الجنة

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عبد الرحمن أقريش

مات الشيخ.

مات أخيرا بعد عمر طويل، طويل جدا، مات وهو جالس على أريكته الحجرية في مكانه المعهود مسندا ظهره إلى الجدار الكبير، بدا وجهه هادئا ومشرقا، وعلى شفتيه ترتسم بقايا ابتسامة غامضة، تعبير يشبه الرضا والاستسلام، مات وعيناه مفتوحتان وكأنما ينظر للأفق.

مات الشيخ وترك وراءه ثلاث زوجات، وعصابة من الفلاحين الأشداء، شجرة نسب طويلة وممتدة من الأبناء والحفدة يعدون بالعشرات.

عندما وصل الخبر، كانت الشمس تميل إلى المغيب، تختفي وراء الغابة الكثيفة، ترسم خيوطها ألوانا وظلالا لغسق جميل وحزين، وفي الخلفية بعيدا يسمع صوت البحر.

أعدت الجنازة على عجل، مشى الموكب الجنائزي بصمت، سار المشيعون في الطريق المغبرة بخطى سريعة في اتجاه مقبرة القرية، يتقدمهم الحفيد الأصغر للشيخ، وفي يده (لمبة غاز) تلقي هالة ضوء خافتة على المكان.

عندما وصل الموكب إلى المقبرة، كان القبر جاهزا، ولم يبق إلا التفاصيل الأخيرة، تقدم الأهل، وتراجع الغرباء خطوات إلى الخلف، يبدو الموت هنا حدثا عاديا، بسيطا، في منتهى التقشف وبدون تفاصيل مترفة، جسد مسجى في لفة من الكتان الأبيض، حفرة عميقة، أحجار مستطيلة، عجينة طين أبيض مبلل، وأشواك شجرة الأركان القاسية.

كنت خلف الموكب، اخترت مكانا قصيا، أفكر، أتأمل، وأغرق تدريجيا في عالمي الداخلي.

الموت قاس، مؤلم وغامض، ولكنه يظل أقل قسوة من بؤس الحياة وأفاعيل الزمن، أحيانا كثيرة يبدو الموت أرحم من الفقر والحرمان والعجز والشيخوخة والمرض والجحود وأنانية البشر…

يذكر الموت في قريتنا، فيردد الرجال بصوت واحد.

 – الله أكبر، الله أكبر…

 – إنا لله، وإنا إليه راجعون…

يترحمون على الفقيد، يقدمون التعازي، يسألون عن السن، والزمن، والمرض، والظروف، يستعملون عبارات مسكوكة وجاهزة، عبارات غامضة يمتزج فيها الإيمان الديني بالقدر وعجز البشر أمام الموت كوضعية نهائية.

– الله يرحمنا، آخرها الموت…

– تلك الطريق سالكة ومملوءة…(يقصدون طريق الموت)

 – نحن لها…

– هي لنا…

– كلنا لها…

ترتعش أصواتهم، ترتفع، تنخفض، تتهدج قليلا، علامة على الحزن والانفعال، ثم عندما تهدأ نفوسهم، ويفقد الموت حضوره وسطوته، يتلاشى الحزن مثل سحابة عابرة، يعودون تدريجيا إلى أحاديثهم الدنيوية، أحاديث تكشف انغراسهم في الحياة وحبهم للأرض والمال والنساء والأبناء.

لحكمة ما، كان والدي يحضني على حضور الجنائز، ومراسيم الدفن والعزاء والمناسبات الحزينة، فقد كان يعتقد أن الكتب أفسدت علي عقلي وعقيدتي، ويتصور أن  فكرة الموت وحدها كفيلة بكسر غروري ونرجسيتي المزمنة، ولجم حالة التمرد والاندفاع والجموح التي اجتاحتني في سن مبكرة، حالة مستعصية أججتها المراهقة وفورة الشباب وعدوى الكتب، ولكنه – آنذاك – لم يكن يعلم أن الموت – موتي أنا – كان مؤجلا ولا يعنيني !!

عندما انتكس والدي انتكاسته الأخيرة، هيئنا له فراشا مريحا في غرفته المفضلة، غرفة أنيقة تقتحمها أشعة الشمس، مفتوحة على باحة البيت، باحة فسيحة وحوض بهيج من نباتات برية يعبق أريجها في المكان، نعناع، حلحال، غنباز، وورود.

أنظر إليه، أتأمله، أنظر إلى جسده النحيل ممددا، ما تبقى من جسده النحيل بفعل المرض، أنامله الرفيعة، أنظر في عينيه، انطفأ البريق، غابت الحدة، وحلت محلهما سحابة غريبة، غامضة، تستعصي على التصنيف، بدا كمن اكتشف أخيرا أن الرحلة قد انتهت، أو هي على وشك أن تنتهي.

تحلقنا حوله، أنا، إخوتي ووالدتي، ننظر إليه، يستمع هو بصمت، يحدثه أخي الصغير عن أمور كانت فيما مضى تثير اهتمامه وفضوله، ينظر إليه نظرة هادئة وحزينة، يرفع يده اليمنى في حركة رفيقة ويائسة، وكأنه يقول.

 – ما الجدوى؟

مرت سنوات، وفي كل مرة أستحضر فكرة الموت، أستعيد بداخلي هذه الحركة المليئة بالمعنى، حركة تعني أنك ها هنا أخيرا، منهزما، مستسلما، متصالحا مع الموت، موتك المفترض، موتك المنتظر، وأن الحياة كان لابد ستنتهي، وها هي قد انتهت، ولا معنى للخوف والجزع.

مات والدي، حضرت جنائز كثيرة، جنائز قبله، وأخرى بعده، ولكنني لم أحضر جنازته هو، أهي صدفة؟ أهي جرثومة التمرد؟ أهو الصراع الأبدي بين الأجيال؟

لا أدري.

عندما عدت إلى نفسي، كان جسد الشيخ المسجى بالبياض ينزل ببطء إلى اللحد، يستقر في مثواه الأخير، وانهال عليه الرجال الأقوياء يردمونه بالتراب.

وقف أبناء الشيخ ينظرون بحياد عاطفي غريب، وجوه جامدة، عيون قاسية، لا دموع، لا عواطف، لا انفعالات…

يلتفتون، ينظرون في عيون بعضهم البعض، يفكرون في صمت.

–  تأخرنا كثيرا…كان ينبغي أن يموت قبل الآن !!

مع الخيوط الأولى للشفق، كانوا قد اقتسموا كل شيء، الأرض، الأشجار، الغلال، جرات السمن والزيتون والعسل، سلات التين والعنب، شرائح القديد المالح، أواني نحاسية.

كانت قسمة ضيزى، غريبة، تخضع لمنطق القوة والخوف والجشع.

وحدها جنة الرمان والتين والعنب المعروشة لم تكن قابلة للقسمة.

تلك كانت وصية الشيخ الأخيرة.

مرت السنوات.

انمحت صورة الشيخ من الذاكرة، تلاشت، ثم ظهرت فجأة أوراق ورسوم تدعي الملكية، والبيع، والحيازة، وتحولت الجنة إلى لعنة موروثة، دعاوى، محاكم، قضاة، محامون، سماسرة، وسطاء، رشاوى، شهود زور…

لعنة تحركها نوازع الشر، والأطماع، ومشاعر الحقد الدفينة.

انقسم أبناء الشيخ إلى طوائف، المقصيون (الإناث في قريتنا خارج لعبة الصراع)، المصرون، المستسلمون، والطماعون.

في البداية قرر الأبناء اقتسام الجنة فيما بينهم، بعضهم حاول الاستفراد بها لنفسه، ثم حاولوا بيعها فيما بعد دون جدوى.

ثم بدأت الحكايات، حكايات تقول إن الجنة أصبحت مملوكة، مسكونة، وأن الأهالي كثيرا ما سمعوا صوت الرصاص يشق سكون الليل، ويكسر رتابة الحياة في القرية الهادئة.

البعض يزعم أنه الشيخ عاد، لم يمت، وأن روحه عادت لتسكن الجنة، البعض الآخر يزعم أنه رآه، وأنه يعود كل مساء، يدخل جنته من بابها الخشبي الصغير، يشمر على ساعديه، يشد جلبابه الأبيض إلى الركبتين، يقضي الليل يحرسها من الغرباء، يرمم السور الحجري، ينظف مجرى الساقية، يعتني بالأشجار، يرويها، يشذب الأغراس.

مرت سنوات أخرى.

يئس الأبناء من الجنة، يلفون حول السور الحجري العالي، يطلبون ريحها بدون جدوى، وقلوبهم ترجف من الخوف، فهم يعرفون الشيخ، يعرفون قسوته وصرامته، يعرفون أنه لن يتردد أبدا في استعمال بندقيته القديمة!!

في كل صباح، ومع الخيوط الأولى للفجر، يسمعون نشيد الماء في الساقية، وحفيف الأشجار، وفي المساء تهب على الجنة نسمات خفيفة من الجنوب، فتحمل إليهم عبق الثمار وأريج الفاكهة ممزوجا برائحة التراب.

وفي كل مرة يشعر الأبناء بالخوف والحسرة والندم، فقد أغلق الشيخ باب الجنة من الداخل بإحكام، وكان سورها الحجري يرتفع إلى الأعلى، فأصبح عاليا، عاليا جدا.

وحدها الطيور والفراشات تخترق فضاء الجنة.

تقول الحكايات، إن الشيخ كان يحب الطيور والفراشات !!

 

 

مقالات من نفس القسم