أمنية نجيب
لم يكن من المفترض أن يسألها عما ستفعله في تلك الأمسية. فهي لن تذهب بعيداً، ولكنها بدت غائبة نوعاً ما. لم تنصت إلى كلمة واحدة، لم تستعد وعيها معه. بدا لها حديثه عن مشاكل عمله، ضوضاء غير مفهومة. ربما لأن وطأة تفاصيل تلك الأمسية كانت لها أكثر إثارة. فهناك كعب حصان مجهد، يترنح على أرض مبللة، وصرير باب يُغلق بإحكام. أصوات كثيرة كانت تحيا في تلك الأمسية. لم يقتنع بردودها المقتضبة، حلولها التي رآها غير منطقية. فصب عليها كل اتهاماته لها بأنها حالمة، وبأن ضغوط الحياة تُربكها. قال الكثير، ولكنها لم تعبأ. هي تعلم كل ما سيقوله، ولم تعد تهتم إن كان حقيقة أم لا. صارت تُفضل طريقته في إنهاء الشجار، حين يقف على أعتاب الغرفة ثم يلتفت لها قائلاً:
“أتعلمين .. أنتِ بائسة. أنت لا شيء.. حياتك صارت كهفا من الظنون والهواجس حيث لا وجود لشيء مؤكد هنا .. كفي عني وعيشي وحدك، فكهوفك تهدمني من الخوف، وأنت جالسة فيها، تهرولين في دائرتك المغلقة كفأر تجارب غبي، العالم يتغير حولك، حتى جسدك يتغير وأنت كما أنت.. تمتعي إذن بنفسك ووحدتك التي جئتيني يوما هربا منها، اذهبي ودعيني أمضي”.
بالفعل طرأ التغير على جسدها، يزداد نحوله يوماً بعد يوم. فكها صار أكثر بروزاً، وغزا الشحوب وجهها. حين تقف أمام المرآة يلفت نظرها شكل رقبتها التي أُعيد نحتها بانتفاخ بسيط على جانبيها من الأسفل. ونهديها عادا كحبتين دراق بعد أن أفرغا لبنهما في جوف ابنها. لم يكترث لكل هذا، لأنه يكره الجسد النحيل الذي لا يثير شهوته كثيراً. وجب عليها أن ترتدي أصغر صدارة كي يكتنز نهداها. تقف أمام المرآة فترى ملامحها تتلاشى لتشكل شبحاً يفرض وجوده كل يوم. تعرف أن خطبا ما بجسدها ولكنها لا تعرف كنهه. ربما تغير كل شيء بعد أن أذن له صمتها بصفعها مرة تلو أخرى أو ركلها حين يشتعل غضبه. نعم كان خطأها من البداية، ولكن أي بداية… هل حين صدقت حبه؟، أم عندما ظنت أن الحب سيأتي مع الوقت؟، أم تُرى تحسبها أخطأت بظنها أن المسافات بينهما يمكن تدراكها بالعشرة؟… ولكن هل هذا ما يهم الآن!، لا لن تفيد كل علامات استفهام العالم.. فهي تتلاشى في صمت وخشوع. لن تنسى آخر مرة سافرا معاً لقضاء العطلة، كانت تضع أغراضها في الحقيبة ثم وقعت عينيها على ملابسها الشفافة المليئة بعطر ليال طمرها الهجران، ثم ابتسمت له وقالت “أيهم تُفضل أن آخذه معي؟”. كان هناك حواران أحدهما من عينيه يقول لا داعي أن تأخذي شيئاً فلن يضيف أي منها لجسدك الذابل أي إثارة، أما الحوار الآخر المنطوق “خذي ما تشائين”… لم تسأله هذا السؤال لاشتياقها إليه، بل إمعاناً في الكذب على نفسها بأنها ستذهب لقضاء العطلة مع زوجها الحبيب الذي سينتهز فرصة نوم ابنهما حتى يغرق معها وفيها عشقاً، ولن يتركها كما يفعل هنا تنام وحيدة في غرفة موحشة.
انتهى الشجار ككل مرة، وازدادت حدته داخلها. لم تسمع أي كلمة منه، لأنها حفظت طريقته جيدا. انتظرت حين أفرغ كل ما في فمه، ثم دلف إلي غرفة النوم. تركها جالسة علي الكرسي غير قادرة علي سمع أنفاسها، وضعت يدها علي صدرها للتأكد أنها لا زالت علي قيد الحياة، فأحست بحركته ثقيلة في الصعود والهبوط. ذهبت إلي النافذة لتفتحها. فاخترقتها قبلات الهواء. كان الظلام دامسا، ولكنها لم تره كذلك لوجود القمر كالصحن الأبيض المستدير في السماء. أغلقت العمارات المحيطة نوافذها. فكرت “ترى، كم من بكاء صامت خلف تلك العيون المغلقة؟”. أضيف صوتا آخر لتلك الأمسية، فلقد تناهى إلى سمعها صوت بدا انه لامرأة عجوز، تصرخ وتنوح بكلام غير مفهوم. فكرت أنها ربما تكون مجنونة، ولكن صوتها في هذا الصمت كان مدويا. حاولت أن تتبع مصدر الصوت، حتى أجزمت أنه يأتي من بيت صغير مقابل لها، نوافذه معتمة باستثناء نافذة واحدة. لم يزعجها صوت العجوز، بل أخذت تتأمله كألعاب نارية تحاول اختراق السماء، ولكنها تصنع خطوطا عشوائية، أو تدور حول نفسها بلا جدوى. أشفقت عليها، شعرت برغبتها في الحديث معها. ولكن فكرت بأي طريقة ستتحدث معها، وماذا يمكنها أن تقول. لم يطل الوقت كثيراً حتى قررت بالفعل. فتحت فمها وأصدرت صوتا مشابها للعجوز، وبعدها عم صمت بعرض الكون. سكتت العجوز لوهلة، ثم ردت بجملة أخرى غير مفهومة. تبادلا بعض الجمل القصيرة الغير مفهومة ولكن كان صوتهما مليئا بالوحدة والألم. شرعت العمارات الأخرى بفتح أعينها بإرهاق. استيقظ زوجها ورآها واقفة بجوار النافذة، تتطاير خلفها الستائر، وهي تعوي كمستئذبة بكلام غير مفهوم. استشاط غضبه وسألها “هل جننت؟”. فأخبرته أنها قد أرادت فقط أن تؤنس وحدة تلك العجوز. أغلق النافذة بعنف وازداد حنقه، كان يكره أن يوقظه أحد، فقد نفاها في أبعد غرفة عن غرفتهما حتى لا يزعجه بكاء ابنهما. كان الغضب يلتهم وجهه، تتحرك شفتاه بشكل مموج. حاولت الدفاع عن نفسها، صرخت في وجهه بأنها ليست مجنونة، هي فقط تشفق علي تلك العجوز التي شعرت أنها تشبهها. تعالي بالخارج عواء المرأة العجوز وكأنها كانت تناديها. أما هي فظلت تنظر إليه وإلي النافذة حتى دفعها علي الأرض بقوة. ارتطمت رأسها بإحدى ألعاب ابنها النائم في الغرفة المنفية. ثم وقفت ثانية، ثم سمعت صوت كعب حصان مجهد يترنح علي الأرض، سارت علي إيقاعه حتى صارت في مواجهة زوجها. بعدها ذهبت إلي النافذة، فتحتها عن أخرها وأطلقت عواء طويلا، نظرت له قبل أن تقفز وقالت “سأذهب إلي العجوز”.