إسراء النمر
قبل عام تقريباً، كنت أقرأ رواية (أحبك حياً وميتاً) لإيفان تورجنيف، وأوقفتني عبارة شديدة المراوغة، وهي: “هل تعلمين أن في مقدوري أن أقتلك بكلمة؟”.
إنها ليست المرة الأولى بالطبع التي أواجه فيها هذا المعنى، أن بإمكان الكلمة أن تقتل، لكن العبارة أو التساؤل جاء على لسان الأب لابنته، في حين أنه كان يقتلها فعلاً بصمته وغموضه ولامبالاته، ودفعني هذا لقراءة الرواية من جديد، لاكتشف أن شخوصها رغم وعيهم وما يملكوه من حكايات يمارسون الصمت بكل أشكاله، حتى الابنة التي بدت تتسم بالشجاعة سواء في آراءها السياسية والفنية، أو في اختيارها لحب مستحيل، كانت حين تصمت تصيبها وتصيب من أمامها بحمى.
وحين وصلت لتساؤل الأب في القراءة الثانية وجدته محض رغبة في أن يصير قاتلاً معلناً لا أكثر.
الرواية التي تتحدث عن المجتمع الروسي في القرن التاسع عشر والذي لم يكن يقبل الآخر المغاير عنه في الأفكار والعادات والتقاليد، وأيضاً الهوية، غيرت مفهومي عن الصمت، أنه أيضاً بإمكانه أن يقتل، حتى أن تورجنيف كان يستخدم وصف (قال وهو يقطع حبل الصمت) باستمرار مع شخصية لم تعتد على جرح أو إحراج أحد، وكأن الصمت حبل يلتف حول أعناقنا، وإذا لم نقطعه وبحنا بما في دواخلنا، سنكون قد قتلنا أنفسنا.
الصمت إذن ليس نجاة طيلة الوقت، لأنه حتى لو نجا الصامت فثمة من سيهلك لا محالة بصمته. أتذكر الآن بول أوستر الذي ظل يتمزق من صمت أبيه للحد الذي لم يستطع فيه استحضار فكرة مضيئة عنه حين عرف بموته. يقول في كتابه (اختراع العزلة): “لقد أفلح أبي ذلك الرجل الخالي من الشغف تجاه أي شيء أو شخص أو فكرة، غير القادر أو غير الراغب في الإفصاح عن مكنوناته تحت أي ظرف من الظروف، أفلح في البقاء بمنأى عن الحياة”.
لهذا، لا أميل لرؤية وديع سعادة عن الصمت أنه احتفاء بالذات وبالحياة، فوالد أوستر كان يعاني من ماضٍ أليم جعله ينكفئ على نفسه ويرفض أي اتصال حميمي، حتى أصبح رجلاً خفياً عن الآخرين، وعن ذاته أيضاً، هذا الماضي يتلخص في أنه رأى في طفولته أمه وهي تقتل أبيه، وهذا سبب كافٍ ليفقد المرء لسانه وثقته وعواطفه.
شخص مثل والد أوستر، يتمنى الواحد لو يلتقي به، ليعرف كيف يبدو هذا النمط من الصامتين الذين يملكون وجوهاً لا تظهر عليها أي انفعال ولا تصدر منها أي إيماءة.. وجوهاً بلاستيكية بالأحرى، فالذين راقبتهم في لحظات صمتهم القصير والطويل، كانوا يتكلمون في الغالب بعيونهم. لم يحدث أبداً أنني رأيت شخصاً محكم الغلق.
هناك فيلم وفر لي هذا، وهو (ورد مسموم) للسيناريست والمخرج أحمد فوزي صالح، حيث الصمت هو الموضوع، لا الفقر، لا التهميش، لا الحب المكبوت، كما يبدو من الوهلة الأولى.
يبدأ الفيلم بمشهد لمياه صرف صحي هادرة في حارة ضيقة بمنطقة المدابغ، ويمتزج صوت المياه مع صوت أقدام مارة وحصان يجر عربة كارو. مدة المشهد حوالي دقيقة لا نسمع فيه صوت بشري واحد، كأن الفيلم يقول من البداية إن من يعيشون هنا أصواتهم صدئة، وبالتالي فتجربة البوح ستكون شاقة، وعصية.
يتناول (ورد مسموم) علاقة معقدة بين أخت وأخيها، تُشبه علاقة الشيء بظله، أو المريد بشيخه، أو الجزء بكُله، فهي تتبعه أينما ذهب، تلاحق أنفاسه، وتقدم له القرابين كى يرضى، بينما هو في المقابل لا يفعل شيئاً، ولا يقول شيئاً، بل إنه اعتاد على استنزافها، والعادة كما تقول إحدى شخصيات صمويل بيكيت مخدر عظيم.
في علاقات مثل هذه، ينبغي أن يكون الكلام أقرب إلى الشعر، يُلمح، ولا يصرح، لذلك جاء الحوار بين الأبطال كما لو أنه مقتطعاً، فثمة عبارات على الدوام بلا ذيل، وأسئلة بلا جواب، والخطورة هنا تكمن في أن الصمت لا يقول شيئاً محدداً، ويتركك في منطقة رمادية، منطقة أشد عذاباً من الجحيم.
الفيلم الذي يرى أن لا ملجأ للذين يعانون سوى الصمت، كانت نهايته مفارقة، فما حدث أن الأخ أراد أن يبتعد عن واقعه المرير ويسافر رغماً عن أخته، وفي يوم اصطحبها لملاهي شعبية، وأمام رجل مثله كل شيء فيه معاند وكل شيء متملص، لم يسعها إلا مراقبته وهو يلهو، لتجد نفسها بعد سهو بسيط غارقة وحدها في الصخب.
إن صوت المياه ليس كصوت الصراخ، فالأول باعثاً للأمل حتى لو كانت مياه صرف صحي، والثاني باعثاً للفزع حتى لو كان صراخ أناس يلعبون. كما أن للغياب وجهين، فإذا كان الأخ غاب جسدياً، فهي أيضاً غابت، ولكن روحياً.
هذه الحالة ينطبق عليها بيت شعري للأخطل الصغير وهو: (إن كنت تقصد قتلي/ قتلتني مرتين)، فقد قتلها بصمته أولاً، ورحيله ثانياً، والتاريخ الشعري مليء بالذين يعتبرون أنفسهم ضحايا للصمت، سواء لصمت الأحبة أو لصمتهم، مثل أبو نواس إذ يقول في إحدى قصائده: (أموت ولا تدري وأنت قتلتني.. فلا أنا أبديها ولا أنت تعلن/ لساني وقلبي يكتمان هواكم.. ولكن دمعي بالهوى يتكلم).
لا أهدف من هذا كله أن أقلل من قيمة الصمت، أو أن أحصره في وجه واحد، لكنني فقط أحببت أن أقول إنه قد يودي بأرواحنا، لأنه مهما حدث فلن نستطيع اقتحام شخص صامت، وإذا كان صحيحاً إننا استطعنا ولو بمقدار ضئيل، فهذا فقط حسب رغبته واستعداده.
………………..
*نقلاً عن “أخبار الأدب”