ممدوح رزق
يتأمل شكسبير شر الدنيا والخوف من الموت على لسان “هاملت”.. يتحرك من العذاب الشخصي لهاملت إلى جعله يفكر في هذا العذاب.. من كيفية مواجهته إلى تعيينه كسؤال للكينونة.. السؤال الذي يتضمن تجاوزًا لعلة يشملها ذلك الألم: الذين يجابهون آثام الحياة بحنكة، ويتغلبون على أوجاعهم بمهارة، ولا يدفعون أي ثمن.. يتجاوز سؤال الكينونة هذا المرض الشاغل.. شكسبير يدفع هاملت للمراوحة بين العجز وتشريحه.. بين الرغبة الضمنية في حيازة الذكاء اللازم لمقاومة الواقع وغموض ما بعد الموت من جهة، والتفحص الضمني للضعف، والقدرة الماكرة من جهة أخرى.. بين الاحتياج إلى “الإدراك”، وبين تضليله من أجل التحديق في الأثمان التي يدفعها الجميع.. إنه التضاد الذي قامت عليه فلسفة شوبنهاور بين الإرادة والتأمل، وما تأسست عليه نظرته الأفلاطونية الكانطية إلى الفن بوصفه إعادة إنتاج للصور الخالدة، وتوسلًا إلى الكلي بالجزئي، وكغرضية بلا غرض، مع الانتباه إلى الفرق بين المُثل الأفلاطونية والشيء في ذاته عند كانط.. سؤال الكينونة هو انتهاك لها.. يجابه هاملت ما يُحتمل أن يكون قانونه الخاص للتأمل في شر الدنيا والخوف من الموت.. هكذا يكون التفكير في العذاب هو تمزيق للعذاب نفسه.
كانت لغة شوبنهاور تتسم بالوضوح والنقاء والدقة، وتجنّب التعقيد والغموض، وكان يرى أن الأسلوب هو “تقاطيع الذهن وملامحه، وهو منفذ إلى الشخصية الأكثر صدقًا ودلالة من ملامح الوجه”، ممتدحًا الصراحة والمباشرة وبساطة التعبير وعدم إخفاء “السذاجة”، مستهجنًا في المقابل إفساد الفهم الذي تمارسه فنون البلاغة.. كان يعتبر أن “قانون السذاجة” ينطبق على جميع أشكال الكتابة والفن، لذا فهو جوهر التأمل.
يجسّد أسلوب شكسبير سؤال الكينونة بواسطة الوضوح اللغوي التام الذي يؤكد غياب “فطنة الإرادة” عند هاملت.. عدم المواراة أو الإضمار البلاغي، والأقرب إلى البوح الطفولي لتثبيت الانتفاء المحكم للبراعة الخبيثة من سماته الخاصة.. أسلوب يمثّل مراوغة النضوج كرجاء متعذّر حينما تتم مراقبة النضوج نفسه كإرادة متسلّطة ومهلكة سواء في حضوره أو في احتجابه.
يعتمد هذا الأسلوب على دفع مراوغة الإدراك لتأمل خطواتها.. كأن الوضوح اللغوي هو بمثابة إيمان أوّلي بالتعهدات الميتافيزيقية للإرادة، أي تصديق مؤقت لوعودها الكونية، الأمر الذي يٌظهر هاملت على وشك بلوغ توافق دائم ومرتقب مع ما تضمره كسلطة.. حينئذ يبرز الصراع ناصعًا مع تلك الإرادة بتوظيف شكسبير لـ “عدم المواراة” في تخريب الإيمان الميتافيزيقي.. يصبح غياب الإضمار تجسيدًا لخيبة أمل هاملت، كما يصبح البوح الطفولي استغاثة ممتدة.. يرسل شكسبير تلويحات شاقة ليس عن الحرمان من البراعة الخبيثة، وإنما عن الحرمان المتجذّر من الاستقرار داخل الكلمات.. الكلمات كمسوخ لامعة.. من الممكن تصوّر أن النضوج ومراوغته في بصيرة هاملت هما تطوّح بين التعذّر اللغوي “الذي يكشفه الصياغة الواضحة”، ومراقبة هذا التعذّر “التي يكشفها الوجه المطابق للصياغة ذاتها”.. كأن شكسبير يكشف عن أن اللغة هي سر الحصانة المتمنّعة، ولهذا لن يكون تأمل الإرادة انتزاعًا للحماية بل أشبه باحتفاء جدلي متغيّر بالخسران.. أشبه بالرقص الممتن مع الإخفاق المتراكم والمتنقل، المحسوم أزليًا، أي من قبل أدنى جاهزية للاعتقاد الفردي بأنه من الوارد حيازة شيء ما داخل اللغة.. نحن لم نفقد لأننا لم نمتلك من الأصل.. لن يكون تأمل الإرادة إيقافًا لزمن، أو قبضًا على معرفة سواء كانت “صورًا خالدة” أو “حقائق كلية”.
……………
*من كتاب “مراوغة الإدراك في فلسفة شوبنهاور ـ مقاربات نقدية لشكسبير.. تولستوي.. فاغنر”… يُنشر قريبًا.