عبد الرحمن أقريش
يونيو، 1995.
زاكورة في الصيف، مدينة لا تطاق، ليلها كنهارها، هنا تشرق الشمس باكرا، أحيانا مع الخيوط الأولى للفجر، ينزل جحيم من السماء، يتحدث (سي أحمد) عن حرارة المنطقة بروح الدعابة، يقول إن طائفة من الزبانية مكلفون بالمهمة، ينزلون لوادي (درعة) باكرا، يجمعون أعواد الحطب وبقايا جريد النخيل اليابسة، ويشعلونها نارا لظى.
لحسن الحظ، هناك هذه الأماكن التي يهرب إليها الناس في الليل.
في (فندق الخلالة) تجتمع الشلة كل مساء في لحظة صفاء، نجلس أمام المسبح الأزرق، ندخن، نشرب، نستمتع، تتشرب أرواحنا صمت الصحراء وهدوء الليل، بين الحين والآخر، تهب نسمات خفيفة من الجنوب الغربي، في الأفق، تسمع أصوات لطيور غريبة، تغدو وتروح، وتستعد للمبيت على ضفتي وادي درعة.
تنخرط الجماعة في ثرثرة لا تنتهي، أحاديث تمتزج فيها الثقافة بهموم الحياة اليومية، النساء، الكتب، السياسة، وأعطاب التنمية المستحيلة، ثرثرة هي خليط من الجد والهزل والسخرية السوداء، سخرية لاذعة، قاسية، أحيانا جارحة، ولكنها ممتعة ومحبوبة، يجد فيها المغتربون منا بعض العزاء من قسوة الغربة والحرمان وضغوط الحياة.
تنزل زخات من السماء، زخات خفيفة وباردة.
ينظر (سي احمد)، يرفع بصره إلى السماء، يبتسم، يشرق وجهه، يستعيد روحه المرحة.
يرفع كفيه بالدعاء.
ينظر جهة الجماعة.
– اللهم اسق عبادك…
يشير إلينا بكفيه المفتوحتين، يرسم لحظة صمت لحظة قصيرة وعابرة، ثم يواصل، تتسع ابتسامته، يرفع صوته قليلا.
– وبهيمتك!!
يشير بسبابته، وبحركة واضحة من عينيه إلى الحمارين، (الحمار الذي)، و(الحمار فقط)…
كانت شلتنا تضم حمارين، (الحمار الذي)، واسمه الكامل (الحمار الذي هرب من الجنة)، وهو معلم شاب هاجر إلى السويد، واستقر بها ثلاث سنوات، ولسبب ما، عاد إلى المغرب ليعيش حياة الفقر والعطالة…
لا يتحدث (الحمار الذي) أبدا عن الأسباب والمبررات التي جعلته يعود من السويد، ولكن تلك العودة منحته الكثير من الشهرة، ومنحته بالخصوص لقبا استثنائيا، فالجميع يعتبره غبيا وحمارا من درجة فارس كبير.
أما (الحمار فقط)، فهو شخص جنوبي، يعيش من فحولته التي لا تفتر ولا تمرض أبدا، يكسب قوته من السياحة الجنسية، يستجيب لنزوات السياح، رجال، نساء، شيوخ، عجزة، شباب، شواذ ومهووسون، ويقيم علاقات غير محمية كما يقول الاطباء، ولأنه رجل قوي ويتمتع بمناعة خارقة، فهو لا يمرض أبدا.
يتحدث (الحمار فقط) بلغة الخبير ونبرة المجرب، يتحدث عن أوروبا والسياح، والمغرب، والشمس، والرمال، ومستقبل السياحة، وسحر التوابل والعلاج الطبيعي…
يردد دوما أن السيدا مجرد أكذوبة، وأن الأمراض المنتقلة جنسيا لا تنخر إلا هذه الأجساد الشاحبة الشديدة البياض!!
يفتخر (الحمار فقط) كثيرا بعمله، فهو يعتقد أنه يساهم بطريقته الخاصة في ازدهار السياحة، وجلب العملة الصعبة للبلد، ويغضب عندما يواجهه (سي احمد) بكلام تمتزج فيه السخرية بالأخلاق، ولكنه يغضب أكثر عندما يتهمه الزاكوريون بالانفلات، والاستهتار بالدين، وبقيم المجتمع الصحراوي المحافظ، يصمت للحظات كأنما يفكر أو يهيئ جوابا، ثم يقول بصوت هادئ.
– شوف أسيدي، أنا أفضل بكثير من وزير السياحة…الدين ديال الله، وباب السماء مفتوح، النصارى لي صعيب إلى مشاو!! (باب التوبة مفتوح، إنما السياح يصعب إرجاعهم لو غادروا)
إلى جانب تنشيطه للسياحة الجنسية، يشتغل (الحمار فقط) لصالح أصحاب البازارات والفنادق ومحلات بيع الأنتيكا، ينظم قوافل تجارية مزيفة بين (زاكورة) و(تمبوكتو)، قوافل تتم فيها المعاملات بالمقايضة بدل الأوراق المالية، أحجار الملحة الحية مقابل الجلود، التمور مقابل الزرابي التقليدية، الحلي مقابل الأسلحة وحبوب البارود، قطع الكتان ورزم الصوف مقابل علب الشاي والسكر وأعواد الكبريت!!
قوافل تجارية وهمية يراد منها إقناع السياح أنه هناك في المغرب العميق، مناطق لا تعرف بعد الأوراق المالية ونظام البنوك، وأن الزمن توقف بها عند عتبة القرن التاسع عشر!!
انتصف الليل، كان الجزء الجميل من السهرة قد انتهى، والجزء الأكثر جمالا قد بدأ، فقد فعلت الخمرة فعلها، واستعادت الأرواح هدوئها.
همت (ميشيل) وزوجها بالمغادرة.
(مشيل) صحافية فرنسية، وزوجها مخرج تلفزيوني، يشتغلان لصالح مجموعة من القنوات الفرنسية، حضرا إلى المغرب لإعداد برنامج حول السياحة الثقافية وحياة البدو الرحل في واحات الجنوب.
نهضا، اعتذرا بأدب، وهما بتوديع الجميع، ولكن (الحمار فقط) اعترض، وطلب منهما البقاء لإتمام السهرة.
– Les gens qui sont presses ils sont déjà morts…
بدت الدهشة على وجه الزوجين، كان واضحا أنهما لم يفهما كلام (الحمار فقط).
وتكلف (الحمار الذي) بشرح الجملة.
– إنه يطلب منكما ألا تستعجلا الرحيل…