أحمد زكريا الأمير
في نشرة التاسعة يستمع السيد نوح جاب الله بتمعن لما يقال في النشرة، وكأنه ينتظر خبرا مقلقا حد الموت. بدا ذلك على وجهه جدا فهوشخصية قلقة بطبعها يخشى كل غريب أوغير متوقع حتى أنه يوصد أبواب شقته كل ليلة بالترابيس والمفتاح والقفل خوفا مما هوغريب قادم قد يكون قابع خلف الباب يرضى كثيرا حين يصنع ذلك كل ليلة ويحتضن ابناءه بعدها ويجلس بينهم ويخبرهم بأنه أغلق الباب جيدا والآن فقط ليس عليهم أن يحملوا أي هموم لما يقع خلف تلك الأبواب فليذهب العالم للجحيم طالما تلك الأبواب موصودة بالأقفال الجيدة الصنع بشكل كامل يرضيه.
بدا حينها قلقا بشكل غير معتاد ولاحظ ذلك زوجته وكذلك الأولاد وانسل قلقه وخوفه لقلوبهم حتى وإن كانوا لا يعلمون سبب ذلك القلق الملحوظ كل ما يخشونه أن ينكسر روتين حياتهم الهادئة بحادث مكدر فالسيد نوح أب حنون وزوج صالح لديه زوجة هادئة الطباع مطيعة وأبناء لم يدركوا بعد شر الحياة التي يخافها الأب، بل مثله تماما يخافون كل مجهول خلف هذا الباب المغلق بإحكام، ربما إن مررت في بيت نوح هذه الليلة لكنت ستشتم رائحة الخوف في أركانه للمرة الأولى وكنت ستتحسس كدرا يخشاه خشية الموت في عيناه، وكنت ستشهد طفلته وهي تحاول الجلوس بين يديه كقطة تلهو بصاحبها وتسمع صوتا جميلا طفوليا هادئا يتحسس خطوات فهمه الأولى للعالم من حوله يسأل
– ماذا يقول هذا العم يا أبى ؟
– إن الحياة يا طفلتي مملوءة بما قد يكدر صفوك الطفولي الجميل، اذهبي لأمك الآن وحين أنتهى من سماع هذا العم سأناديك
– ولكن أمي تصرخ في وجهي كلما دخلت عليها المطبخ وتقول لي اخرجي كي لا تحترقي بالزيت وأنا أخشى الزيت، دعني أجلس هنا ولن أتفوه بشيء صدقني أعدك وعد الكبار
وحين سمع منها ذلك ضحك كثيرا ونسي لبعض الوقت كدره المرتقب وقبل خدها الناعم واشتم رائحة الجنة فيها فصرخ بصوت عال ينم عن ارتياح وامتلاء “الله” ثم ربت على كتفها وكذلك هي وضعت رأسها الحنون على كرشه الممتلئ وأخذ يمسح على رأسها وشعرها ولم يقطع ذلك سوى قول مذيع النشرة “خبر عاجل: تنبئ هيئة الأرصاد أن بلادنا على وشك مجابهة كارثة طبيعية كبرى فقد تلبدت السماء بالغيوم الكثيفة وارتفعت أمواج البحر لدرجة لم تصلها أبدا على كوكب الأرض من قبل وثمة تكوينات تنبئ بطوفان عظيم قد يصيب معظم البلاد حتى الصعيد مما قد يؤدى لعددا من الوفيات والإصابات وتحذر الأرصاد السادة المواطنون من الخروج خلال تلك الأيام المقبلة في الشوارع وكذلك تنوه بوجوب الابتعاد عن الشواطئ قدر الإمكان، شكرا لحسن استماعكم والسلام عليكم ورحمة الله”، أذاع ذلك البيان بابتسامته اللزجة الصحافي والإعلامي البارز محمود عتمان الذى اعتلى منصب كبير الإعلاميين في البلاد وبشكل متسارع أدهش الجميع.
حين سمع نوح البيان ازدادت ضربات قلبه تباعا وتكالب الخوف عليه أكثر فأكثر وقال في ساعة شدته “أين الله من فقراء بلادنا” سمعت بذلك زوجه الهادئة دائما عدا تلك اللحظة فكأنما انتقل الخوف من قلبه إلى قلبها فأجمعت أولادها وأغلقت عليهم باب الغرفة قائلة بنوع من تصنع الابتسام والراحة “يا أولاد العبوا مع بعضكم الآن وسأناديكم حين يجهز العشاء” وأغلقت الباب هادئة ثم تحول كل الهدوء إلى بكاء حاولت أن تكتمه ثم اجتهدت في محاولة كتمانه لكنه كان كبركان آن له أن ينفجر.
– سآخذ الأولاد وأسافر عند خالتي في الصعيد (قالت الزوجة)
– ألم تسمعي ما قاله توا قال إن الصعيد لن يسلم من ذلك الطوفان ثم انظري للسماء تلبدت بالغيوم لن تجدى الآن ما يقلك عن هنا للصعيد الآن، ما هي إلا ساعة أوساعتين وسيبدأ الطوفان ويبتلع كل شيء
– لا لن يموت أبنائي الآن، سيحيون أتسمع سيحيون
– اهدأي لنفكر مليا ماذا عسانا أن نفعل، لا وقت لدينا الآن لأفكار قد تقتلنا جميعا، يا الله كيف كان الأمس هادئا كل الهدوء والسماء صافية كل الصفاء واليوم.. آه من اليوم
– ماذا سنفعل الآن؟.. قل لى
– يا زوجتي الحبيبة إن أبى بنى هذا البيت منذ أمد لكنه كان متنبها لأشياء كثيرة حين بنى البيت وكأنه الله أطلعه على بعض الغيب، فاختار مكان بربوة عالية وارتفع بعمدان البيت إلى حد كبير وكنت دوما ألومه على ذلك لأننا نصعد أدراج عالية متعبة والآن فقط فهمت أنه كان ينظر لمثل ذلك اليوم، والآن ليس بوسعنا أن نغادر إلى أي مكان آخر وإن كان قدرنا الحياة فسنحيا حتما وإن كان قدرنا الموت فسنموت ولن يجيرنا أحد فاطمأني، سيكون البيت سفينتنا التي تحملنا لبر النجاة طالما كنا سويا
– أنت رجل كسول جدا، أتظن نفسك نوح النبي !
– نجى الله نوح من طوفانه بالإيمان ولوأراد أن يغرق سفينته لفعل
– الإيمان!.. كنت توا تلوم الله على الفقراء وتذكر الإيمان
– أستغفر الله.. يا حبيبتي ربما فعلت فعلا، إنما أنا بشر أخطئ أحيانا ولست بنوح النبي ولم أدعي ذلك يوما، ولكن الأطفال ليس بهم طاقة للجنون، إهدائي يا زوجتي العزيزة، لا يمكنك منح الحياة أومنع الموت
في ساعة ذلك الجدل القائم بين نوح وزوجته كان محمود الإعلامي البارز وزوجته على متن طائرة خاصة كان قد ابتاعها العام الماضي ليقضي أيام الصيف على الشاطئ الفرنسي كل عام، متوجهة ناحية أوربا حيث يعيش أولاده تجابه الطائرة العواصف بينما يجلس محمود مرتاحا ممددا قدميه على أريكة فارهة إلى جوار زوجته ويشاهد فيلما قديما يحبه كثيرا، وتذكر بين أحداث الفيلم ما كان عليه منذ ساعات، كان في مبنى التليفزيون يذيع النبأ العاجل بينما كانت زوجته تعد الحقائب للسفر وما عن أنهى البيان حتى نزل وركب سيارة عملاقة فارهة إنجليزية الصنع وتوجه صوب المطار وفي السيارة حقيبة كان قد أعدها مسبقا وفي السيارة راجع أوراقه ودفاتر الشيكات لأمواله المودوعة خارج البلاد وبين الأوراق وجد جواز سفره الوطني فنظر إليه وضحك جدا بارتياح تام وابتهاج غير مسبق لأنه أدرك أن وطنه مجرد حقيبة سفر ودفتر للشيكات وبطاقة صرف ذكية للأموال لا أكثر.
أدهش ضحكه السائق البسيط الذى يقود سيارته فسأله ببلاهة وحسن نية
– متى ستعود يا سيدي ؟
– هاه !.. قريبا.. قريبا.. لا تقلق لن تطول غيبتي
– قل يا سيدي بصدق أرجوك.. هل حقا ما سمعته في المذياع بينما أنتظرك ؟.. أعنى الطوفان القادم.. هل حقا سيدمر كل شيء ؟
– لا تشغل بالك بالأمر.. فقط إذا قدم الطوفان نحوبيتك فإصنع كما يقول المثل الشعبي ضع ولدك تحت قدميك.. هاه.. هاه.. هاه
اندهش السائق البسيط من حقارة سيده حين استخف به لكنه ككل الرجال يخاف على وظيفته ورزق أولاده ولكم تهون كراماتنا في مقابل بعض الأوراق المطبوعة المسماة بالمال، ربما كان يطمع أن يمنحه سيده مكافأة قبل رحيله ليجابه بها شح الأيام، ثم فكر بشكل جدي في الطوفان وأدرك أن منزله المتواضع في ناحية شمال المقابر لن يصمد أمام طوفان بل تكفى بعض الريح كي تذره ولا تبقى منه شيء، وفجأة طرأت في عقله فكرة أن يلجأ لإحدى قمم الجبال العالية حيث يبتعد قدر المستطاع عن الطوفان وتمنى من الله في بين جنباته ألا يكون حظه كحظ ولد نوح من العذاب ثم قال في نفسه أنا حقا ربما لست حريصا على الصلاة أوربما كنت مقصرا بعض الشيء ناحيه الله لكنه رحيم وأنا لست كافرا كولد نوح إن الله يعلم ما في القلوب ويعلم جد العلم أني أخافه ويعلم أني لم أسرق يوما أوآخذ غير حقي ولم أسئ إلى أحد أنا أؤمن به ككل الناس وهويعلم ذلك أنا أؤمن أنه يعلم ذلك تماما، ولا سبيل لي غير الإيمان لأنجومن الطوفان، وفي لحظة ما نظر للمساء ملتجئ ورفع صوته باكيا “أولادي يا رب” وحينها بدأت السماء الملبدة تهطل أمطارا وترعد وبدي صوت الرعد كصوت الموت بالنسبة لمحمود فصرخ فيه “أسرع.. أسرع قدر المستطاع.. لا وقت لدينا”، ثم مع تكرار البرق والرعد المخيف ولون السماء الأسود الملبد بالسحاب المقبض دب الرعب أكثر في قلب محمود بينما يحاول السائق أن يسرع قدر الإمكان وحين تملك الرعب من محمود صرخ في السائق “أوقف السيارة واخرج منها” وحين فعل قفز محمود لكرسي القيادة وانطلق يشق غمار المطر والطريق تاركا ورائحه السائق ولم يعد في قلبه ذرة لم تنكسر، تذكر ذلك محمود وعلم في ظلمة نفسه أنه حقير جدا ثم نظر إلى حقيبته التي تحوى كل أشيائه وقد قيدت بأحبال وشرائط في الجوار فنسي كل شيء وعاد يشاهد فيلمه المفضل وفي تلك اللحظات بدأ الطوفان المنتظر.