عاطف محمد عبد المجيد
صعيدي هو حتى النخاع، أبًا عن جد، تدل على ذلك سُمرته الخفيفة ولهجته الصعيدية الخاصة التي لم يتخلَ عنها، أثناء إقامته في القاهرة، التي استمرت لسنوات كثيرة، وظل يتعامل بها مع أهلها بلهجتهم القاهرية التي تشبه بالنسبة له قطعة بسكويتٍ مقابل خبز البتاو الصعيدي. يدل على ذلك، كذلك، بساطته وشجاعته في التعبير عن رأيه مهما كلفه ذلك، إضافة إلى نقاء قلبه ولسانه الذي لا ينطق إلا بما في قلبه. ولأنه لا يعرف كيف ينافق أو يناور، فهو يبدو أحيانًا وكأنه صِدامي بعض الشيء. ولد ماهر مهران في قرية قاو العتمانية بمحافظة أسيوط بصعيد مصر.
هو شاعر وروائي ومؤلف دراما، كل هذا مع عمله بتدريس اللغة العربية في المرحلة الابتدائية. كُتب في واجهة موقعه الإلكتروني عنه إنه شاعر من شعراء العامية المصرية الذي يتميز بحسه المرهف وكلماته الجميلة التي تناقش واقعنا العربي والمصري الذي نعيش فيه، فهو كثيرًا ما كتب وتطلع للتغيرات التي سوف تحدث وسوف يُحدثها هذا الشعب المصري العظيم.وبجانب شعره باللغة العامية كتب قصائد تجلى إبداعها باللغه العربية الفصحى إلى جانب رواياته التي ناقشت أحداث الصعيد المصري الذي أصابه الإهمال لفترات طويلة.
وها هو يتحدث عن نفسه شعرًا فيقول:
” أنا مش عضو ف حزب
ولا ليا مكتب فى وزارة التقافة
ولا عندى صفحة فى الجرنان
ولا خالى حجز لى مكان فى الإعلام
ولا عمى كان نايب
ولا أبويا من آل قطامش
إنما أنا شاعركبير
بس انحيازى للشعر
خلّانى موجود طول الوقت
بس ع الهامش! “
هذا ومَنْ يقرأ أشعار ماهر مهران يجد شيئين واضحين تمام الوضوح، أول هذين الشيئين هو أن هذا الشاعر انتهج لنفسه قاموسًا ولغة يخصانه، ولا ينازعه فيهما أحد، أما الشئ الثاني فهو التصاقه بأرضه التصاق الباب بالحائط، حتى أن القارئ لشعره يشم رائحة طين الأرض، وعَرَق الفقراء الكادحين التي تفوح من بين ثنايا سطوره الشعرية.
وهنا لابد من التأكيد على أن هذا الشاعر مهتم، إلى أقصى حد، بأرضه / مسقط رأسه في صعيد مصر على الرغم من هجرته إلى القاهرة واستقراره بها منذ سنوات، قبل أن يعود مرة أخرى ليستقر في مسقط رأسه.
بالفعل مَن يقرأ قصائد ماهر مهران يشعر وكأنه يعيش هناك على الأرض التي نبت فوق ثراها ومع ناسه الذين يكتب عنهم، وهذا ما يحسب للشاعر في وقتٍ نجد فيه كثيرين يهتمون بما يُسمَّى بالقصيدة اليومية، أو باليوميات، وكتابة الذات، بالطبع ليس هذا مرفوضًا، لكننا في عصر يحمل أجنّةً للعديد من القضايا الهامة جدًّا، التي يُعدُّ تركها والدخول في عالم الذات، المنفصلة عن عالمها، نوعًا من الترف غير المقبول وغير المبرركذلك.
لقد انفصل ماهر مهران عن ذاته وراح يرتدي سروال الفلاح الفقير الكادح الذي يطحنه العمل والكد في الحقل، وحمل الفأس مع المغلوبين على أمرهم وبدلا ًمن أن يحرث في أرض بور، استخدم معْوله في حراثة أرض الشعر لكي يبذر فيها ما قد يتعهده بالرعاية والاهتمام، حتى يُؤتي ثماره، وربما يزيد.
ولننظر معًا إلى تلك الصورة الحية التي ينقلها لنا عبر إحدى قصائده:
” واقف في طريق طويل
شبه الحياة..
لا الخطوة واخداني لـ بدايته
ولا قادر أوصل منتهاه
واديني
ع أغوص قوي في الرمل
ع أغوص أنا والحمل
لا إيدي متشعلقة ف قشة
ولا رجلي تحت منها حصاة! “
إنها صورة لا يدركها ولا يفهم مفرداتها الحقيقية ومغزاها سوى ذلك القروي الذي رضع رضعاتٍ مُشبعاتٍ من ثدي الأرض طينًا وماءً.
ولنتحرك معه ببطء حين يُسلِّط كاميرا قلمه ناحية هزائمنا المتكررة، التي ربما تكون قد وصلت بنا إلى مرحلة التعود الروتيني والتي نُصاب بها كلَّ حينٍ نتيجةً لواقع متأزم وأوجاع كادت أن تصل إلى حد الافتراس:
” نضحك
ونلعب
وناكل الحياة دي أكل..
وقبل الفجر ما يشقشق
نرجع كل ليلة
بـ هزيمة شكل! “
ويقول د.حسام عقل متحدثًا عن أحد دواوين ماهر مهران: “في خطوة وثابة يواصل ماهر مهران التجذر بتجربته الشعرية في رقعة المهمشين والبسطاء، يمتح من نبعهم، ويترجم لآمالهم الزاوية، ويصرخ وزنًا وإيقاعًا بعمق حناجرهم الصارخة في فضاء الفقروالفاقة، ولاجدال أن تجربته التي عنونها بـ “تعليم مجاني” هي خطوة متجددة في مشروعه الشعري وأرصدة إضافية يعمق بها هذا المشروع في تواشجاته مع المهمشين وتشابكاته المتعددة مع تيماتهم وقضاياهم.
وقع الديوان في نحو سبع وخمسين صفحة، وانتظم بين دفتيه نحو أربع عشرة قصيدة واصلت في تحليقها الشعري، برفيفه الممتد، والتغريد عن واقع الشق الطبقي الكالح الذي شطر المجتمع إلى نخبة نهمة تهيمن علي كل شيء تقريبًا، ورقعة جماهيرية غالبة حرمت من مساحة الضوء، وباشرت رقصة الموت مع أحلامها المجهضة “.
ويقول الشاعر حُزيّن عمر تعليقًا على أحد دواوين ماهر مهران: “التزم ماهر مهران موقفًا وطنيًّا وسط أمواج الفساد الهادرة في كل مجالات الحياة وعبر عن موقفه هذا شعرًا عاميًّا صافيًا رقراقًا صداميًّا وهاجم رءوس الفساد الكبري في الثقافة والاقتصاد والسياسة وغيرها. يتوقف ماهر عند كل أشكال الفساد والمفسدين وألوانهم وآلاعيبهم قبل الثورة وبعدها بلغة صافية راقية تقترب من الفصحي وصورة شعرية مستقاة من الواقع وغير متكلفة “.
يقول ماهر مهران في ديوانه
” نَفْسِى أَرُوح الْشَّرَم
وألْمَحْهَا ب عْينِيه
وأرْمِى الْهِمُوم ف الْبَحر
وأرْقُصْ طَواْعِيِّة
لَكِنْ أعْمِل أيه ف الْحَظْ
اللى خَلا بِيَّا
وخَلانِى عَاْيِشْ مِقَشْفَرْ
لامِعَايا فِيَزا كَارِدْ
ولاعِنْدِى مَاهِيِّة ؟! “