بهجة الشوارع

محمد الفخراني
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد الفخراني

أحب أن أمشى فى الشوارع، أحب أن أرى الأفق، أتطلَّع إليه بينما أمشى، بشمسه، سحابه، وألوانه.

 وجود الناس فى الشوارع، يقطع أحيانًا مجال الرؤية، أضطرُّ أن أراوغ وأتنقَّل على جانبى الشارع لأحصل على المَنْظَر.

 الشوارع الخالية بسبب الڤيروس منحتنى فرصة سهلة لرؤية الأفق، لكن، بعد قليل من الفُرَص السهلة لاحظْتُ أن شيئًا ما غائب، لم يكن صعبًا اكتشافه، إنه البشر، الناس، عندما صار الشارع والأفق مكشوفَيْن، دون بشر، لم تَعُد السماء جميلة، أقصد كأنما فارغة، انْمَحَى شىء من روحها، ربما معزولة أيضًا، ها هو الأفق بكامله لى، الشمس بلونها البرتقالى، أو الفضى، واستدارتها الكاملة، لكن، يا للغرابة، لم أعُد مهتمة، الجمال غائب. 

كأنما صار العالم مُجَرَّدَ شىء مُجَرَّد.

 مُجرَّد عالم.

عالم مُجرَّد.

ليس البشر وحدهم مَنْ يعانى بسبب عزلتهم فى بيوتهم، العالم أيضًا فى الخارج يعانى عزلته.

الشوارع، التى لا تجد أحدًا يمشى فيها، حزينة، كأنما لم يَعُد لديها ما تفعله فى العالم، عاطلة، مُهْمَلَة، بلا قيمة، متعتها ليس أن تستلقى هكذا تحت السماء، إنما أن يمشى فيها البشر، هذه الشوارع التى بدأتْ تشعر بالبرد والوحدة، والصغير منها يسأل الكبير: “ماذا حدث؟ ماذا سيحدث؟”.

يمكننى أن أتخيَّل الشوارع وهى تتزيَّن كل ليلة، وتُجَهِّز الموسيقا، فى انتظار أن يظهر البشر صباحًا، لكن عندما يأتى الصباح ولا يظهر عدد كافٍ من البشر، فإن الشوارع تُخبِّئ زينتها وموسيقاها لوقت آخر.

بدونهم، الشوارع وحيدة، بردانة، ومعزولة.

البشر هم بهجة الشوارع.

الإنسان، الوجود البشرى، هو ما يمنح الجمال لكل شىء، تذكَّرْتُ جملة قرأتُها فى رواية، تقول: “الإنسان أجمل فكرة فى العالم”، يمكننى أن أُضيف إليها: “الإنسان أهم فكرة فى العالم”.

يتغيَّر وجه العالم أيضًا فى غياب العنصر البشرى.

كان غريبًا، وطبيعيًّا فى الوقت نفسه مثلما أدركْتُ بعد ذلك، أن أكتشف أنى أعرف الأماكن عندما يكون البشر فى الشارع، رغم أن البشر مُتحرِّكين والأماكن ثابتة، كنتُ وأصدقائى، نتقابل أمام مقهى، مكتبة، مكان ما، شىء ثابت، هذا طبيعى، لكن مع خلوّ الشوارع من البشر لم تَعُد الأماكن مرئية، أقصد على الأقل ليست فى أماكنها، ليس من السهل اكتشافها، والسبب أن الشوارع خالية من البشر، حتى المسافات لم تَعُد كما كانت، وحسَبَ ما أعرف، كان يمكننى الوصول إلى أىّ من الأماكن التى اعتدْتُها بسهولة، قدماى كانتا تأخذانى، هذا لم يَعُد ممكنًا فى غياب الناس من الشوارع.

إحدى المرات، كنتُ أتمشَّىَ فى وسط البلد لأكسر العزلة، المَلَل، المقاهى والمطاعم مُغلَقة، وأعرف أن المقهى الذى اعتدْتُ الجلوس فيه سيكون عن يسارى بعد 20 مترًا تقريبًا، أو دقيقة، لكنى مشيْتُ خمس دقائق، ولم ألاحظ أنى تجاوزْتُه، فى الوقت نفسه لم أرَه، توقفْتُ حائرة هل تجاوزْتُ المقهى أم ما يزال بالأمام، وفِعْلاً، كان الشارع غريبًا، نعم، بدون البشر.

  فى غياب العنصر البشرى كل شىء خطأ.

أعتقد أن الأماكن تنتمى إلى الإنسان، ليس العكس، وتُعْرَف به.

ليست صورة العالم فقط، صوته أيضًا.

فى غياب الإنسان، العالم صامت.

ربما ما نُسمِّيه الصوت الداخلى للعالم، ليس إلا الصوت الذى يَصْدُر عن النشاط الإنسانى اليومى، العادى.

صوت خطوات إنسان.

شخص يدندن مع نفسه.

ضحكة.

شخص ينادى شخصًا آخر.

صوت احتكاك مقعد يَجُرُّه أحدهم على الأرض.

رشفةَ شاى أو قهوة.

مثل هذه الأصوات العادية، اليومية، قد تكون الصوت الحقيقى للعالم، ما نعتبره صوته الداخلى.

مَنْ يعزلون أنفسهم فوق قِمم الجبال قُرْب السحاب، أو أعلى منه، أو عند منابع الأنهار، أو فى قلوب الغابات، كى يصلوا إلى الصوت الداخلى للعالم، هم عندما يسمعون هذا الصوت، ويشعرون به، ويكونوا متأكدين منه، ربما لا يكون ذلك إلا صدى لحوار عادى بين إنسان وآخر فى مكان ما، حركة ملعقة داخل كوب شاى، أو تَرْبيتَة من يدٍ على يد.

بدون الإنسان لا صوت للعالم، ولا صورة.

…………….

*مقطع من رواية: زهايمر حبيبة ـ قيد النشر

 

مقالات من نفس القسم