عبدالله السلايمة
في قصيدته “حين ينتهي الوقت” يعترف الشاعر سامي سعد بأنه لم يعش الحياة كما كان يتمنى، يقول ” مذ وُلدت وأنا أُبصر الجاروف في يدي… عامل في مزرعة الله… لأسوي مكانًا لي علي الأرض… يتسع لبدني المهدود… ورغم هذا: لا أعرف لماذا تتبعني البراكين؟ تتعلق في قدمي الزلازل… وكلما نبتت لي عشبة قامت حرب جديده…! أسفل سماوات عمومية حططت متاعي… علي مشجب من رمال علقت أسمالي… حفرت خندقًا بيني وبين المدائن… ساعدني الله إذ أحاط بيتي الفقير بالمياه… ورغم هذا: ما من ضبع لم يعبر خندقي… ولا ماء الله منع الكواسح من اقتحام البيت… فيما قبل ذهب أبي للنوم في الفردوس… وسرعان ما لحق به الأهل… لم يبق حارسًا للخراب سواي…”
ورغم أنه لم يطمع في أكثر من مكان يسع بدنه على الأرض، إلا أن الحياة لم تدعه وشأنه أبدًا، ولم يجد ملاذًا من حربها المستمرة ضده سوى الاحتماء بخندق الشعر ، يستريح فيه استراحة المُحارب، ليتمكن من مواصلة السعي في حماية الشعر لرد اعتباره من تلك الحياة التي لا تتوقف عن تتبعه ببراكينها وزلازلها…
ورغم اعترافه أن الشعر غير كريم ولا يحرس النائمين، إلا أنه ــ كما قال ــ سيظل ملاذه الأخير، ملذته الوحيدة، عزلته الأليفة، حريته الكبرى، ذاته التي حلم بها، ولم يقدر أن يكونها.
وكون الشعر وحده، هذا الدفق الإلهي، هو الذي يبقيه حيًا، سعى ــ كحكيم ستيني ــ لإيجاد وسيلة لنشر رسالة الشعر المقدسة، استشار أولاده المحبين له وللشعر: كريم، أدهم، شادي، كيف السبيل إلى ذلك، فأشاروا عليه بضرورة أن يتعلّم استحدام “الإنترنت” فإذا ما فعل يمكنه من خلال هذا العالم الافتراضي تحقيق ما يصبو إليه، فراح شاعرنا ينشر في أجوائه الافتراضية أشعاره، ويبحث عن أصدقاء ممسوسون مثله بالشعر ، يخففون عنه آلام تلك الحياة التي أورثته الانكسارات، وآلام افتقاده للمرحومة رفيقة عمره الذي انقصف برحيلها، وأوجاعه من تلك الكواسح التي اقتحمت بيته، واقتلعت أشجار فردوسه، وشردت عائلته الصغيرة. واكتفى بالتعليق على ما حدث له وللمكان برمته بالقول:” في البدء ماكان الأمر أبدا كما قيل لك، وفي الختام أيضًا لن يكون كما تظن ..”
وتلحف بالشعر الذي لا يقي شاعر مرهف مثله لا من صقيع شتاء الألم، ولا من لهيب سياط من ظلم.. استبدل الحياة بالشعر، أضحى بالنسبة له هو الحياة ذاتها، ولولاه لربما كان الآن ميت، لذا تركه يحاول انتشاله من غابة الظلام إلى غابة الضوء، يقوده ــ كما قال ــ كطفل إلى بوابة التمرد الخلّاق، فبدون تمرد، رفض، سخط، خرق السائد، تجربة حرة، لن يتحرك قيد أنمله، وأن تعرف يعني أن تواصل الغوص، فلا قاع لمعرفة، ولا قداسة لحدود، ولا هيمنة لشعار. عليك كشاعر أن تحلق وراء المطلق الفذ، اللانهائي الجمال، وعليك أن تحتمل المهالك، قد تصل، وقد لا تصل، ما عليك من هذا، أنت لست معنيًا بعلم الحساب، يكفيك أنك لم تكن سوى أنت.
وبالفعل جاءت أعماله الإبداعية الشعرية والروائية تعبيرًا عن هذا الإيمان، ويمكن للقارئ اكتشاف ذلك بيسر في كافة إصداراته الشعرية والروائية، فقد صدر له ثلاث مجموعاته شعرية: “اعترافات العابر ــ الهيئة العامة لقصور الثقافة 2001، كملك يتأهب للفرار ــ دار شرقيات 2013، و مجموعة عابرون وأجلاف ــ دار ابن رشد 2018 ” كما أصدر روايتان: تلة الذئب ــ دار ملامح 2008، و السراديب ــ دار ميريت 2015.
ذلك هو ابن “العريش” الشاعر سامي سعد الذي نبش طويلاً في ركام اللغات حتي عثر على قاموسه الوحشي وشديد اللطف في ذات الوقت، وهو الذي كتب لأكثر من ثلاثين عامًا عن كل شيء، عن ذاته، عن الآخرين، عن الذي رآه وتخيله، عن الحياة والموت والإنسان، ثلاثون عامًا وهو مُطارد بما لا يعرف على وجه التحديد، ثلاثون عامًا مريضًا بالنبل، ثم كف عن التظاهر به واستعاض بالصمت كبديل…
صمتـًا يمارسه وهو يعاشر الصبر كزوجة مخلصة، ويتقبّل ما يظنه الحمقى حقائق…، يمارسه في النهار وهو جالس في شرفة بيته المؤجر في مواجهة البحر يطمره بالشكاوى، ويبكي فردوسه الضائع.
وفي الليل يحاول تعطيل ذاكرته، وحين يتمكن من استعادة لامبالاته كاملة يبدأ في التعافي ثم السير على رصيف شارع البحر، يمشي ـ كما قال في إحدى قصائده ــ كجندي ألماني خسر كل معاركة ببسالة…، يعب يودًا يكفي لإنعاش عاصمة مختنقة، يفرض علي ذاكرته قيودًا حديديه…، لم يعد لديه الكفاية من الغفران…، يشرح الأمور لنفسه ببساطه طفل..، ويتقبل ما ينتهي اليه الحوار…
ذلك هو شاعرنا سامي سعد الذي يرى الشعر والحياة بعيون مختلفة، ويصف الذين ينادونه بالكاتب بالكذابين، ويرد عليهم شعرًا: لو كنت كاتبًا لكتبت شيئـًا ذي نفع… أيها الكاذبون كفوا عن الصاق التهمة الماجنة، قولوا شيئًا يقارب الحقيقة إذ لا كاتب يغسل الصحون، يجلس قبالة البحر وحيدًا، يتمني أن يصبح البحر كلبًا، امرأة عمياء تؤمن أنه رجل في حاجة لنوم عميق