محمد العربي كرانة
طنجة، ها هو خليجك يمتد أمامي متراميا، وها هي رياحك الشرقية تلفح وجهي، تعبث بشعري وتهز ملابسي هزا ..
أخيرا حققت حلمي وجئتك، لا كما كنت أحلم فاتحا، على متن سيارة فارهة وجيبي مليء ونفسي منفتحة على ملذاتك القديمة والجديدة، ولكني جئتك كآخر نقطة من هذا البلد الذي أبى أن يحتويني.
يعلم الله كم جاهدت لكي يكون لي وجود في وطني، عشر سنوات من البطالة، عمر مديد أضعت فيه كرامتي، لم أعد أستطيع النظر في وجه أب عجوز متقاعد، ولا تحمل نظرات الأسى والإشفاق المنبعثة من عيون أم، لم تتقبل أن ابنها الذي كثيرا ما افتخرت به وبتفوقه في الدراسة لم يحصل على عمل.
ما علينا، هذه أمور قد انتهت وحسمت، وها أنا مقبل على مرحلة حرجة من عمري، فإما أن أكون أو لا أكون. وطنجة -يا لسخرية الأقدار- هي منطلقي بدلا من أن تكون مستقري. تحسست جيبي لأطمئن على الرزمة الصغيرة المحشورة في جيب سروالي الداخلي، ثم اتجهت صوب المدينة القديمة.
لم أكن أعرف الطريق إليها، كما لم أكن أعرف شيئا عن العنوان الذي مدني به صديقي، والمتواجد بدار البارود. سألت شابا عن أقرب الطرق إلى المدينة القديمة، نظر إلي مليا، ثم أشار بيده نحو شارع ينعطف يمينا وهو يدمدم بكلام لم أفهم منه سوى أن مدينته ضاقت بالغرباء.
تابعت مسيري وانعطفت يمينا كما قال لي، كان الشارع يصعد ملتويا، والمارة يتدافعون على الإسفلت، يزاحمون السيارات الصاعدة والساحبة وراءها سحبا من دخان أسود. توقفت في أعلى الشارع لأسترد أنفاسي. نظرت إلى الأسفل، بنايات متراصة ذات طابع أوروبي، وأفق تتقاسم زرقته السماء والبحر. زكمت أنفي رائحة السمك وروائح أخرى، ذكرتني بمدينتي التي تركت ورائي. لم أستسغ أن تكون طنجة كمدينتي، ولكن يبدو أن الفرق ضئيل على الأقل في هذا الشارع المزدحم. صراخ الباعة، منبهات السيارات، والشرطي المتصبب عرقا يحاول تنظيم المرور. اقتربت منه وسألته عن المدينة القديمة، نظر إلي بارتياب، ولما تأكد بأني غريب عن المدينة، دلني على الطريق، شكرته وواصلت صعودي.
دار البارود، أزقة ملتوية، صاعدة نازلة، فارغة أحيانا ومليئة أخرى، أطفال من كل الأعمار يلهثون وراء كرة مطاطية تتقاذفها أرجلهم كما اتفق غير آبهين بالمارة، اصطدم بي أحدهم، استوقفته وسألته عن منزل حميدو، أشار برأسه نحو باب نصف مفتوح والتحق بأصدقائه. قرعت الباب، أطلت فتاة من كوة في الجدار، مططت رأسها لتراني، ولما تأكدت من أنها لا تعرفني أقفلت الكوة، وسمعت وقع خطواتها وهي تنزل الدرج بسرعة. وقفت أمامي لاهثة وسألتني:
– ماذا تريد ؟
– حميدو …
قاطعتني :
– لم يعد يقطن هنا، لقد رحل منذ شهر
– هل تعرفين عنوانه الجديد؟
– لا… ولكن لم تسأل عنه، أأنت من معارفه ؟
وقبل أن أرد على تساؤلها أردفت وهي تستدير لتنصرف :
– لا أظنك من معارفه، فأنت كالآخرين الذين سألوا عنه قبلك..
– وهل سأل عنه كثير من الناس قبلي ؟
– نعم ، الشرطة، ومجموعة من الغرباء، وصاحب المنزل، لقد رحل دون أن يؤدي واجب الكراء..
ودعتني بانحناءة من رأسها، وقبل أن تغلق الباب نهائيا، نصحتني بأن أعود من حيث أتيت إذ لا خير في حميدو وفي أشباهه.
بقيت مشدوها أحملق في الباب الموصود وكلماتها ترن في أذني. أن لا أجد حميدو بعثر أوراقي، وتحذير الفتاة زاد من مخاوفي.
لم تكن الصورة التي انطبعت في ذهني عن حميدو مطابقة للواقع، كنت أتصوره طويل القامة، مفتول العضلات، قاسي الملامح، فما حكى لي صديقي عنه جعلني أصنفه في خانة الأبطال الذين سكنوا مخيلتي منذ الصغر، من خلال قراءة قصص الفرسان والقراصنة، لكن الرجل الذي أشار إليه مرافقي كان غير ذلك تماما، مما جعلني أتردد كثيرا في التوجه نحوه. نظرت إلى مرافقي في حيرة، ولكنه شجعني بابتسامة عريضة ثم انصرف. اقتربت من الرجل الجالس إلى طاولة في عمق المقهى والمستغرق في قراءة جريدة مفتوحة أمامه، لم يعرني أي اهتمام، كان عاديا في شكله وفي ملابسه ولا يكاد يختلف عن باقي رواد المقهى، نكرة بين النكرات، شعر بوجودي، رفع رأسه عن جريدته، نظر إلي نظرة متسائلة ثم أومأ إلي بالجلوس.
جلست على حافة الكرسي، وقبل أن أنبس بكلمة، قال لي :
– ها قد وجدتني، فماذا تريد مني ؟
لم أكن أنتظر أن يقابلني بهذه الطريقة البسيطة المباشرة، والتي تشرح السهولة التي توصلت بها إلى مكانه، فما ظننته ذكاء مني كان في الحقيقة توجيها منه. فمنذ أن طرقت بابه بدار البارود وهو يراقبني بواسطة رجاله، مرورا بالفندق الذي بت فيه، وبمقهى الشجرة التي سألت فيها عنه بإيحاء من عامل الفندق، إلى مرافقي الذي قبل أن يدلني عن مكانه مقابل عمولة وتأدية ثمن الذهاب والإياب من طنجة إلى الديكي حيث يوجد… بساطة السؤال أفحمتني، بل استفزتني، هو يعرف جيدا ما أريد منه، لم أجبه، جميع ما هيأت لهذه اللحظة طار واندثر. مددت يدي إلى جيب قميصي وناولته رسالة صديقي.
قرأها بتمعن ثم أعادها لي بابتسامة خفيفة معلقا :
– إذن تريد اقتفاء خطى صديقك ؟
– نعم، وقد طلب مني أن أتصل بك لتسهل علي الأمر .
– لقد حدثني منذ أسبوع وأخبرني بقدومك، ولكني اضطررت لتغيير مقر سكناي لأسباب طارئة خاصة، بعد أن أصبحت الشرطة تهتم بي عن قرب، المهنة لم تعد مريحة كما كانت من قبل منذ أحداث الجزيرة إياها، إذ أصبح التواجد الأمني مكثفا على الضفتين معا.
– إذن أنت من وجهني لهذا المكان ؟
– طبعا، وإلا لكنت سقطت في يد المحتالين أو الشرطة.
– أعرف أن الظروف تعقدت بعد الحملة الإعلامية التي عرفتها المنطقة، ولكني بحاجة ماسة للعبور وفي أقرب الآجال. لقد أكد لي صديقي طول باعك في هذا الميدان وأمانتك في التعامل..
– الأمانة شيء نسبي، وطول الباع ليس دائما مرادفا للنجاح، ألم يقل لك عني غير هذا …؟
– لقد اطلعت على الرسالة.
– إن علاقتي بصديقك لم تبدأ لما ساهمت في ترحيله للعدوة الأخرى، بل هي أقدم من ذلك، فقد كان زميلي في الكلية.
– ولكني كنت في نفس الكلية وفي نفس الفوج، ولم يسبق لي أن شاهدتك هناك.
– شيء طبيعي أن لا تراني، فقد كنت أشتغل وأدرس في نفس الحين، ولا أحضر إلى الكلية إلا في أوقات الامتحانات، ثم إني توقفت في حدود السنة الثالثة. أتدري لماذا أخبرك بهذا ؟
حركت رأسي بالنفي، ثم استرسل:
- لأن ما أقوم به الآن من حديث معك يعتبر إخلالا بالاحترافية، فالمفروض أنك بالنسبة لي بضاعة سأسوقها وينتهي الأمر، ولكن تواجدنا معا في المكان الخطأ ومللي من الأجلاف الذين أتعامل معهم والذين لاهم لهم سوى جني الأموال جعلاني أنفتح عليك.
توقف عن الكلام برهة وبدا شاردا. لم أكن أظن بأن حديثنا سيأخذ هذا المنحى البعيد عن منطق المساومة حول ثمن الرحلة ووقتها، يبدو أن هذا الأمر آخر ما يفكر فيه. عجيب أمر هذا الرجل الذي بدأت أرتاح له، احترمت صمته، وجلت ببصري فيما حولي. مجموعة من الشباب تلعب النرد “البارتشي”، يشتد لغطها ويخف بحسب ارتفاع الأيدي ونزولها. في الركن المقابل لنا جلس شيخان يبدو أنهما من البحارة المتقاعدين يتناوبان على قارورة “التنفيحة”، وبين الفينة والأخرى يتعالى عطسهما. أخرجني صوته من تأملي وهو يسألني:
– أتريد أن تشرب شيئا ؟
– قهوة سوداء صغيرة .
أشار إلى النادل إشارة مقتضبة وعاد لوجومه. لم يحرك ساكنا حين وضع النادل القهوة أمامي، وبعد انصرافه طلب مني أن أجلس بجواره، حتى أتمكن من متابعة الأخبار التي تبثها إحدى القنوات الإسبانية على التلفاز الموضوع على رف مثبت في الجدار المقابل. لم أفهم المراد من طلبه، ولكني تتبعت صور الأخبار فقط لجهلي باللغة الإسبانية. الصور تتناوب مع المذيعة بطريقة متقنة، تملأ الشاشة حينا، وتنزاح إلى أطرافها أحيانا أخرى بحسب أهمية الخبر. بدأت أشعر بالملل حين شدت انتباهي صور جزيرة ليلى من أعلى ومن مختلف جهاتها، متبوعة بتعليق من المذيعة، التي اختفت وحلت محلها صور لغواصين من الحرس المدني الإسباني وهم يسحبون جثتا من البحر لمهاجرين سريين، وأخرى لنفس الحرس وهو يقود مجموعة من المهاجرين مقيدي الأيدي نحو سيارات الشرطة.
قام من مكانه واقترب من رجل جالس قرب الباب وهمس في أذنه بكلام لم أستبنه ثم سألني :
– هل معك أمتعة ؟
– هذا الجراب الصغير فقط.
– حسنا، سيقودك هذا الرجل إلى حيث ستبيت وتنتظر موعد الرحلة.
حاولت استفساره عن موعدها، وعن ثمنها، ولكنه أدار لي ظهره مودعا بإشارة خفيفة من يده، وانصرف بخطى وئيدة نحو الباب حيث ابتلعه الظلام. خرجت والرجل الغريب من المقهى، وقطعنا الطريق بحذر شديد خشية أن تحصدنا السيارات المارقة بسرعة مذهلة وبحد أدنى من الأضواء. وأمام استغرابي أكد لي الرجل بأنها سيارات المهربين. خضنا في مسلك مترب بين حقول الذرة لبعض الوقت، قبل أن نتوقف أمام منزل منعزل، فتحه الرجل بمفتاح معه وقادني عبر بهو إلى غرفة بها سريران وطاولة صغيرة. أخبرني بأن المرحاض يوجد أسفل السلالم، ثم انصرف.
كان الظلام دامسا، وأصوات الأمواج تتكسر برتابة على الشاطئ الصخري، وكنا نشق طريقنا بين الأشواك والشجيرات الصغيرة ممسكين بحبل يشد ناصيته دليلنا الذي حرم علينا الكلام وإشعال السجائر. رائحة البحر تداعب خياشيمنا ورذاذ الموج يبلل وجوهنا تحمله الرياح الشرقية التي بدأت بالهبوب من جديد. من حين لآخر يضيء شعاع منبعث من منار بعيد حلكة الليل. وصلنا لشاطئ رملي صغير، توقف الركب برهة، وأمرنا الدليل بالانتظار ثم ابتلعه الظلام.
طال انتظارنا، وبدأت الشكوك تراودنا، حين ومض ضوء خافت متقطع من ناحية البحر، سمعنا على أثره وقع خطوات تقترب منا، وصوت الدليل وهو يحثنا على اتباعه. خضنا في البحر، تبللت ملابسنا قبل أن نستبين الزورق المطاطي وعلى متنه شخصان. كان يتمايل بفعل الموج، يبتعد مرة ويقترب أخرى. عمت الفوضى حين حاول الكل امتطاء القارب دفعة واحدة. تدخل الدليل بقوة، وامتطينا الزورق مثنى مثنى.
اتخذت لي مكانا وسط الزورق حتى أبتعد في نفس الوقت عن مؤخرته حيث المحرك ورائحة البنزين، وعن المقدمة المعرضة للاهتزازات. قبل أن ننطلق تأكد أحد الرجلين من عددنا وأمرنا بالإمساك بالحبال المثبتة في جوانب الزورق وبضرورة الالتزام بالهدوء في كل الأحوال حفظا لسلامتنا.
مزق صوت المحرك سكون الليل واندفع الزورق إلى الأمام ومعه قلوبنا. كنا خليطا من الأجناس، مغاربة، جزائريون، أفارقة من جنسيات مختلفة، يجمعنا الفقر والرغبة في صنع غد أفضل وراء تلك الأنوار التي تتلألأ أمامنا الآن. ازدادت الرياح الشرقية قوة ومعها اهتزاز الزورق، وبدأ الخوف يتسرب إلى الركاب، شعرت به خفيفا يسري في جسدي ثم استحال إلى كرة تضغط على صدري، تكتم أنفاسي، ودون أن أشعر بدأت أقرأ القرآن الكريم. بدأ صوتي هامسا لا يكاد يسمع، ولكنه ارتفع لما أصبحت الأمواج تتلاعب بالزورق وتبلل راكبيه. نهرني السائق وأمرني بالسكوت لأن القرآن الكريم يذكره بالموت.
كان الأفارقة متكتلين في المقدمة، ومن ثم كانوا معرضين أكثر من غيرهم للبلل عند الاصطدام بالأمواج ولدوار البحر الذي جعل أكثرهم يتقيأ ما في بطنه. كنا في منتصف الطريق -أو على الأقل هذا ما خيل إلي- عندما سمع صوت غريب للمحرك أعقبته طقطقات متفرقة ليصمت نهائيا، وليرتفع صوت السائق بسيل من السباب لم يسلم منه أحد. أشعل مرافقه مصباحا يدويا واقترب من المحرك في محاولة لمعرفة سبب توقفه لكن موجة أفقدته توازنه وسقط المصباح في البحر وعم الظلام ومعه الخوف. ارتفع اللغط وتمايل الزورق بشكل خطير ثم انقلب.
لم أفاجأ بما وقع، لذا حاولت الإمساك بالزورق، ولكن يدا أمسكت بإحدى رجلي وسحبتني نحو الأعماق. شل الذهول حركاتي، وملأ الماء المالح فمي وأنفي، وأدركت أني غارق لا محالة إذا لم أتخلص من قبضة من يمسك بي. استجمعت قواي وضربت اليد الممسكة برجلي التي بقيت حرة عدة مرات قبل أن أنفلت ثم صعدت مسرعا إلى السطح… حاولت استرجاع أنفاسي المتقطعة، وأنا أجيل بصري فيما حولي. لا أثر للزورق ولا للذين كانوا على متنه. أصخت السمع علي ألتقط صوت استغاثة دون جدوى. لا يعقل أن يكون الجميع قد غرق بهذه السرعة، ربما جرفهم التيار وتفرقوا أشتاتا.
هالتني وحدتي والمصير الذي ينتظرني، تخففت من بعض الملابس الزائدة التي ارتديتها اتقاء للبرد، وبدأت أسبح دون وجهة محددة حتى لا أغوص من جديد في الأعماق. برودة الماء جعلت أسناني تصطك وجسمي يرتعش، ومع ذلك واصلت السباحة بعناد من لا خيار له، أن أفشل وأنا على مشارف هدفي غبن لا يحتمل. أين أنا الآن من هذا المضيق الذي يبدو لي شاسعا. الظلام يلغي المسافات والخوف يضخمها.
تحديد موقعي شيء حيوي بالنسبة إلي، عندما كنا على ظهر الزورق، كانت أضواء طريفة أمامنا، حاولت رؤيتها دون جدوى، بدأ التعب يثقل حركاتي، فاسترخيت على ظهري وتركت الأمواج تتلاعب بي، المهم أن يبقى وجهي خارج الماء لأتنفس بشكل طبيعي… ثم رأيتها، صدفة عندما حملتني موجة على ظهرها. رؤيتها أيقظت جذوة الأمل في نفسي، وأعادت القوة لجسمي المتهالك الذي بدأ يسبح بطريقة آلية نحوها.
في البداية كانت سباحتي سريعة سلسة، ومعنوياتي مرتفعة، ولكن عجزي عن تحديد المسافة التي قطعتها، وتلك التي لا زال علي أن أقطعها أحبط عزيمتي.
الأضواء في مكانها، تستفزني بلمعانها المتقطع وكأنها تشمت بي، صحت العزيمة مني وخار الجسد… انتبهت إلى أن أسناني لم تعد تصطك، وأني توقفت عن الارتعاش، فيما سرى في جسمي دفء غريب وخدر لطيف ورغبة جامحة في النوم… ثم أجهشت بالبكاء. كان بكاء صامتا، وحدها الدموع ملأت المآقي وانهمرت، ماء في العينين ، ماء في الفم… وأمي تمسح دمعي وتضمني إلى صدرها ضاحكة الرجال لا يبكون، هو ألم بسيط سرعان ما سيزول بهذا الدواء، ثم ناولتني ملعقة منه، كان مرا مالحا. الملح ترياق للألم، ترياق للإحباط والعدم ، و… نمت في حضن أمي..