ثلاثية بهوت لنجيب سرور

نجيب سرور
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

فكرى عمر

أولًا: بَهُوت وبُهوت:

كانت بهوت قرية تابعة لمديرية الغربية قديمًا، ثم انتقلت بعد 1952م إلى مديرية (محافظة) الدقهلية. يقال إن نطقها قبل مئات الأعوام كان بَهُوت نسبة إلى قبيلة بَهُود اليمنية التى سكنتها قديمًا ثم قُلبت الدال تاءً مع الأيام. كانت القرية فى خلاء تحاصره مياه الفيضان وما يتخلف عنها من برك وأوحال، ونباتات بَرِّية هائشة مثل أغلب مناطق الدلتا فى ذلك الزمان. مكان كهذا كان بعيدًا عن العيون لفترة طويلة، متواريًا أيضًا عن قبضة السُلطات المتوالية.

ابتنى أهلها بيوتًا من الطوب اللبن والخوص والجريد، أو ضربوا خيامهم فى المناطق المرتفعة من الأرض، ثم مدُّوا جذورهم فى أعماقها طولًا وعرضًا، فأمدتهم طبيعتها الأولى بهذا العرق النافر، والدم الحامى، والتمرد، والثورة ضد الإهمال والإذلال على مر الأيام.

هذا نذرٌ من تاريخها القديم، وسماتها المنقولة شفويًا، أو فى كتابات سَجَّلها أحد أبنائها الذين عملوا بجمع تواريخ بلدان الدلتا منذ قرن أو يزيد هو الأستاذ “صالح محمد الفارس” الذى كتب أيضًا بعض المقالات التاريخية فى الجرائد المصرية حينها كالأهرام، والمصريون.

ليس ثمة أثر آخر تخبر به، حتى الجذور اختلطت، وغُرست جذور جديدة كثيرة أتت من مختلف المناطق فى الأزمنة الماضية بحثًا عن عمل فى الزراعة، أو التجارة، فاستقرت وتمددت مثل بذرة شجرة طُمرت فى تربة صالحة للزراعة.

تحتفظ القرية فى ذاكرتها الجمعية أيضًا بأسماء فقهاء وُلدوا بها، ثم هاجروا للتعليم، وانتشرت كتبهم فى بلاد العرب مثل الشيخ “منصور بن يونس البُهوتى الحنبلى” المولود سنة (1000هـ – 1591م)، وابن اخته الشهير بالشيخ “محمد الخلوتى” نسبة إلى الطريقة الصوفية الخلوتية، وغيرهم من الأساتذة وشُرَّاح المذاهب الفقهية ما يؤكد استقرار الأُسر بالقرية منذ مئات الأعوام.

فى زمننا هذا ننطقها بُهُوت، بضم الباء والهاء، وهى تسمية وعيت عليها منذ كنت طفلًا، ولم أسمع أحدهم ينطقها غير ذلك سوى الغرباء الذين يختلط عليهم التشكيل، أو حينما بدأت البحث عن الجذور. صار النطق الأخير سلسًا فى الأفواه بعد أن امتزج وتبدل الجين واللسان.

فإذا قفزنا بالسنوات إلى العصر الحديث طالعنا أحد أهم الأحداث التى كان لها دلالة كبيرة بالنسبة لمصر كلها، ونضال فلاحيها، وعمالها ضد الإقطاع واستلاب الإرادة. إنها حالة التمرد التى قام بها بعض أهالى بهوت فى صيف 1951م ضد الإذلال والجوع الذى عاشوا مراره تحت الإقطاع الزراعى إلى أن تطور الشد والجذب بينهم وبين أسرة الباشا، فهجم بعضهم على السرايا، وأُحرقت بعض أجزائها، وما تلاه من مجىء قوات البوليس بمعاونة الهجانة الذين قدموا على الجِمال بالكرابيج السودانى لفرض حظر التجوال. ولم يمر العام حتى قُضىَ على الإقطاع الزراعى، ووُزعت الأراضى على الفلاحين فى سبتمبر 1952م. كانت بهوت أول قرية توزع فيها الأفدنة الخمسة تأكيدًا، كما قيل وقتها، لدورها فى إلهام حركة الضباط الأحرار بما كان يفور فى عروق الناس وتحت جلودهم من غليان.

هذا الحدث الكبير فى دلالته اجتذب إلى جانب الصحافيين، وعلماء الاجتماع فى ذلك الوقت، الشعراء والأدباء للنهل منه بالإشارة إليه مباشرة، أو استخدامه كرمز للكفاح فى مصر كلها. انجذب إليه الشاعر والمسرحى المصرى “نجيب سرور” الذى كتب عنه ثلاث مسرحيات، وهو ابن قرية أخطاب، إحدى قرى مركز أجا محافظة الدقهلية قبل أن يعيش بالقاهرة، ويسافر إلى روسيا والمجر، ثم يعود إلى مصر بثقافة مسرحية رفيعة يعبئ فيها أفكاره، وأحلامه، وثوريته.

ثانيًا: الثلاثية المسرحية:

أَلَّف “نجيب سرور” ثلاثيته المسرحية التى أطلق على كل منها مأساة شعرية وهى: (ياسين وبهية) التى مُثلت على مسرح الجيب عام 1965م بإخراج “كرم مطاوع”، وأداء “عبد الرحمن أبو زهرة”، “نجاة على”، “أحمد توفيق”، “جلال غنيم”، “حسن البارودى”، “رشدى المهدى”، “شوقى بركه”، “نجمة إبراهيم”، وآخرون.

والثانية هى (آه ياليل يا قمر) التى أخرجها للمسرح عام 1966م للمرة الأولى “عبد الرحمن الشافعى”، ومُثلت على أكثر من خشبة مسرح وبيت ثقافة بعد ذلك.

والثالثة هى (قولوا لعين الشمس) بإخراج مسرحى عام 1973م لـ”عصام العراقى”.

ثالثًا: الجوع يصنع الوحوش:

لهذه الجملة المسرحية فى (ياسين وبهية)، أو الرواية الشعرية كما أطلق على ياسين وبهية، تفرعات فى المسرحيات الثلاث، مضافًا إليها جرائم الشرف الفعلية، أو الرمزية، فالجوع وانتهاك الأعراض هما ما يدفعا الأهالى إلى التمرد، والتضحية بالنفس فى سبيل الكرامة.

كان “ياسين” ابن عم “بهية” وخطيبها، يُضفى عليه الوصف فى المسرحية سمات الشموخ، والعزة، والسمرة التى دبغتها على الجِلد شمس الغيطان، وقوة العضلات التى غزلها العمل الشاق، بعينين حادتين كالصقر، وقلب مرهف متيم بحب “بهية” الفتاة الجميلة العفية التى لها عذوبة الأنثى، ونقاء قلب يشبه الأرض المعطاءة.

لكن الباشا الإقطاعى يحرم الفلاحين من كَدِّهم. لا يمنحهم إلا ما يقيم الأود، ويضمن الاستمرار فى العمل، ومن سقطوا تركوا لأبنائهم عملًا بامتداد الأيام الثقيلة فى أرض يزيدها الباشا كل عام بحصار أصحاب القطع الزراعية المحدودة، وتعطيش محاصيلهم مما يضطرهم لبيعها بأبخس الأثمان كما حدث للأب نفسه حين باع نصف الفدان الذى يضمن له الحرية. الباشا فى المسرحية أيضًا يلتهم البنات الجميلات على فراشه وهى صورة رمزية للربط بين اغتصاب الأرض والأنثى، يستدعى “بهية” للخدمة فى السرايا، وكما أكل غيرها يود لو يأكلها لحمًا ثم يرميها نهبًا للضباع الناهشة، فاستجمع “ياسين” كل دم التمرد فى شرايين بهوت. وقف ضده، ضد الجوع، ضد انتهاك الشرف حتى تلقى رصاصة فى الرأس مات على إثرها.

فى المسرحية الثانية تُعدِّد “بهية” على قبره بذكر بطولاته، وسماته. تعيد الذكرى، وتندب الحظ السىء رغم جمالها ورشاقتها، فيتشجع “أمين” صديق “ياسين”، لإعلامها بحبه له، يتقدم إليها ليتزوجها، ثم يرحلان معًا من بهوت إلى بورسعيد، إلى أرض جديدة بعيدًا عن سطوة الباشا، والعمل من طلعة النهار حتى أفوله. سيعمل “أمين” بكامب إنجليزى، سيسكر وينسى بطولاته ومبادئه حتى يفيق مرة أخرى، والسُكر بالويسكى، أو شرب الحشيش إحدى الوسائل التى تُكنِّى بها المسرحيات عن مرحلة الهروب من المواجهة لدى الشخصيات، أو لحظات الضعف لدى الأبطال. ينضم “أمين” لكتائب الفدائيين ضد الإنجليز، بعد أن تعافى من مرحلة ضعفه، لكنه يموت قتيلًا هو الآخر، وترفض سلطة الاحتلال ومعها ملك متواطئ تسليم جثث الضحايا إلى ذويهم، ليدفنوها سرًّا خوفًا من أن تتجدد الحرائق، وينتهى بذلك الجزء الثانى.

فى الجزء الثالث تواصل “بهية” مع ابنها “ياسين”، وابنتها “أمينة” الحياة بعد رحيلهم من بورسعيد إلى السويس، يتعرضون للعدوان الثلاثى، وهزيمة 5 يونيو التى تجبرهم على التهجير إلى المنصورة، وبهوت فى كل ذلك حاضرة باسمها ورمزيتها.

رابعًا: بهية، الجسد والرمز:

اللافت للنظر فى المسرحيات الثلاث أولًا هى أسماء أبطالها بحمولاتها الإيحائية، “ياسين” هو ابن الأغنية الشعبية الذى يدافع فيها عن الفقراء ضد الأغنياء، و”بهية” الأنثى البهية العفية سيئة الحظ، والرمز المتكرر لدى كثير من شعراء العامية لأرض مصر، مطمع الغزاة، ومحط الأقدام التى تنهب وتنتهك، ثم تدير الظهر ساعة المأساة، و”أمين” هو المؤتمن عليها بعد رحيل “ياسين”، “أمينة” البنت الأمينة على تاريخ بلدها. أما “عطية” فعسكرى مصرى يؤازر “بهية” فى محنتها. كان يعمل بناءً قبل تجنيده، ويعود إلى عمله ثانية بعد إنهاء خدمته، يعطى أكثر بكثير مما يأخذ، ويفقد ذراعه أثناء تفجير الصخور فى السد العالى. و”حمدى” المُغنِّى رجل حالم يرفض فرصة عمل مشوبة بالتجسس ضد وطنه، ينتحر هذا الحالم فى النهاية.

هذه ثيمة فى استخدام الأسماء رمزيًا تضيف إلى فقرات وأشعار المسرحيات بُعدًا توضيحيًا مقصودًا إلى حد ما، لا يعمل على كشف معانيها بشكل بسيط بل يعمد، فى ظنى، إلى حالة استثمار كل العناصر لرسم صورة ميلودرامية للنضال الذى يبدأ من بهوت ويستمر ببورسعيد، وأسوان، والسويس ضد الإقطاع، والإنجليز، والصهاينة، وكبار الفاسدين فى القطاع العام، والمتواطئين معهم من الصامتين والخائفين فى كل مكان.

و”بهية” فى كل ذلك تنتقل من شخص إلى آخر. تقاوم الفقر، والتشتت، وترثى أبطالها الذين يقدمون أرواحهم دفاعًا عنها وعن مستقبلهم ومستقبل ذويهم من بعدهم.

خامسًا: النبوءات والأحلام:

فى المسرحيات الثلاث أحلام لـ”بهية”، كل واحد منها يتحقق فى النهاية. تحلم بـ”ياسين” يجذف فى اليم على مركب، والحمام يطير فزعًا من حوله وعلى رأسه شال أحمر. يُقتل ياسين بطلقة فى الرأس ويحمرّ شاله الأبيض بدمه النازف كتحقق للحلم. “ياسين” نفسه يحلم بأنه يركب الباشا فى إشارة إلى أنه يقاومه وينتصر عليه رمزيًا بتخليد اسمه، والاكتفاء بكلمة الباشا فى المسرحية دون اسم؛ ليكون اللقب دالًا على طبقته الإقطاعية بصفة عامة لا وجوده الإنسانى الخاص المتفرد كـ”ياسين”.

فى الجزء الثانى تحلم بأن “أمين” و”ياسين” قد صارا فى الجنة بعد وفاتهما. فى الجزء الثالث يزورها بالحلم “ياسين” و”أمين” ليحذروها من خمسة ستة، لا أحد يستمع إليها، أو يستطيع فك شفرة خمسة ستة، حتى تحدث هزيمة 5 يونيو فتدرك أن التحذير لم يُفد أحدًا من الذين يتجاهلون الإشارة، ولا يتخذون احتياطاتهم ضد عدو ظل رابضًا على الأبواب.

تلعب النبوءات والأحلام دورًا تفسيريًا، أو تنبؤيًا فى المأساة المسرحية، وهو نفس الدور الذى تلعبه فى الملاحم اليونانية القديمة حيث يملك البطل قلبًا نقيًا، واتصالًا خاصًا بأرواح الآلهة، أو الأبطال فى العالم الآخر الذين يوحون إليه بالمستقبل، أو يحذرونه من كارثة مقبلة. فى الثقافة العربية تلعب الفراسة، أو نموذج زرقاء اليمامة أيضًا هذا الدور التنبؤى، فزرقاء اليمامة أبصرت وراء الأشجار المتحركة جيشًا غازيًا، لكن لم يصدقها أحد فى الوقت المناسب.

سادسًا: فى الختام:

هذه المسرحيات الثلاث تحاول التركيز على النضال المصرى على طول الزمن ضد المحتل الخارجى، والظالم الداخلى بأسلوب ملحمى يعتمد على مجموعة من السمات والعناصر منها: استخدام الحكاية الشعبية التاريخية كإطار حكائى، وفلسفى. الاعتماد على الراوى الذى يسرد الأحداث أو يُعلق عليها، والكورس الذى يقوم بمحاكمة الشخصيات، أو الاستفسار منها عن جدوى أفعالها.

هذا الشكل الملحمى يتيح للمتلقى أن يكسر الإيهام المسرحى، فيكون على مسافة من الأبطال تجعله قادرًا على تحليل الحادثة التاريخية، والحكم عليها، وإدراك العمل المسرحى كلعبة فنية هدفها التعبير عن تطلعات، وأحلام الناس، وربط ماضيهم بحاضرهم لتنبيههم، أو توعيتهم اجتماعيًا، وفكريًا، وسياسيًا كأحد أهداف الأسلوب الملحمى فى المسرح.

تبدأ المسرحية الأولى بالتعليق الشعرى للراوى: كانت الشمس جريحة / تصبغ الأفق دمًا قبل المغيب / ومن الآفاق عادت لبهوت / تزحم الأبراج أسراب الحمام / يومها نامت بهوت فى الظلام.

ويرد الكورس: هكذا تبدو الليالى فى سواد القبر / ما لم ينقذ الناس القمر.

وتنتهى المسرحية الثالثة بتحذير الأبطال للناس جميعًا من (خمسة ستة)، أى من هزيمة 5 يونيو بكل ما فيها وما حولها، وهكذا يحدث الربط الفنى بين حدث كبير فى قرية صغيرة بمصر، وبين ما تلاه من أحداث بأسلوب فيه من التعديد، والبكاء، والإحساس بالاضطهاد الكثير، وهى نقطة ربما شدَّت “نجيب سرور” إلى التوحد بهذا الحادث، فشعوره الذاتى بالاضطهاد شعور فنان عاش وأحس مثل ذلك فى مراحل مختلفة، أو يشارك الآخرين آلامهم كانحياز إنسانى وفنى. هناك أيضًا حالة البطولة الفردية الجسورة التى تركز عليها المسرحية كوسيلة محركة للتاريخ فى لحظات الخوف والانكسار، والمسرحيات الثلاث تعتمد حالة من المزج بين الفصحى والعامية، وترسم لنا بتفاصيلها لوحة متحركة ومتصلة من تاريخ “بهية” الحالم دومًا بالتغيير.

 

مقالات من نفس القسم