5ـ البُّناة العِظام: تشينوا أتشيبي
مقاومة جرثومة العنف في “أشياء تتداعى”
ممدوح فرّاج النّابي
صدرت رواية “أشياء تتداعى” لتشينوا أتشيبي (1930 -2012) عام 1958، وكانت أول رواية تكتب باللغة الإنجليزية في غرب إفريقيا. عنوان الرواية مقتبس من قصيدة الشاعر الأنجلو – إيراندي “ويليان بتلر ييتس”، وهي العادة التي استمرت مع أتشيبي حيث كانت عناوين رواياته مقتبسة من قصائد شعراء. على نحو رواية “لم يعد هناك إحساس بالراحة“، التي تستمد عنوانها من قصيدة ت.س.إليوت “رحلة المجوس“، وهي الجزء الثالث من ثلاثية الكاتب بعد “أشياء تتداعي” و”سهم الله“.
ولد ألبرت تشينوا أتشيبي في ( 16 .11 .1930) بقرية الإيبو بأوجيدي النيجيرية، ووجد نفسه داخل صراع بين الثقافة والعادات المحلية لقومية الإيبو وبين تأثير المسيحية التي انتشرت مع وصول البعثات التبشيرية إلى نيجيريا، وفي الوقت نفسه كان أتشيبي مستمعًا جيدًا لروايات أمه وشقيقته عن الإيبو الذين يعيشون حياتهم غير العادية داخل هذه القرية؛ فساهمت هذه الحكايات في تشكيل خياله ووجدانه وطموحاته في الكتابة ونقل صورة للعالم عن هذه الحياة التي يعيشها الناس داخل أفريقيا.
يلقب أتشيبي بـ(أبو الأدب الأفريقي)، وقد وصفه الزعيم نيلسون مانديلا، بأنه “الكاتب الذي انهارت جدران السجن في صحبته”. فقد قرأ مانديلا روايات الأديب الراحل خلال أعوام سجنه الطويلة.
• ترجمت الرواية إلى العربية أكثر من مرة، منها ترجمة الدكتورة إنجيل بطرس سمعان عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، وهناك ترجمة سمير عزت نصار عن الدار الأهلية، كما ترجمها أحمد خليفة بعنوان الأشياء تتداعى” وصدرت عن مؤسسة الأبحاث العربية، وأخيرًا أعادت الهيئة العامة لقصور الثقافة، سلسلة آفاق عالمية ترجمتها من جديد عام 2014 بترجمة عبد السّلام إبراهيم، ضمن مشروع «المائة كتاب«
تمثِّلُ الرِّواية منذ صدورها عام 1958 نموذجًا للرّد بالكتابة على الخطاب الاستعماري. كما تكمن أهميتها ليس في أنها نموذج مُضادٌّ لما مثّله خطاب الكولونياليّة وكذلك التمثيلات الثقافية في حِقبة بغيضة مارستْ فيها الإمبريالية أبخس الأدوارِ وأحطّها قيمة، بسعيها لتفكيك بنيّة المجتمع وتقويض أنساقه، باستبدال أنساق المُستعمِر القوي بأنساق المجتمع وأعرافه، التي حاول أن يفرضها بالقوة تارة وبالاستمالة والترغيب تارة أخرى. وإنما في محاولتها المحافظة على الهُوية وأيضًا استعادّة البنيّة المُفكّكة، وهو ما يمثِّل خِطابًا مُضادًا لكلِّ محاولات الاستعمار، وقد تجلّى هذا في الشكل الذي عَمَدَ إليه المؤلف في روايته. فالمستعمِر سَعَى إلى بثَّ الفُرْقَة وتمزيق العشيرة، والاستهزاء بالعادات.
ومن ثمّ فالروايةُ تكاد تكون لوحةً كرنفاليةً للعادات الشَّعبيَّة والمعتقدات الأُسطورية والمناحي الاجتماعيّة التي تعمدها قبيلة الإيبو كتأكيد لهذه الهوية التي سعت وفود التبشير والرَّجُل الأبيض لتفتيتها، كما عمل من جانب آخر لعرض كافة الأباطيل التي ساقها الرَّجل الأبيض لعرض مبرراته في تسويق الاحتلال.
يقول “تشنوا أتشيبي” عن رواية “قلب الظلام“: قد يظن البعض أنني أقول: “لا تقرأوا كونراد، وهذا ليس صحيحًا أبدا، فأنا اليوم أَدرّس برنامجاً دراسيًّا عن كونراد وروايته “قلب الظلام”. ويضيف “تشنوا أتشيبي” السؤال عن رواية “قلب الظلام”: قولوا لي هل تجدون أية ملامح إنسانية فيها؟ قد يقول قائل ان كونراد كان دوما معارضًا للإمبريالية، و لكن هل ثمة من معنى وهو المعارض المفترض للإمبريالية أن يصف الأفارقة بأنهم ” كلاب تقف على قوائمها الخلفية”.
الخطاب المضادّ الذي تبنّاه تشينوا شمل أيضا كتابة النّص بلغة المـُستعمِر في تحدٍّ تام له، كنوع من الغزو الثقافي الذي يواجه الغزو السّياسيَ وإن بدأ دينيًّا في أوله، أو بمعنى أدق تعريته بلغته وفضح ممارسته، والردّ على التمثيلات الغربية التي شوّهت المجتمع الإفريقي، وانطوتْ على نظرةٍ مُسْتَعلية، في تصويرها المجتمع الإفريقي كشعبٍ ضعيفٍ، وأنّ الجنّة دانتْ له مع قدوم الرَّجُل الأبيض، مثل: «قلب الظلام» لجوزيف كونراد، و«مناجم الملك سليمان» لألن كوارتر مان.
بالإضافة إلى تدبيج النص بالمفردات المحليّة ذات الخصوصية حرصًا على تمسّكه بهويته، بل يصلُ التحدي إلى استعارة عنوان الرواية من قصيدة الشاعر الإيرلندي «وليم بتلر ييتس» التي تنتقد المادية التي أورثت العالم الخراب، حيث يقولُ فيها (الأشياء تَتداعى/ المركز لم يَعُدْ في اِستطاعته التماسُّك / الفوضى الشّامِلة تَعمّ العالم / إذ يلتف الصّقر ويلتف بدولاب الأكوان / بحركات متباعدة في الدوران / تتداعى الأشياء / والمركز لا يقدر أن يمسك بزمام الأجزاء / فوضى صرف تنفلت على العالم / ينفلت المد الدموي وفي كل الأنحاء). كأنه يدعو لانتظار المسيح المخلّص، إضافة إلى التصدير الذي سبق به النص وهو من ذات القصيدة للشاعر. في إشارة ذات مغزى لفكرة التداعي والانهيار التي حلّت بالمجتمع النيجيري مع قدوم الحركات التبشيرية، وهو ما انعكس عليه هو حيث الخراب الذي وصل بيته بأن حَمَلَ ابنه بذرة التمرّد والخروج عن النسق القبلي.
تنتهي الرواية بالبطل أوكونكو الذي وسمته في أوَّل مَقطع لها بأنّه ذَاعَ صيته «في القرى التسع وحتى فيما وراء حدودها» (ص، 59) نهاية تراجيدية تليق ببطل وصفته الرواية تارة ثانية بأنه كان زلقًا مثل السَّمكة استطاعَ أن يتغلبَ على القط في أشرس قتالٍ منذ تَصارع مؤسِّس بلدتهم مع روح البراري مدة سبعة أيام وسبع ليالٍ.
كما أنّه استطاع أنْ يُحَقِّقَ مكانةً وَسطَ جماعته برفعه اسم قبيلته في المُصَارعة واجتهاده بحصوله على أرض وتأسيس بيتٍ وإنشاء عائلة، فَصَارَ وَاحدًا مِن حكمائها وإليه تَعْهَد القبيلة بالتوسّط إلى القرى الأُخْرى في النزاعات. وله ثلاث زوجات وأبناء جميعهم يهابونه لتغيّر حالته المزاجية، ينتهي به الحال إلى الانتحار فقد وجدوا جسده في أعلى أجمة «يتدلى منها»، بعد أن قتل ساعي المحكمة الذي استذَلّ كبار القبيلة، وقد جاء انتحاره كنوعٍ من الرفض لمآل القبيلة التي صارتْ أشبه بأبيه الذي لم يرد أن يُكَرِّره أو يَكون نسخة منه، فكان الابن على نقيضه فقد كره الفن والموسيقى اللذين كان يعشقهما الأب وأحبّ الدم والحرب لأن أباه كان جبانًا يمقتهما، بل كانت له سيرته الطيبة التي جعلت يحصل على اليام من جيرانه.
ثمة أحداث في حياة أوكونكو تهيئ لحالة التداعي والسقوط تبدأ مِن لحظة نفيه إلى قرية أخواله بعد أن قَتَلَ أحد أَفراد قبيلته خطأً وَنُفِي لمدة سَبَعَ سنوات، وفي خلالها كانت تتنامى إليه التغيُّرات التي انتابت قريته ومن بينها قدوم الرجل الأبيض، ومحاولات الإذلال ثمّ حركات التبشير وقد أقام المبشِّرون الكنائس، وبدأت حكومة الاستعمار تأخذ صيغتها الشكليّة من حيث وجود مباني للحكومة ومحكمة وقوانين تُعاقب المُخالفين وَفَرض ضَرائب لصالح جلالة الملكة.
كل هذا أصاب أوكونكو بالغضب لكن ما زاد من غضبه أن الخطر اقترب منه في صورة ابنه الذي دَخَلَ المسيحية، وَصَارَ مِن المُتشددين، ثمّ ما صدمه به صديقه أوبيريكا بقوله «لقد استطاع الرَّجل الأبيض كَسْبَ ودّ أهل القرية ولم تعدْ هناك رغبة في قتالهم». ثم الحَسْرة الكُبْرى بعد أن يجدَ نفسه وحيدًا فقد تهاوى وتداعى كلّ شيء. لكن للأسف لم يجد المقاومة من قبيلته، ومن شدة غضبه وغيظه وصفها بأنها قبيلة نساء.
الحيلة التي لجأ إليها الكاتب النيجري كوسيلة لمقاومة الرَّجل الأبيض لم تكن في القتل فقد كانت الغلبة لهم، والآلة معهم كما جسّدت الرواية، وإنما اعتمد على تفكيك المقولات الاستعمارية بأن الاستعمار جاء مِن أجل إنقاذ هذه الشّعوب مِن تخلُّفها كما قال المُبْشِّر أو إنقاذها «لقد أرسلنا هذا الرب العظيم لكي نطلب منكم أن تتركوا سُبل الشِّر والضلال وآلهتكم الزّائفة وتعبدونه وحده إليه لعلكم تنجون عندما تموتون» (ص، 221).
وبهذا قدَّم الكاتب وثيقة أو بمعنى أدق عريضة دَافع بها عن الثقافة النيجيرية بإظهار فلكلورها وأنساقها الحاكمة التي كانت تماثل ما أنشأته حكومة المستعمِر مِن محاكم. الفارق أن قوانين المُستعمِر رغم حالة الترهيب التي فُرِضَتْ بها، إلا أن الشعبَ لم يَنْصَعْ لها في حين كان للأنساق القبلية قوتها بانصياع الجميع لها لا فرقَ بين زعيم في القبيلة أو شخص عادي والدليل أن أوكونكو امتثل ذاته وَنُفي وجرِّد من أمواله بعد أن قَتَلَ بالخطأ أَحد أَفراد قبيلته.
كما قدّم نظامًا اجتماعيًا وسياسيًا وثقافيًا لقبيلته كنموذج مضاد لتلك الدعاوى التي جاءت في رواية قلب الظلام لجوزيف كونراد، فالمتأمِّل للجزء الأول الخاص بقريته وعادات قبيلة الإيبو يجد ثمّة نظام اجتماعي ماثل في عادات الزواج وطقوس الخطبة والمهر وخلافه واحتفالات الزواج ثم المهرجانات والأعياد، ونَظام اقتصادي مُطبَّق في احتراف الزراعة مهنة، وحصاد اليام والتبادل التجاري بين الفلاحين، إلى جانب المُناسبات الترويحيّة كما هو ظاهر في رياضة المُصَارعة التي حقّق فيها البطل لقبيلته شهرة كُبرى وَواسعة، أما الجانب السِّياسي فهو متحقِّق في الاتفاقيات والمعاهدات وَجَلسات الصُّلْح التي تُضَاهي المؤتمرات الكبرى، وتبادل الرهائن إلى جانب احترام عادات الجيران ومساعدتهم في الحرب وخلافه، حتى فكرة الدين التي جاء بها المُبَشِّر كترغيب للمُستعمر حاضرة في وجود هذه الآلهة وتقديم القرابين لها، واستشارتها في كل ما يخصّهم في الزراعة والزواج والعمل وغيرها.
لا يَنْسَى الكَاتِب في نَصِّه أن يفضحَ الخطاب الاستعماري الذي تخفّى في الحركات التبشرية بالعنصرية والتنكيل بأبناء البلاد ومحاولة إذلالهم للخضوع لرغبات المُستعمِر، وَقَتْل رُوح المُقاوَمة فيهم، العجيب أن الكاتب مثلما يُدين الوجه البغيض للمستعمِر، يدين حالة التخاذُّل التي صَارَ عليها قومه وربما كان انتحاره بمثابة وسيلة احتجاج ورفض لهذا المآل الذي صاروا عليه، حتّى أنهم لم يكن همّ لهم بعد انتحاره إلا التخلّص مِن جثته وحملها بواسطة أنفار بعيدين عن القرية حتى لا تُصَاب القرية بلعنتها كما تقول الأسطورة الشائعة.
التماسّك في مقابل حالة التفكُّك التي يصيرُ عليها أفراد القبيلة، خاصّة بعد حالات الانسلاب مِن العائلات للدين الجديد، وهو ما مثَّل نَوْعًا مِن التفكُّكِ وَصلتْ ذروته عندما فَقَدَ أوكونكو العونَ والنصير لمقاومة ظُلْم الرَّجلِ الأَبْيض .
يتبنّى الكاتب استراتيجيّة تعمد إلى تأجيل حالة الصِّدام مع المستعمِر، وكذلك إظهار فداحته وجرثومة العُنف التي تنزّتْ وكشفتْ عن الوجه القبيح المُسْتَتر خَلَفَ التبشير إلى الجزء الأخير مِن الرِّواية، وهو ما يُظهر دلالة واضحة بأن الكاتب لم يقف كثيرًا أمام سلبيات المُستعمِر وعنفه التي تجلت في حالة الإذلال للسُّكان، وحبسهم وكسر أنوف زعمائهم بحلق رؤوسهم في السجن، أو فرض ضرائب والتنكيل بمن لا يدفع، بقدر ما كان مشغولاً بإظهار ما يعكس ثقافة إفريقيّة حاضرة بكافة جوانبها اقتصادية وسياسية وتجارية وأيضًا اجتماعية، كرد عملي على حالات التجريف الثقافي التي اتبعتها السياسية الكولونيالية من خلال توظيف آلية اللغة لتمرير خطابها وقيمها الثقافية التي تتعارض مع القيم الثقافيّة الشعبيّة، والتي انتهت بالعنف أولاً من جانب الشعب الذي قَتَلَ المُبَشِّر الأوَّل ثمّ ما قَابله مِن عُنْفٍ مُضَادّ مِن القَوى الكولونياليّة.
الاستراتيجيّة الأهمّ في الخطاب المُضاد الذي قام به تشينوا، هي ترسيخ الثّقافة الشّعبيّة الأفريقيّة والانتقال بها مِن مَرحلة الشِّفاهية إلى مَرحلة التدوين كنوعٍ من المقاومة بل أنّها هي التي تنتصرُ فهذه الثّقافةُ بقيتْ رغم وجود المُحتل وهو ما تمثَّل في استعانة أفراد القبيلة بالمُستعمِر الأبيض في إِنزال جثة أوكونكو مِن عَلى الشَّجرة امتثالاً لعاداتهم التي تَرى في قاتل نفسه مُلَوَّثًا لِذَا يَجبُ دفنه خارج البلدة، ومع هذا التعارض البَادي في الاستعانةِ بالمستعمِر وهو ما يُرسِّخ لوجوده، إلا أن التمسُّك بالقيم مازال أيضَا باقيًا وحارسًا.
تتميزُ هذه الطبعة بأنها تحتوي على مقدمة كتبها المترجم، تحدّث فيها عن الرِّواية وموقعها في الأدب الأفريقي بالإضافة إلى التطرُّق إلى الخطاب اللُّغوي بوصفه آلية اعتمدها الاستعمار في استمالة الشعب الإيبوي، ثم بالفعل أو العنف، الشيء الثاني الذي يعدُّ إضافةً للترجمة الجديدة هو الحوار الذي ضمّنه المترجم عن الكاتب وقد أجراه جرومي بروكس بعنوان: «الفن القصصي عند تشينوا أتشيبي”.