البهاء حسين
فى ذكراه نكشف سراً عمره 30 عاماً:
سلامة أحمد سلامة يرفض رشوة 125 ألف دولار.. ورئيس تحرير يطلب خنجراً مطعماً بالألماس
بقى سلامة أحمد سلامة يكتب لآخر لحظة فى حياته، رغم أن الكتابة لم تخفف حتى من كثافة الفساد. بقى عالقاً فى الحبر وحين مات.. حين رقد ولم نعد نسمع صوته، بدا كمن مات كمداً، لأن الصحافة.. الجواد الذى راهن عليه، كبا.. خسر السباق ولم يقم من كبوته.
كان يصحو كل يوم على كومة من الأخطاء من حوله، وعليه أن يتخير منها خطأ يشير إليه بإصبعه.. عموده “من قريب”، الذى باشر فى كتابته منذ أواخر الثمانينيات. لكنه كان يكتب فإذا بالكومة تصبح تلاً. وإذا بالصحافة، فى بلد يدعى الحرية، بينما هو فى الحقيقة يتنشق الكبت، تصبح مهنة تضخيم الأخطاء ومعاداة الحاكم، أو على الأقل معاداة أفضاله. مع ذلك، حين أقصي سلامة من جريدة الأهرام عام 2009م كان قد حفر عميقاً فى وجدان الناس، بحيث لا يمكنك انتزاعه.
أخلص الرجل لفكرة أن تقول كلمتك وتمضى، دون أن تنتظر شيئاً من أحد. لا ثناء ولا جائزة، فقط أن تحافظ على نزاهتك..لا تلوثك المصالح ولا يميل بك الهوى. ساعتها تكون مرجع الجماعة. ينتظرون طلتك كل صباح، ليفهموا من خلالك ما يجرى حولهم، وبعد الفراغ من قرائتك يمهرون مكانتك بتوقيعات جديدة على أنك لست مجرد كاتب، بل” ضمير”.
الثقة توكيل عام يمنحه القراء للكاتب، وحين يخونها يصبح التوكيل لاغياً من تلقاء نفسه. علاقة كشعاع النور.. يمكن لذرة غبار أن تعكره.
ولأن سلامة كان يعى ذلك حرص على أن يصون حضوره. لم يتهافت على شىء، حتى إننى لم أره فى وسيلة إعلام قط، وحين اتصلت به، وكنت وقتها مذيعاً بالإذاعة المصرية، اعتذر، بصوت يخرج راكضاً من الأعماق، عن عدم التسجيل، فقلت له: “إننى أحبك.. أنت وقلمك والآن أقدركما أكثر”. وسمعت رضاه فى السماعة همهمة يختلط فيها الشكر بالخجل، ثم أنهى الاتصال عائداً إلى عزلته. لم يكن هدفى هو التسجيل بقدر ما أردت الاقتراب منه، ولأننى فهمت نأيه اكتفيت بالقرب من كلماته.
حين ولد سلامة، بحى الخليفة فى الأول من نوفمبر 1932م، كانت مصر تبحث لنفسها عن هوية من بين خيارات كثيرة.. أن تكون للمصريين، أو أن تصبح قومية أو إسلامية..إلخ، وكان الاحتلال الإنجليزى ما زال جاثماً على الأنفاس. كان الهواء نفسه فاسداً بأكثر مما تطيق أية مرحلة. والجيل الذى تربى فى حجر كهذا كان لا بد أن يكون غاضباً، لكن غضب سلامة تحول من شعار إلى فعل. تحدد خط سيره، وكان لا يزال فى التوجيهية، حين تم احتجازه والتحقيق معه لمدة 4 أيام عام 1948م، إثر تظاهرة شارك فيها دعماً لطلبة الطب، لأن قنبلة ألقيت من ساحة كليتهم على حكمدار القاهرة سليم زكى، الموالى للإنجليز، أودت بحياته. هذه الواقعة جعلته يعى مبكراً درس عمره.. أن الحرية هى “الإكسير السحرى” للوطن المحتل، كما للكلمة المقيدة. هى” القاعدة الأولى التى لا مساومة فيها ” على حد تعبيره، وأن الاستقلال الذى يصل به الوطن للحرية، يصل به الكاتب للحقيقة.
ومع تخرجه من قسم الفلسفة فى آداب القاهرة عام 1953م، وحصوله على دبلوم علم النفس من جامعة عين شمس 1954، والتحاقه متدرباً فى الإعلام بجامعة “مينيسوتا” الأمريكية عام 1967م وعمله كمراسل، للأخبار والأهرام، فى ألمانيا وأوروبا (براتب شهرى 120 ج استرلينى)، من 1955م حتى عام 1972م، على فترات متقطعة، مع إقامته الطويلة فى الغرب أقصد ومعرفته بلغاته.. الإنجليزية والفرنسية والألمانية، ثم مصاهرته له وتشربه جو التقدم هناك تحول الفعل إلى رؤية. فرغ المغترب من تأليف نسخة نهائية للمهنة ودوره فيها.. صحافة حرة مستقلة تقود التنوير، وكاتب لديه شهوة إصلاح لا يمكنه التخلى عنها. ثم عاد إلى مصر فى يديه زوجته الألمانية جوليانا لودفيج ناوبر وولداه طارق وكريم، وفى رأسه هذه النسخة جاهزة للطبع.
لقد ترسخت فى وجدانه قيم الحرية وأصبحت عتيدة. أصبحت الدافع العميق وراء كل ما يكتبه حتى وإن لم يتكلم عنها. حياته نفسها أصبحت ضوءاً على قضيته. حياة سلامة وشخصيته ومهنته.. تعكس كل منها الأخرى وتوضحها. يقول محمد حسنين هيكل، كاهن البلاغة الأعظم، فى تقديمه لكتاب سلامة “الصحافة فوق صفيح ساخن”، وهو إعادة نشر لبعض مواد “من قريب”،: “إن كتابك… يعكس أسلوبك المستغنى عن الإلحاح، فهى لمحات تعرض نفسها على الناس وتقوم بمهمتها فى التنوير على طريقة الفنار فى اتساع البحر وعمقه، صرح يقوم شامخاً فى قلب جزيرة من الصخر، وهو يدور على ما حوله بومضات من ضوء نافذ إلى بعيد يهدى السائرين فى الظلمات. والفنار بالطبيعة لا يثقل على الباحثين عن شعاعه، وإنما هو يتحرك على دائرة كاملة، محتفظاً بموقفه ثابتاً لا يتغير، وهو ماض فى حركته بنظام وثبات، وحتى إن ضربت الأمواج صخوره فهو مستمر فى أداء دوره لا يتوقف ولا ينحرف “.
لم يتوقف سلامة عن إرسال الأشعة لكشف أورام المجتمع وردم الفجوة بين التصور الذى يملأ رأسه عن الصحافة، كرئة لهذا المجتمع تنقى دمه، وبين الصحافة التى تريدها الأنظمة مطية تسلس قيادها لأى راكب. يقول: “حين تدرك الأنظمة السياسية العربية أن المسألة ليست بكثرة ما يصدر من صحف ومجلات، ولا بعدد ما ينشأ من قنوات وفضائيات، ولكن بما تملكه هذه الوسائل الإعلامية من حريات وإمكانيات، وقدرات على النشر والبث التليفزيونى دون قيود أو عوائق أو تهديدات بالسجن، فإن الهوة العميقة بين المبانى والمعانى فى عالمنا العربى قد تختفى تدريجياً”.
المفارقة أن أصحاب البيت هم من يبدأ بنقبه. المثقفون أنفسهم حين يصلون إلى مقعد السلطة، يصبحون ملكيين أكثر من الملك، فيبدأون فى تكميم الأفواه بعد أن كانوا يطلبون من هذه الأنظمة أن توفر لكل فم حصته من الحرية، بجانب الخبز! إن ” وزراء الإعلام العرب الذين جاءوا من الوسط الإعلامى، هم أكثرالذين وقفوا فى وجه حرية الصحافة وتحرير وسائل الإعلام “. وهذه نتيجة طبيعية، فى نظر سلامة، لممارسة السلطة لسطوتها على الإعلام، المرئى والمطبوع، والحاصل أن هذه الممارسة أدت إلى “إفراز طبقة واسعة من الموظفين الإعلاميين أو الإعلاميين الموظفين.. ضاعت عنهم الفوارق بين الصحفى أو الإعلامى الذى يتحرى الخبر الصحيح ويتحمل مسؤليته ويؤمن بحرية التعبير ويدافع عنها، وبين أجيال من الصحفيين والإعلاميين الذين تحولوا إلى خدام فى بيت السلطة يصدعون بأمرها ويعملون لحسابها، ولا يملكون القدرة على استقلال الرأى ونزاهة القصد فيما ينشرونه”.
على أن الحرية التى ظل سلامة يؤذن بها فى مالطة لم تكن حقوقاً فقط، بل مسئولية وواجبات، بحيث تظل المسافة واضحة بين “حرية الصحافة وأخطاء الصحافة”، فهو، وبالدرجة التى يدين بها استبداد السلطة، ينتقد “صحافة القنص” التى تنطلق “مغمضة العينين مثل كلاب الصيد المدربة، تتشمم آثار الفريسة من بعيد لتقتنصها، دون أن تجهد نفسها مشقة البحث عن الحقيقة وتتحول الصحافة حينئذ من تحرى الدقة ونشر الأخبار الصحيحة، إلى التحريض وتصفية الحسابات”.
فى أجواء كهذه، وبدلاً من أن تكون “مهمة البحث عن الحقيقة هى الشغل الشاغل لكل من الكاتب والقارئ وللنظام السياسى الذى نعيش فى كنفه”، بدلا من أن تكون العلاقة بين الكاتب والقارئ شفافة، كشعاع النور، التبست هذه العلاقة، فلا الكاتب “يدرك حقيقة مسؤلياته تجاه قارئه، ولا القارئ بوسعه التمييز بين ما يلقى به الكاتب كل صباح ومساء من أفكار وآراء وتحليلات، وبين قدرة هذه الأفكار على إحداث التغيير المنشود أو تحريض القارىءعلى انتهاج سلوك إيجابى يخرجه من دائرة السلبية والقعود”.
الشاهد أن غياب الحرية، فردوس سلامة المفقود، قد أدى إلى “عدم الاكتراث بما ترتفع به الأصوات من آراء وانتقادات، ومع ضعف المجتمع المدنى وغياب الزخم الشعبى، فإن صاحب الفكر والرأى قد لا يملك القدرة على التعبير الحر والاستلهام والإلهام، ويظل إما فى حالة دفاع عن النفس تجنباً لأخطار لا قبل له بها، أو جزءاً من منظومة تضع نفسها فى خدمة السلطة، ومحاولة البقاء على قيد الحياة وسط العواصف والأنواء، وهذه هى الأزمة المزمنة بين الكاتب والقارىء فى العالم العربى”.
كان الصدع يتسع ويضغط إذن بين طرفى العلاقة فى المهنة.. الكاتب والقارئ، وفى الوقت نفسه بين سلامة ونسخته، بحيث يمكن أن نقول إن تجربة سلامة فى الأهرام طبعة أولى، ستعقبها طبعات، من هذه النسخة التى حملها فى رأسه وظل يجرب منها كل يوم عموداً أو فكرة يلقيها إلى صالة التحرير أو توجيها بإعادة كتابة شىء فات أحدهم كتابته. حكى لى صديق، أوصانى ألا أكتب اسمه، كيف أن سلامة كان يتابع بدقة مجريات الأمور ويرى إن كانت حاضرة على صفحات الأهرام، وإن كان يلوذ أغلب الوقت بمكتبه فى الطابق الرابع هرباً من الروتين. لم يكن ينخرط فى شىء له علاقة بالأعباء الإدارية خوفاً من أن يخدش ذلك عزلته، التى لم تكن انعزالاً بالمناسبة بقدر ما كانت مسافة يتجنب بها التماهى مع الأشياء اليومية العابرة. حائطاً زجاجياً كذلك الذى يغلف صالة التحرير نفسها.
وحين خرج من الأهرام مخلفاً وراءه أكثر من 4446 مادة صحفية كان قد نقح الطبعة الأولى. كان قد صعد الجبل ووضع الصخرة على القمة، فى انتظار الغد.
ستتاح له، من بعد، فرصتان، أو طبعتان، مع الناشر إبراهيم المعلم للمؤاخاة بين نموذجه (الماكيت) والواقع.. فى مجلة ” وجهات نظر” برئاسة تحريره، وجريدة “الشروق” وكان أيضاً رئيس مجلس تحريرها. وقد سألت الكاتب عماد الدين حسين، رئيس تحرير الشروق، لماذا وقع الاختيار على سلامة؟ وما الذى حققه لها؟ وكانت إجابته جاهزة: “لم أكن أتصور أن يكون كاتب آخر غير سلامة هو رئيس التحرير، لأن وجوده على رأس الشروق كان تأكيداً للفكرة التى أنشئت من أجلها الجريدة.. قومى، قادر على أن يجمع حوله كل التيارات، وطنى حقيقى، منفتح على العالم. يكتب بلا حسابات، ثم إن نزاهة سلامة ومهنيته وقدرته على أن ينقد ويختلف دون عداء، كل ذلك يجعله حالة مثالية”.
يثمن حسين حظه السعيد الذى أتاح له أن يعمل مع سلامة، وكثيرون غيره يدينون للرجل بدين كبير.. أنه كان درساً حياً يتحرك أمامهم فى التجرد والترفع مهما تكن الإغراءات. حكى لى الكاتب عبدالعظيم حماد، رئيس تحرير الأهرام الأسبق، أنه كان شاهداً على واقعة جرت مع سلامة حين رفض 125 ألف دولار، خصصتها إحدى الدول الخليجية لحشد الكتاب ضد صدام حسين وإدانة غزوه للكويت، ورغم أن سلامة، دون طلب من أحد، استنكر الغزو كتابة، إلا أنه أبى أن يحصل على مقابل لرأيه. قال لحماد الذى سأله، بمزاح وإكبار عن سبب الرفض، ما كان يردده أستاذه مصطفى أمين: “الصحفى الذى أحترمه هو الذى لا يطلب شيئاً لنفسه، لأنه يوم تكون له طلبات من وراء ما يكتبه، فإنه يظل أسير طلباته، فيفقد حريته”. أكد لى حماد أن سلامة هو الوحيد الذى رفض أن يأخذ الشيك من الوسيط الذى أرسلته هذه الدولة إليه وإلى مديرى ورؤساء تحرير آخرين طلب أحدهم أن يستبدل المكافأة، 150 ألف دولار، بخنجر مطعم بالأحجار الكريمة!!
وحين سألت حماد عن مفتاح شخصية سلامة، تنهد كأنه يفتقده أو يستدعيه، ثم قال “ظاهره كباطنه ولا يكتب شيئاً لا يؤمن به”. واسترسل حماد فى حنينه: “كان متواضعاً وبسيطاً، حتى إنه لا يستنكف أن يلتقط ورقة مهملات من الطرقة، لتظل نظيفة “. وهو، إلى ذلك، “يقيس يومه بالمعرفة. إن قيمة اليوم بالنسبة له بمقدار ما يحصل فيه من علم، وقيمة الإنسان عنده بمقدار ما يحسن من عمل”.
انتهى حديثى مع حماد، شعرت وأنا أتركه أننى أترك سلامة نفسه من فرط ما استحضر روحه وجعلها تتكلم. مع كل هذه العظمة لن تحس بوجود سلامة، لهدوئه الشديد، وإن كان تحت هذا الهدوء ثمة هم وجودى مقيم.. عمل الرجل طوال 60 عاماً تقريباً على إزالته، لكنه بقى مرارة فى الحلق وعلى سن القلم. لقد حلم مع ثورة يوليو 1952م بوطن أفضل، غير أن ما حققته لم يساو أبداً ما تمناه، بالعكس أخذت المهنة التى أراد لها أن تقود التغيير فى التدهور. صحيح أنها “تقدمت تقدماً مشهوداً فى فنون الطباعة والتبويب والإخراج وخرجت عمالقة من الكتاب والأدباء والصحفيين الذين أثروا الحياة الثقافية والفكرية والسياسية، ولكنها أبداً لم تكسر حاجز الصد الذى نجحت السلطة فى إقامته ودعمه وتعلية أسواره، ولم تتحول إلى مؤسسات مستقلة تعتمد على نفسها بنفسها وتنهض بواجبها المهنى والتنويرى دون أن تفقد استقلاليتها”.
والوطن الذى حلم له بأن يتطور نظامه السياسى من السلطوية إلى الديموقراطية بقى على حاله، رغم الثورات. حتى المواقع التى شغلها سلامة.. مدير تحرير، وعضو مجلس إدارة ورئيس تحرير..إلخ، والجوائز التى حصل عليها.. جائزة مصطفى وعلى أمين وجائزة الإبداع الإعلامى من مؤسسة الفكر العربى، كل ذلك، كله على بعضه، لم يجعله يشعر بالرضا عما تحقق للمهنة وللوطن. هو لم يكن يحلم لنفسه بأكثر مما حقق، بل كان حلمه عاماً. والحاصل أنه مع تقلص هذا الحلم ظل سلامة نفسه ينكمش، حتى اكتفى من الصحافة بعموده وجعل منه، على ضيق مساحته، “صندوق الدنيا”، يحمله على ظهره ويطوف به العالم فتراه مرة يكتب عن اليابان فى أقصى الشرق وتجربتها فى النهوض وتجارب غيرها فى الفشل، ومرة عن الجنوب وبؤسه المزمن وعن الفن والكتب والمثقفين والإسلام والتطرف والمرأة والشباب والعمالة المصرية، البيئة، التعليم، الحج.. لم يترك شيئاً لم يكتب عنه كأنه كان يبحث عن خلاصه بالكتابة، عن تبرئة ذمته أمام الله وأمام التاريخ. أمام الأجيال المقبلة.. أنه حاول أن يحمل قنديله ويمشى به أطول وقت ممكن وعلى أكبر رقعة ممكنة، غير أن الرياح تأتى بما لا تشتهى القناديل. اكتفى الرجل من الصحافة بعمود يغير به نيابة عنها، عمود أشبه بالشهادة. يقول فى مقدمة كتابه “مناطق رمادية”: “لم يكن فى خاطرى حين بدأت كتابة “من قريب”…أن أجعل منها معاناة يومية متصلة.. من خلالها أقرأ وأفكر.. وأتساءل وأجيب.. وأتأمل وأتألم.. وأسمع نبض الآخرين وأتواصل معهم.. وأقترب من مشكلات الحياة وأبتعد عنها.. وأرضى عن أشياء أو أسخط عليها.. وتحيينى بوارق الأمل أو تميتنى أسباب اليأس”. لم تكن الكتابة، بالنسبة له، بقرة “يمكن حلبها كل يوم ولا هى دجاجة مضطرة إلى وضع بيضها فى ساعة من ساعات النهار.. إنها معايشة ومكابدة.. ثم هى فكرة ومجاهدة، وضبط لمؤشرات الاتصال مع العالم الذى يعيش فيه الكاتب، ثم مع القارئ الذى يقرأ له، ومع الأحداث التى تحيط به، ومع حركة الحياة وما يطرأ عليها.. ينفعل بها فتحفزه على التأمل والتفكير والاستجابة للمؤثرات التى تؤثر فيه حتى يستقر فى وجدانه أنه يستطيع أن يشرك الآخرين فيما يعنّ له من خواطر وأفكار وآراء ورؤى، ولكن كتابنا الكبار الذين سبقونا، من أصحاب الأقلام والأعمدة اليومية، سواء فى الصحافة المصرية أو العربية، وضعوا قواعد حديدية صارمة وأخذوا أنفسهم منذ بما لم يأخذ به أحد نفسه فى الصحافة العالمية المتقدمة.. فظلمونا من بعدهم وأرهقونا معهم”.
وقد رأى، كحل لهذا العناء المتصل: “أن أكتب حتى أتعب فأتوقف. أن أجرى إلى آخر ما تحتمل الأنفاس ثم أتريث، أن ألتزم بالكتابة كل يوم طالما أحسست بالقدرة على العطاء، وعلى إثارة اهتمام القارئ وحفزه على التفكير، أو على وضع الأحداث فى سياق رؤية متكاملة، تضفى عليها معنى، وتقدم تفسيراً، وتضع إجابة، قد تكون شافية أو غير شافية، ولكنها تحترم عقل القارئ، وتقيم جسراً من الفهم والتفاهم بينه وبين الكاتب، وبين الكاتب وذاته، وبين ذاته والعالم المحيط بها، حتى إذا أوشك السراج أن ينفد، وهبت رياح الإرهاق واليأس والضجر على مصباح العقل، أعطيت نفسى أجازة من نفسى ومن القارىء وبقيت أسفل التل”.
والحاصل أن الأنفاس لم تحتمل. وصل به الإرهاق إلى أن أخذ أجازة دائمة. وحين أسلم الروح لبارئها فى 11 يوليو 2012م فعلها، أكاد أجزم، باطمئنان رجل أمين يسلم عهدة فى ذمته للجرد.
هل قلت إنه أهدى كتابه “الصحافة فوق صفيح ساخن” لشريكة المشوار، التى “بدلت بوطنها أوطاناً.. بددت وحشته، وأضاءت عتمته، وخففت فى الوطن غربته”. كأنه يستودعها ضى القنديل.
………………………………………
*فوتوغرافيا: المصور أيمن إبراهيم