حوار: أندريا فونتان
ترجمة: فاطمة جمال
نشرت جريدة “Siempre Libre De Puerto Vallarta”سييمبري ليبري دي بويرتو بايارتا (جريدة مكسيكية) في عددها الصادر بتاريخ 22/2/2020 حوارًا مع الشاعرة المصرية نجاة علي حول مشروعها الشعري والكتابة الجديدة في مصر بعد الثورة، وأحدث كتبها الصادرة. وقد حاورتها الشاعرة الأرجنتينية أندريا فونتان باللغة الإنجليزية ثم ترجمته إلى الإسبانية. وجدير بالذكر أن الجريدة المكسيكية ذاتها كانت قد احتفت من قبل بالشاعرة نجاة علي في قسم الثقافة في عددها الصادر بتاريخ 10/9/2018 ونشرت لها عددًا من القصائد المترجمة للغة الإسبانية، وهنا نص الحوار كاملًا كما أوردته الصحيفة.
لماذا اخترتِ الكتابة؟ ولماذا الشعر تحديدا؟
أعتقد أن هذا السؤال من أكثر الأسئلة تعقيدا وصعوبة التي يمكن أن تُوجه لكاتب، فكأنك تسأله ببساطة: لماذا تعيش؟ أفكر كثيرا في أن الكتابة بمثابة قدر محتوم ،محدد سلفا ،يجبر المرء على السير في طريق دون اتخاذ قرارمسبق منه، و أظن أن أحد الأسباب التي دفعتني للكتابة حين كنت طفلة، هو خجلي الشخصي ، فلم يكن لدي الكثير من الأصدقاء، وكنت أميل بطبيعتي إلى الوحدة أكثر. ربما كان أبي هو الشخص الوحيد الذي كانت تربطني به علاقة خاصة وكنت أشعر معه بالأمان والثقة، وأتحدث إليه عن نفسي بحرية ومن دون خوف.
ربما لجأت إلى الكتابة لأنها مثلت حالة الطمأنينة التي أشعر بها مع أبي فصارت بمعنى ما هي الأب البديل.
في البداية كنت أكتب عن مشاعر وأشياء لم أتمكن من فهمها آنذاك. دعيني أقول إنها ربما كانت أفكارًا ، أو هواجس خاصة، أو أسئلة حول حقيقة الموت (الذي مررت به خلال طفولتي) وكان أوله هو فقد عمتي). بالطبع ، لكن مع نضوج السن وتطور تجربة الوعي صرت أكثر إدراكا لمفهوم الشعر والأدب ووجدت ميلا داخلي لكتابة الشعر أكثر من القصص، وصرت أكثر انشغالا بأسئلة وجودية معقدة حول الحياة والموت. وصارت عملية الكتابة-بالنسبة إليّ- أشبه بمحاولة لفهم واكتشاف علاقاتي مع العالم من حولي. وربما كانت أيضًا محاولة للعثور على الحرية والعدالة المفقودة في الواقع.
– لديكِ خبرة نقدية في قراءة الأدب المصري؛ بدأتِ بدراسة قصص يوسف إدريس ثم درستِ روايات نجيب محفوظ، فما هي الدروس التي استفدتيها من هذه الخبرات؟
لا يوجد في تصوري فرق كبير بين الإبداع والنقد، فكلاهما خطاب ينتج معرفة. وكلاهما يطرح أسئلة الوعي المؤرقة, فأنا حينما أدرس مثلا المفارقةIrony”” في قصص يوسف إدريس فلابد أنني سأكون مشغولة على الأقل بالوصول إلى إجابات عن أسئلة معرفية وجمالية تخصني، ربما أثارتها كتابات إدريس لدي منذ وقت مبكر منذ أن قرأت إحدى مجموعاته القصصية “بيت من لحم” وأنا في الثانية عشرة من عمري.
و كما اعترفت من قبل- رغم أنني أكتب الشعر لا القصة القصيرة- بأن يوسف إدريس كان واحدا من الذين أثروا في وعيي بالعالم وجروني إلى عالم الكتابة وأسئلتها التي لا تنتهي – ربما بدرجة لا تقل أهمية عن ديستوفسكي وتشيكوف وطه حسين ونجيب محفوظ و يحيي الطاهر عبد الله وأمل دنقل ومحمود درويش وسواهم ممن قرأتهم فيما بعد.
أظن أن قراءة العربي أو الأدب العالمي – بشكل عام – يوسع من عالمنا ويجعلنا نحيا تجارب فريدة وحيوات متعددة ربما لا يمكننا أن نخوضها في الواقع, ويزودنا كذلك بإحساسات لا تعوض, تجعل العالم الحقيقي أكثر ثراء بالمعنى وأجمل, و دائما ما أتذكر مقولة نيتشه عن دويستوفسكي بأنه تعلم منه ما يفوق ما تعلمه من أي عالم نفس.
– كتبت في قصيدتك “قبور زجاجية” عن جولاتك في المقبرة بشيء من الحماس؛ ما الشيء في الموتى او الموت يمكنه أن يبعث بهذا الشعور في الذات الشاعرة؟
بالتأكيد هذه الجولات في القبور كما سميتها أنتِ هي جولات بالمعنى المجازي لا الحقيقي , تماما مثل اسم القصيدة ,التي ربما تكون استعارة محتملة لأشياء كثيرة منه ما قصدته أنا حينما كنت أكتب هذه القصيدة , ومنها ما قصدته القصيدة نفسها بعدما انفصلت عني وصارت ملكا لتأويل الآخرين.
و بالمناسبة ما تسميه أنتِ “حماس” داخل القصيدة أسميه أنا سخرية , وهي آلية بلاغية في الكتابة تسمح للمبدع بأن يقف على مسافة من الأشياء والعلاقات حتى يستطيع رؤيتها بعمق ومن زوايا متعددة, وأحيانا يستخدمها الكاتب للانتقام من كل ما لا يستطيع هزيمته في الواقع, الفلاسفة أيضا استخدموها , وقد لجأ إليها سقراط – على سبيل المثال- واتخذها كسلاح ضد خصومه في جداله لينتقم منهم .
أنا شخصيا انتابتني رغبةعارمة أثناء كتابة هذه القصيدة- تحديدا- في هدم أو ربما مساءلة كل المسلمات التي كنت أؤمن بها, وكنت أراها حقائق لا تقبل الشك, فإذ بي أجد نفسي الآن لا أميل إلى تقديس أية معارف تلقيتها أو مقولات جمالية بعينها.
– إلى أي لغة أو لغات تُرجِمَت أعمالك؟ ومن وجهة نظرك ما الدور الذي يمكن أن تلعبه الترجمة في الأدب العالمي؟
تُرجِمَت قصائدي إلى لغات عديدة مثل: الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإسبانية والإيطالية والرومانية والبرتغالية والسويدية وغيرها. ولدي أمل في أن تغير الترجمة الصورة النمطية في الغرب عنا –كعرب- الذين مايزال ينظر إليهم كإرهابيين أو راكبي جِمال في الصحراء. ربما تخلق الترجمة لأعمالنا قرّاء من ثقافات أخرى لم يكن الكاتب يضعهم في الحسبان لحظة الكتابة. أتمنى بالفعل أن تعزز الترجمة قيم التسامح الثقافي وتسهم أكثر في الحوار بين الثقافات.
– نشرتِ مؤخرًا كتابًا جديدًا وهو “الطريق إلى التحرير: من يوميات ثورة 25 يناير”، عن دار المتوسط بإيطاليا..حدثينا عنه.
يتناول هذا الكتاب تجربة مشاركتي في الثورة المصرية، بداية من 25 يناير 2011 ومرورابالحكم الانتقالي للمجلس العسكري وحتى انتخابات الإخوان المسلمين وصعود محمد مرسي لكرسي الرئاسة محمد مرسي والتي انتهت بموجة 30 يونيو( 2013)، وهي الموجة الثورية التي أطاحت بالفاشية الدينية . وقد كُتبت يوميات هذا الكتاب من موقع شاهد عيان ؛ حيث امتزجت فيها سيرتي الذاتية بمحاولةالتوثيق تلك الفترة الاستثنائية في تاريخ مصر. ويركزالكتاب في جانب منه أيضا على تفرُّد الثورة المصرية، والتي وصفت بأنها الثورة الضاحكة التي اعتمدت روح الدعابة وهي تواجه الموت. هذا على عكس بقية ثورات الربيع العربي، كما قدّم الكتاب بورتريهات لبعض الشخصيات المهمة التي شاركت في الثورة المصرية.
– هل تعتقدين أن الثورة المصرية (ثورة25 يناير) تركت أثرا كبيرا على الأدب والفن في مصر؟
لا يمكننا أن نتجاهل أثر الثورة المصرية على الأدب والمبدعين في مصر وبخاصة الجيل الجديد من الكتاب. لقد حاول بالفعل الجيل الجديد كسر تحطيم كل المحرمات في نصوصهم من قبل، فالثورة المصرية كسرت حاجز الخوف تماما خاصة فيما يتعلق بالمحرم السياسي. وبالرغم من ذلك يوجد لدينا معركة طويلة وممتدة بين المبدع الذي يبحث عن فضاء مفتوح للحرية وبين مجتمع مغلق يحاصر كل شيء من حوله.
– من وجهة نظرك : ما هي المحظورات الرئيسية التي يواجهها الكُتَّاب العرب اليوم؟
أعتقد أنه أمر ليس سهلا أن يتحدث الكاتب عن المحرمات في العالم العربي. فلدينا محرمات ثلاثة معروفة يواجهها الكتّاب: الجنس والدين والسياسة. وأتصور أن التحدي الأكبر لأي كاتب هو غياب الحرية بسبب القمع السياسي الذي يسيطر على شعوب العالم العربي ،ويظهر هذا واضحا في نصوص الروائيين والاستعارات التي يستخدمونها.
وهناك تحد آخر للكاتب هو زيادة التطرف الديني الحالي اليوم وانتشار المد الوهابي في كثير من مناحي الحياة وغياب التسامح الديني الذي عُرِفت به مصرو بدأ يتراجع الآن.ومع هذا كله ما تزال مصر تتمتع نسبيا بالحرية مقارنة ببقية الدول العربية الأخرى.
لعل شاغلي وهاجسي الأكبر – بوصفي شاعرة- ليس الخروج على التابوهات الثلاثة المعروفة بقدر انشغالي بفكرة تحطيم المحرم الجمالي؛ وهو الخروج على التقاليد الجمالية والأساليب النمطية في كتابة الشعر، والتي باتت في حكم المقدس وأصبح الخروج عليها أشبه بحالة الكفر.
إن مهمة الفنان أو الكاتب ليست السير على خط مستقيم ولا عبادة الأشكال التقليدية في الأدب, فالشاعر هو صانع اللغة وقوالبها، لكنه في الوقت نفسه محطمها و أول المتمردين عليها.
– من وجهة نظرك، ما هي التحديات التي تواجه الكاتبات بشكل خاص في العالم العربي اليوم؟
طبعا ككاتبة وامراة في الوقت ذاته ، أواجه تحديات أكثر من الرجل على اعتبار أن المجتمع العربي مجتمع محافظ ، ومازال ينظر لكتابة المرأة على انها سيرة ذاتية,فتجد الكاتبة محاصرة دوما بعشرات الاسئلة عن كتابتها التي تهتم في أغلبها بالتلصص عليها كامرأة. وكثيرا ماعانيت من القراءة المتلصصة لبعض قصائدي. يسألني أحيانا بعض الأصدقاء: هل تتحدثين في قصيدتك عن فلان ؟ هل تكتبين عن قصة حب جديدة؟ من يكون ذلك الحبيب؟ عادة ما تكون إجابتي هي الضحك أو كلمات السخرية لأنهم لا يدركون الفرق بين كتابة الخيال وتسجيل الواقع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نجاة علي: شاعرة وكاتبة وناقدة أدبية مصرية، حاصلة على درجة الدكتوراة في الأدب العربي. اختيرَت عام 2009 ضمن أفضل الكُتَّاب العرب الشباب الفائزين بجائزة “بيروت 39”. حصدت دراستها النقدية “الراوي في روايات نجيب محفوظ” جائزة نجيب محفوظ في النقد الأدبي بمؤسسة أخبار اليوم.
أصدرت ثلاث دواوين شعرية: “كائن خرافي غايته الثرثرة” عام 2001 و”حائط مشقوق” عام 2006 و”مثل شفرة سكين” عام 2010 ومختارات شعرية تحت عنوان “قبور زجاجية”. بالإضافة إلى كتابين نقديين هما: “المفارقة في قصص يوسف إدريس” و”الراوي في روايات نجيب محفوظ” ومؤخرًا أصدرت كتابها عن الربيع العربي “الطريق إلى التحرير: من يوميات ثورة 25 يناير” الصادر عن دار المتوسط عام 2019. كما شاركت نجاة في العديد من المهرجانات الشعرية العربية والدولية. وتُرجِمت قصائدها إلى العديد من اللغات.