نهلة عبد السلام
“وقولنا نرسى على مينا”..لا منارات ولا مواني.. لا مُستقبلين بلهفة، ولا مودّعين بلوعة. قوارب صغيرة متناثرة، متباعدة ينشدون بها النجاة، وموجٌ يتلوى ساخرًا من سذاجتهم؛ يبدد سأمه بابتلاع بعضهم. التلذذ بصراخهم وتوسلاتهم التى لا تخلو من طرافة. فحتى النهاية يراودهم حلم الأرض، البيت، الدفء.
“مشينا وادينا من غير أهالينا”.. وحدنا بلا متاع بلا شركاء، رُحّل، ما إن نأنس إلى مكان حتى يلفظنا. عجلة التغيير تدهس ذاكرتنا، تفتتها، مثلما تفعل بأعمارنا. ثمة فترات شديدة القِصر أو هكذا يُهيئ لنا، نسقطها على اعتبارها بقايا حياة أو بالأحرى نفايات؛ التخلص منها لن ينقص زادنا من غد. وحين يعضنا الجوع يصدمنا رصيد أصفار من الأيام. الإقتراض يلزمه ضمانات وبلا أهالينا، خزانتنا خاوية، وأرواحنا وبطوننا، وتسول الثقة يُقابل بالدهشة. منك ولم يعيرك؟ فكيف وغريب لا يعرف لك هوية؟!
“ولا حد بيسأل فينا” الهواتف الصامته رغمًا عنها. أرصدة الدقائق المهدرة والباقات التى يتم تجديدها بلا حاجة. مئات الأسماء مُعلّبة لا تسمع لها حسًّا.. وتبعًا لخارطة المواسم والأعياد تومض الشاشة برسالة فى صياغتها ما يشبه أحاديث ضاربين الودع وقارئى الكف والفنجان. رسائل “فرى سايز” تلائم الكل، نردها بمثلها وليس بأحسن منها. الأحسن أن نلقى بأجهزتنا من أقرب نافذة.. نتابع مشهد إرتطامها.. تناثر مخزونها من أشخاص طالما تذكرونا بأوقات الفراغ. نُصغي إلى إستغاثاتهم على خلفية نغمات أنتقيناها من ألبوماتنا المفضلة؛ ندندن بكلماتها بينما نسير على مهل لإعداد فنجان من الشيكولاته يتناسب ومزاجنا الرائق.
“واتارى الدنيا غدّارة”.. عادتها وطبعها. كل شمس تجرّدك من ورقة، تتلذّذ بإلهاب جلدك بنارها وانكشافك أمامها بالكلية، اللهم إلا ورقتك الأخيرة؛ ورقة التوت والتى تستميت لأجل الحفاظ عليها؛ فمن بعدها لن تسعك سوى حفرة رطبة مظلمة. رفات.. فتراب.. فأقدام تدهسك بلا إكتراث. لن تبكيك الدنيا، لن تفتقدك، لن تتذكرك بالأساس. هل تتصور أنها تحسب كم من سودانى قشّرت؟ أو من لب قزقزة؟.. المحمصة تعمل بكامل طاقتها وكمال كفاءتها، وأكوام تتهيئ لأمسيات لاهية وصباحات لا مبالية بما جناه الليل.
“والله وجيتى علينا يا دنيا” الكارثة أنها تعشق المفاجآت، ويستحيل تسريب أية معلومات تعيننا على التقبل والإستيعاب إلى حدٍ ما. تتأنق، تمشى فى خيلاء، تجلس على كرسى فخيم فيطرحك أرضًا. وبينما يُغرِقك الخجل وتنشغل بالتأكد من خلو المكان، وقبل أن تدرك أن ثلاثة أرجل لا تكفى لحمل الأحلام. يحملك غليظان، لا لتقف مجددًا، بل لتتمدّد مكشوف الظهر، تجلدك سياط اللوم واتهامات الرعونة.
“الحنيه.. طب فين هيَّ”؟ فى البوستات؟ فى مواقف تخص آخرين لا ندرى أهم حقيقين أم مُختلقين؟ من صلصال أم من بلاستيك؟ وثمة “لايف كوتش” ينفخ الروح فيهم، أو مُعالِج يجعلهم أكثر مقاومةً للتآكل؟ الحنية معادل أحماض الخيبات، وحين غيابها تصيبنا حساسية مفرطة، ويزيد نشاط غددنا الدمعية؛ تخوننا فتجعلنا مثيرين للشفقة أحيانًا وللضجر غالبًا.
“راحت فين الكلمة الحلوة”؟ فى الإنبوكس. وأخذ فى رد تطول المحادثات وتتفرع وتتشعب وتتوقف. هكذا يأتى البلوك واضعًا حدًا للوهم. إفتراض دنيا لبضع من الوقت جائز، الإنغماس بالأكذوبة بما يجاوز الحد الآمن شأن مرعب.
“راحت فين الناس الحلوة”؟ أفنتهم أيام الوحدة وليالى الإنتظار. قتلهم الحذف من قائمة الأحياء وهم لازالوا يتنفسون، أُضطروا للإنزواء بالأقبية. الإنعزال كى لا يُزعجوا الناس المرهقة دومًا من الرمح والركض والجمع والحيازة، من نهم لا يُشبعه التهام أجران وعطش لا يرويه شُرب أنهار.
“وتاهت بينا ليالينا”.. تاهت حتى أضعنا الطريق وفقدنا العناوين، وصارت العودة أمر مُعقّد والمواصلة أكثر تعقيدًا. تحوَّلت الإشارات إلى إشعارات، وتوالت التحديثات تبهرنا. ومع ذلك لم تُسعفنا خانة البحث، فتعيدنا حيث بدأنا. وارفين يانعين، وثمّة صيغة تؤكد فشل المهمة، وتنصح بالتشبّث بورقة التوت.