رحاب إبراهيم
لماذا تعاطف الجميع مع العصابة؟ هل هي ميول إجرامية خفيّة؟ رغبات عدوانية مكبوتة؟
أسئلة أثارها مسلسل “ب100 وش” الذي عرض في شهر رمضان2020، وهي أسئلة قد تبدو هزلية.. وقد تُخفي وراءها الكثير.
المسلسل من تأليف: أحمد وائل ووعمرو الدالي، ومن إخراج المخرجة الكبيرة كاملة أبو ذكري.
بداية يبدو التحليل النفسي والاجتماعي لهذا التفاعل ضروريا، لأن المسلسل قد أثار ردود أفعال واسعة على المستوى الجماهيري، ورغم تصنيفه كمسلسل كوميدي، نجح في تمرير قضايا اجتماعية هامة تم طرحها باحترافية وبشكل غير مباشر من خلال الأحداث.
نعود للسؤال الأول
لماذا تعاطف الجمهور مع العصابة؟
هل لأنهم عصابة مرحة خفيفة الظل؟
فقط؟
أعتقد لا
ففي فيلم “لصوص ولكن ظرفاء”1968 وهو الفيلم الذي أعاده المسلسل للأذهان، أحب الجمهور أحمد مظهر بوسامته الأرستقراطية، وردد معه “كل شيء مدروس”
وأحب خفة ظلّ عادل إمام، وغنّى معه “وانا احب أعيش أونطة”، ولكنه تحمس للنهاية العادلة والطبيعية آنذاك حيث تم القبض على المجرمين وإنقاذ محل الجواهرجي الشريف من السرقة.
وفي مسرحية “ريا وسكينة” 1980، ضحك الجمهور وصفّق طويلا للعصابة، وغنّي من قلبه الأغنية الشهيرة متعاطفا معهم “لهم ضحايا كتير لكن محدش قال هم ضحية مين”، ولكنه أيضا خرج من العرض راضيا عن النهاية والتي تحققت فيها العدالة الإلهية قبل العدالة المجتمعية حين قتلت إحداهما ابنتها عن طريق الخطأ، لأن المنطقي أن الجزاء من جنس العمل.
إذن
لماذا تحمّس الجمهور لنجاح العصابة، لدرجة تبادل التهاني على صفحات التواصل الاجتماعي بعد إتمام عملية البنك، ولماذا تمنّى أن يُفلتوا من قبضة العدالة
أظن أن المفتاح يكمن في كلمة “العدالة”
تلك التي كانت قيمة واضحة ثم أصبحت من القيم محل البحث إن لم نقل الشك
في عملية البنك لم يكن هناك مجنيّا عليه في البداية، فعم غزال الثري المريض ليس له ورثة، والممرضة لا تعرف إلى من ستذهب كل هذه الأموال
والإجابة معروفة..إلى الحكومة
وبما أن الشعب لا يثق عادة في الحكومة، ولا فيما تقدمه له من خدمات تعليمية وصحية وغيرها مقابل هذه الأموال..بل على العكس يُطلّ عليه رجال أعمال متورطون في قضايا سابقة ليخبروه أن الحياة في مجتمعهاتهم المغلقة “غير” وأننا هناك كلنا شبه بعض ولا نشبهكم في شيء، فمن الطبيعي أن يتحمّس لامتلاك تلك الأموال التي بلا صاحب..والتي ستذهب لمن لا يستحق،إذن فلتذهب إلينا…نحن نستحق حياة أفضل!
والعصابة ليست من نمط واحد..
إنها تتكون من عشرة أفراد، وهم مختلفون في التركيبة الاجتماعية والثقافية وفي الدوافع كذلك.
هناك من هو أصيل الإجرام، سواء ظهر متدينا ومارس إجرامه في الخفاء مثل عم سامح، أو كان بلطجيا ظاهر الإجرام مثل فتحي، أو كانت عصابة صغيرة تسرق ما خفّ حمله وغلى ثمنه مثل عصابة سكر ورضوى وحمادة حيث التطلعات دائما أكبر بكثير من المتاح.
وهناك من يمارس الجريمة كرد فعل أو دفاع عن النفس مثل مستر عمر والذي تعرض للنصب على يد أقرب الأقربين ـ والده ـ فاختفى لديه أي شعور بالقيم أوالعدالة..شخص يعيش على أنقاض مجد سابق لم يعد يصلح للاستخدام المعاصر “سيارة من عصر الملكية” ويرفض الاعتراف بذلك.
وهناك من يمارسها بالصدفة مثل نجلاء وماجي وزيزو وسباعي..هؤلاء من يمكن أن نسميهم أيضا شرفاء بالصدفة إلى أن يقعوا في التجربة.
ولم نرَ أيّا منهم يدخل في صراع نفسي بين الخير والشر، وبالتالي لم يتوريط المشاهد في مثل هذا الصراع من الأساس..فهي سرقة بلا ضحايا.
ولكن
يحدث أن تظهر الضحية
هناك ورثة مستحقّون لهذه الأموال
هكذا فجاة وبعد أن استعد المشاهدون للفوز بالغنيمة، وارتبطوا نفسيا باللصوص الظرفاء
النسخة الحديثة من عالم النصابين، التي لا تسرق من أجل العيش ولكن من أجل ” العيش الفينو والجبنة الكيري كل يوم “
..إنهم يتطلعون لارتقاء السلم الاجتماعي وامتلاك المقومات التي حددها المجتمع للشخصية الناجحة: البيت والسيارة والنادي ولبس البراندات “انا لو مالبستش براندات أهرش”
كما أن الضحية تظهر في صورة مستغلة ومنفّرة..حيث لم يهتم أحد منهم بالرجل المريض طوال حياته ولم يراعوا حرمة بيته وقت وفاته
هكذا ظل تعلّق الُمشاهد بأفراد العصابة،ولم يحدث فارقا كبيرا بين وجود ورثة أو عدم وجودهم
ففي الحالتين هم غير مستحقين..تماما مثل الحكومة!
وهكذا تتلاشى تدريجيا الخطوط الفاصلة، والمواقف الواضحة، وتختلط فكرة الخير والشر وتبدأ المبررات
وتستمر اللعبة
ولكي يستمر التعاطف مع العصابة تم تحجيم الشخصيات الأصيلة في إجرامها فلم تستأثر بالحكاية بل ظلت في إطار محدد ومحايد وموظّف لخدمة الكلّ بحيث لا تدع للمشاهد مجالا لرؤيتها وتقييمها منفردة وبالتالي لا تثير مشاعره ضدها..هنا أقصد شخصيتي فتحي وسامح واللذين كانت نهايتهما على النقيض تماما، فبينما يُلقى القبض على الثاني يكون الأول هو الفائز الوحيد في النهاية ربما في إشارة خفية إلى أن العدالة والظلم يعيشان جنبا إلى جنب في هذه الحياة.
وكما أن أفراد العصابة ليسوا أشرارا في المُطلق، كذلك الضحايا لم يكونوا ضحايا بشكل كامل
هم أصحاب حق نعم
ولكن يغلّفهم الطمع أو الجهل أو كلاهما
بدا ذلك واضحا في حوار الأم التي تريد إدخال طفلها الحضانة الألماني كما فعلت صديقاتها، المسألة تتعلّق بالشكل الاجتماعي لا أكثر.
أيضا المدرس المغترب الذي اعتاد أن يشتري كل شيء أونلاين حتى العروسة، وهو يقيّمها على مستوى الشكل ومن الواضح أنه العنصر الأساسي في الاختيار لديه
لذا رأى الجمهور أنه لا بأس أن يعاقب قليلا أو كثيرا، فقد تعامل مع الزواج بمنطق البيع والشراء وفي عالم التجارة كل شيء وارد..
هناك أيضا جانبا آخر لا يقل أهمية، وهو نوعية الأنشطة التي اختارتها العصابة للنصب: مؤسسات التعليم الخاصة، السيارات، الشقق
هذه الاحتياجات الأساسية للناس والتي تقدم إليهم على أرض الواقع مقابل مبالغ تفوق كثيرا قيمتها الحقيقية بسبب سياسة السوق والاحتكار، فمجرد تحصيل أموال مبالغ فيها لا تتناسب مع القيمة الحقيقية لما تقدمه من خدمات هو شكل من أشكال النصب حتى وإن تمت بشكل قانوني.
وتستمر الحكاية ونصل قرب نهاية المسلسل لنوع آخر من الضحايا
الضحية الخائن “الفاسد من ضهر فاسد”.. والذي يستحق الانتقام لا التعاطف
ثم نصعد معهم سلّم النصابين حتى نصل للرجل الكبير
وهنا نتأكد من ضآلة وغُلب هذه العصابة التي تحلم ب”مليار إلا حتة “
وتنفق نقودها على السياحة في أوربا وعلى اشتراك نادي الجزيرة أوتجهيز شقة الزوجية، وممارسة حياة لا تراها إلا من وراء الشاشات.
تأكد غُلبهم وخيبتهم أمام الراجل الكبير والذي بنفوذه هرّب المليارات لرجال الأعمال الكبار الذين نهبوا من البلد ما نهبوا ثم فص ملح وداب.
بالإضافة لعالم النصب والنصابين، قدّم المسلسل صورة غير نمطية للأم، تصلح لأن نسميها نموذج الأم الطفلة، ربما نحتاج من النقاد رصد تطور شخصية الأم في الأعمال الفنية والإعلانات في آخر عشر أو عشرين سنة مثلا، والعلاقة بين هذه الصورة وبين التغيرات المجتمعية، بعد أن عشنا طويلا على نماذج الأم المؤثرة في الأحداث، كما تم تقديمها في الوتد 1996″فاطمة تعلبة “، وفي الشهد والدموع 1983″ زينب ” مثلا.
بالنسبة للمسلسل قدّم نموذج الأم الطفلة عن طريق شخصيتين مختلفتين ظاهريا، كلاهما لا تستطيع التعامل مع معطيات العصر الحديث فتنغلق على عالمها، سواء الأرستقراطي كما قدمتها الفنانة الرائعة سلوى محمد علي، أو الشعبي كما قدمتها الفنانة القديرة حنان يوسف.
كل منهما تغض الطرف عن الكثير مما لا تفهم طالما الحياة تمر بلا مشاكل، وتعتمد على أبنائها لرعايتها بدلا من العكس. مجرد ظهور إحدى الفنانتين على الشاشة كان كفيلا بخلق جو من البهجة والراحة بسبب الأداء المتمكن وخفة الروح.
يطول الحديث عن روعة أداء الممثلين، كلهم بدون استثناء قدموا أداء رائعا وموفقا، هناك نجوم جدد واعدون ومتميزون..زينب غريب،دنيا ماهر، أسامة أبو العطا، والمتألق إسلام إبراهيم، ونجوم كبار حصلوا أخيرا على فرصة يستطيعون من خلالها تقديم قدراتهم، وأخص بالذكر فنان من العيار الثقيل هو شريف الدسوقي.
أداء متألق للنجم آسر ياسين، ونقلات نفسية معقدة قدمها باقتدار وبساطة. والنجمة نيللي كريم والتي عرفناها لأول مرة في مسلسل “وجه القمر” 2000 حين قدمها لنا نجوم كبار: فاتن حمامة وجميل راتب وأحمد رمزي، تسير هي أيضا على طريق الكبار وتقدم لنا الوجوه الجديدة الموهوبة حقا.
الموسيقا التصويرية للفنان تامر كروان لعبت أيضا دور البطولة خاصة الحلقات الأخيرة.
ورغم الحبكة الضعيفة في النهاية حيث لم يكن الرجل الكبير مضطرا لدفع أي شيء لفتحي وكان باستطاعته خداعهما معا إلا أن كل المتعة التي شاهدناها على مدار الثلاثين حلقة جعلت الجمهور يتغاضى عن ذلك ويغني معهم “مليونير مليونير”.