايات مشدودة للتاريخ وتستعين به لتعيد رواية وقائعه ولكن من «أسفل» ما يعيدنا من جديد لمشروع صاحبها الرائد فى خلق النص البديل والكتابة دون حسابات سوى المتعة.
مات حسين عبدالعليم كما عاش فى الظل، راضيا بمهنة المحاماة التى علمته شيل الهموم، ولم يجن منها سوى ابتسامات الرضا، وهى التى كانت كافية لوداعه.