ممدوح فرّاج النّابي
العار أو الوصمة أو الخزي، مفردات تشير إلى حالة من الوصمة التي تلحق الفرد المرتكب الخطيئة (المُدَنِّس للشرف)، أو ذلك الذي يخترق نسق الجماعة. وهو ما يعني الشعور بالخجل من شىء ما اقترفه هذا الفرد ضدّ مجتمعه! ونظرًا لأن العار شعور يتصل بالمجتمع، فالأخير هو الذي يحدّدُ أنواع السلوك الذي يمكن أن يوصف بهذه الكلمة “العار“، إذا لم يتوافق مع ما يمكن أن يطلق عليه الأعراف الثقافية، أو الناموس الاجتماعي. الغريب أن قيمة الكلمة لا تتحدّد إلا بنظرة الآخر، ففعلك يتوقف على مدى تقبّل الآخر له. إذا استهجنه كان عارًا ووصمة تُلاحقك أينما رحلت.
تقول عالمة الأنثروبولوجيا الثقافية روث بنديكت (Ruth Benedict) إن الخزي (Shame) هو “انتهاك للقيم الثقافية أو الاجتماعية بينما تنشأ مشاعر الشعور بالذنب من انتهاكات القيم الخاصة للفرد. ولذلك، فمن الممكن أن يشعر الفرد بالخزي من فكر أو سلوك بعينه قد لا يعرفه أحد بينما يشعر بالذنب تجاه الأفعال التي وافق عليها الآخرون. وقد تأتي الكلمة كنوع من التقويم على نحو ما معروف في الصين، وهي نتاج التأثر بأفكار كونفوشيوس الذي دعت لإستخدام العار كوسيلة تفرض على الفرد أن يقوِّم نفسه بنفسه.
كانت الكلمة عنوانًا وتيمةً للكثير من الأعمال التي أدانت مخترقي هذه الأنساق، أخلاقيًّا وسياسيًّا، بل وعاقبتهم اجتماعيًّا، بالطرد والنبذ قبل أن يُعاقبهم القانون. أعمال كثيرة تناولت العار بكافة مدلولاته العار الفردي، والجمعي، عار السلطة، وعار العنصرية. ومن أشهر الأعمال كانت رواية الجنوب إفريقي كويتزي، وهناك أيضًا “العار” لسليمان رشدي، و“العار” لتسليمة نسرين، و”عار” ألبير كامي، و”ألوان من العار” لألبير قصيري، وهناك تنويعات أخرى على موضوع “العار” كما في رواية “القاهرة الجديدة” لنجيب محفوظ، التي كان أصلها “فضيحة في القاهرة” و“العيب، والحرام” ليوسف إدريس، و“آنا كارنينا” لليو تولستوي، و”لقيطة إسطنبول وشرف “لإليف شفق.
صار العار في معظم الأعمال كما هو في الواقع، ليس مجرد كلمة وإنما هو لعنة تطارد صاحبها، وقد عبَّر فيلم العار (من إنتاج 1982) قصة محمود أبو زيد، وبطولة نور الشريف ومحمود عبد العزيز وحسين فهمي، ونورا، وإخراج على عبد الخالق، عن العقاب الجماعي الذي ناله الجميع، لاختراقهم نسق الجماعة. وهو ما يشي بعلو أنساق ثقافة العار في مجتمعاتنا العربية، فهو العار الذي نتقيه على حد تعبير أمل دنقل.
جون ماكسويل كويتزى مواليد كيب تاون جنوب أفريقيا في 9 فبراير 1940، يعتبره كثير من النقاد والأكاديميين أهم كتاب اللغة الإنجليزية الآن، وهو الكاتب الوحيد الحاصل على “البوكر الأصلية مرتين”، وأضاف إليهم نوبل 2003. تخصص كويتزى في مطلع حياته في دراسة صمويل بيكيت، كاتب مسرحيات العبث الأشهر، الأيرلندى الذي طور مع أستاذه جيمس جويس كثيراً من قواعد ودعائم الأدب الحديث، هو طبعًا لم يقف فكريًّا عند بيكيت الذي كتب عنه رسالة الدكتوراه.
يعيش الآن في إستراليا بعد أن تركَ جنوب إفريقيا، وأخذ الجنسية الإسترالية عام 2006، يبتعد قدر الإمكان عن الصحافة والإعلام، معروف عنه أنه يركب الدراجة لساعات كل يوم، لا يأكل اللحم، ولا يدخن ولا يشرب، يكتب كل يوم لساعة على الأقل كل صباح. من أعماله: “العار، وفي انتظار البرابرة، ويوميات رجل بطئ”.
رواية «العار» صادرة في ترجمتين؛ الأولى بعنوان “خزي” بتوقيع “أسامة منزلجي” عام 2002، والثانية بعنوان “عار” 2009 عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، بتوقيع عبد المقصود عبد الكريم. هناك اختلافات كثيرة تميل لصالح ترجمة عبد المقصود عبد الكريم، على سبيل المثال والد البطلة ميلاني عند عبد المقصود إسحق، أما عند أسامة “آيزاكس” والأفريقي بطرس فهو بترس عند “أسامة” هذا على سبيل الأسماء، أما ترجمة العبارات فحدث ولا حرج!
الشيخ الوله
بطل الرواية، هو ديفيد لوري ابن الثانية والخمسين مِن العُمر مُطلّق وأستاذ بجامعة كيب للتقنيّة، مُهتّم بالشعر والأوبرا وتأليف كِتاب عن بيرون، ورغم شيخوخته فإن له نزواته الجنسيّة التي جعلته يتدبرها عبر وكالة عرّفته بامرأة اسمها ثريا، دأب على الالتقاء بها كل خميس، يُصاب بالهجران بعد أن تركتِ المرأة الوكالة حتى يصل إلى عنوانها، فتهدّده إن كرّر الاتصال بها، فينقم على زوجها، ثم يكرِّر الأمر مع سكرتيرة الجامعة التي لا يعود إليها بعد تجربته الأولى معها، فيكرِّر نزواته مع امرأة أخرى من الوكالة إلا أنّها لم تَرُق له، حتى وقعت عيناه على طالبته في الصّف النهائي فنشأت بينهما علاقة تردّدت إثرها على بيته ومارس معها الجنس أكثر من مرّة إلى أن دبت الغيرة في صديقها القديم، الذي راح يطارده ووصل الأمر إلى أسرتها، فتقدمت بشكوى ضده إلى إدارة الجامعة، فتتغير دفة الأحداث لتنتقل بعدها إلى الريف حيث مزرعة ابنته التي تقيم وسط السود.
بعد إدانة البطل بتهمتي التحرّش بطالبة من صَفه هي ملانيي إسحق، وتبديل درجاتها في سجلها الطلابي بمنحها درجات في امتحانات لم تدخلها بعد انقطاعها عن الدرس بعد الحادثة، يقف الأستاذ الجامعي أمام اللّجنة المُشَكلَّة من قِبل نائب رئيس الجامعة للتحقيق في الاتهامات، ومع أن اللجنة متعاطفة معه ولا تريد أن تدينه، لئلا يفقد وظيفته، إلا أنّه يقف موقفًا سلبيًا من طلبات اللجنة، فيقرُّ بقائمة الاتهامات التي وجهتها إليه الطّالِبة دون أن يقرأها.
ومع إلحاحهم على القراءة يزداد رفضه في موقف يثير اندهاش أعضاء اللجنة، ثم يبدأ بعدها في تقديم اعترافه الشفهي، يُضمنه عدم تحرشه بالطالبة، بل يفيد أن ما حدث بينه وبين الطالبة لم يكن كما قُدّم في عريضة الاتِّهام بأنَّه استغلَّ سُلطاته الجامعيَّة، فالحكاية التي يرويها أمام اللجنة تشي بأنه لم يخطئ، والأعجب أن الأستاذ وَجَد فيها فرصته ليُعَاقِب نفسه على فعلته التي كما يقول لم يكن سببها إلا أن «إيروس قد دخل، بعد ذلك لم أكن كما كنتُ«. في الحقيقة رفض البطل لهذا الاعتذار، هو تجسيد لرفض الرجل الرجل الأبيض للاعتذار عما اقترفه في حق الأسود، بعد فترة المصالحات.
فالبطل “ديفيد لوري” يؤمن في قرارة ذاته بأن ما فعله عار حتى ولو لم يُبْدِ الندم من قبل، ففي أثناء حديثه مع بيف شو التي تعمل في جمعية الرفق الحيوانات بعدما تقاربا في العمل يسألها هل تدرين لماذا أرسلتني ابنتي إليكِ؟ فتجيب بيف شو أخبرتني أنك تمرّ بمشكلة؟ فيصحِّح لها جوابها في يقين يكشف مدى إحساسه بكارثية الجُرم الذي فعله وما ترتب عليه، وإن كان في بداية الأمر يرى أن ثمة ضغوطًا مورست على الطالبة ميلاني (إسحق) لتقدم شكواها من قبل صديقها القديم الغيور والغاضب، وهو ما استغله أبوها فيما بعد، والدليل أن الطالبة ميلاني لم تستطع مواجهته، والمرة التي تلت الحادثة وجاءت لقاعة الدرس، كانت تضع رأسها في الأوراق وكراستها عاجزة عن المواجهة، كما كانت مصطحبة لصديقها، الذي كان بمثابة عامل استفزاز وتحرش له في قاعة الدرس، وعندما اصطحبها إلى المكتب والتقاها مرّة ثالثة في حديقة الكلية، لم تجبه، وعدم إجابتها دليل كافٍ بأنها كانت مقدمة على عمل بتحريض آخرين. يجب على سؤاله الذي طرحه على بيف بيقين المعترف الذي ظلّ يراوغ مستندًا لسلطة المستعمِر الأبيض الذي لا يجد حرجًا فيما يفعل.
- الأبيض والأسود
يضع كويتزي بطلي روايته البروفيسور ديفيد لوري وابنته لوسي، وموقف كليهما من الحادثة التي ألّمت بهما في مواجهة وتناقض يكشف من خلالهما صراعًا بين واقع ما زال يدين الماضي بعد كُلّ المتغيرات التي جرت في النهر، فالحادثتان تعكسان اختلافًا بين جيليْن في التفكير وفي التعامل مع أزمة ظلّت قائمة ومتوترة بين الطرفين لردح مِن الزمن، سُبَّة في ثياب الحريات والديمقراطيات الغربية وإدانة لأفعال الرجل الأبيض ضدّ الأسود، ثم حلّت النقمة على الأبيض بعد حالة الشراهة في الانتقام من هذا الماضي الذي لم تمحه الأيام، وهو ما سجلته أدبيات ما بعد الاستعمار، التي سعت جميعها لتقويض مزاعم المستعمِر ودحض افتراءاته
فالأب البروفيسور يمثّل الجيل الأول المتشبّث بالعنجهية والعداء للأَسْود وشعوره بأنه الأفضل، والابنة تمثّل الجيل الثالث الذي تغيرّت رؤيته وأخذت تَنْصَاعُ للواقع الجديد الذي ليس فيه مجال للصراع، فالمهادنة والتسامح هما الحلّ الأمثل للتعايش الآمن بين الجميع، فترفض تحريض أبيها لها على التبليغ عن هؤلاء الذين قاموا بالسّرقة واغتصابها، ثم في موقف أكثر تشبثًا ترفض أنْ تُجْهِض نفسها وتعيش بطفل هو ثمرة الاغتصاب، فيصبح الطفل الهجين هو الحل التوافقي والعملي لحالة فض الاشتباك بين الطرفين.
إزاء حالة الضغط التي يتعرض لها البروفيسور من جرّاء إجباره على الاعتذار لتسوَّى المسألة، يرفض البروفيسور هذا الاعتذار مُعتبرًا أنّه إهانة له فيقول في ثوّرة للمحققين «اعترافات، اعتذارات لماذا هذا العطش للإذلال؟»، وفي لحظة تمسّك بمبدئه يصرخ في وجه رئيس اللجنة الذي يمرِّر له النصيحة بالاعتذار لتخفيف العقوبة وعدم فصله «لن أفعل… أجبت بأنني مذنب، جواب مدني، يجب أن يفي هذا الجواب بالغرض. الندم لا مكان له، ينتمي الندم لعالم آخر لخطاب من كون آخر»، فيضطر إزاء المحاصرة والمطاردة إلى مغادرة المدينة إلى مزرعة ابنته لوسي، وهناك في المزرعة يُمارِس نَوعًا من حياة التأمّل، لكن السأم ينال منه فيقبل عرضًا من ابنته للعمل في عيادة رعاية الحيوانات، مهمتها القتل الرحيم مع «بيف شو» رغم اعتراضه في بادئ الأمر على اعتبار أن هذا العمل من خدمة المجتمع يمثل نوعًا من التكفير عن الذنب، وهو الشيء الذي لا يعترف به في داخله، وفي النهاية يقبل العمل التطوعي خاصة بعد حالة التقارب التي لوحظت بينه وبين حيوانات المزرعة.
يبدو ديفيد معاندًا لأقصى حدٍّ ومرجع هذا لإيمانه بمبدأ لا يتخلّى عنه، ففي معرض لقائه بروزالندا التي يلتقيها في “كلير مونت” والتي شاطرها الفراش لمدة عشر سنوات، تواجهه بلقائها لهذه الفتاة التي ضيّع حياته بسببها، فيحتجُّ بأنه لم يضع عمره، فتعدُّد عليه خسائره هكذا: «فقدت وظيفتك، تلوَّث اسمُكَ، يتجنبُكَ أصدقاؤك، تختفي في طريق تورانس كسلحفاة تخشى أن تبرز عنقها من ترسها، يسخر منك مَنْ لا يستحقون أن يربطوا حذاءك، قميصك ليس مكويًا، يعلم الرب َمنْ قصَّ شعرك (…) ستنتهي كأحد أولئك المسنّين التعساء الذين يفتشون في صناديق الزبالة».
فكرة الاعتذار التي رفضها من قِبل لجنة الجامعة، والتي قادته لقبول أقل ما عُرض عليه تتسق مع السياق الاجتماعي، عندما عقدت مجالس شعبية لمحاكمة الذين ارتكبوا أخطاء كبيرة في حقّ السود من البيض، وتمت التسوية بالاعتذار الشفهي، وأشرف على ذلك فعليًا نيلسون مانديلا بنفسه.
- العقاب الجماعي
يقول فرويد إن “اقتراف التابو، يجعل مرتكبه تابو، ولذلك يحذر لمسه، حتى لا تنتقل منه النجاسة” فانتقال الأب من المدينة بإثمه وجريرته انتقل إلى الابنة. الغريب أن الابنة موقفها في تقبل العقاب يكون عكس الأب، فتتحمل العقاب بصدر رحب، في موقف يسلب الأب عقله، ويجعله يغيّر قناعاته تمامًا، كما سنرى!!
يتكرّر العِقاب على الجُرم الذي اقترفه الأب ولكن هذه المرة تنوب عنه ابنته، من قبل المستوطنين السود بمهاجمة المزرعة، وسرقة ما بها والأهم هو تناوبهم الاغتصاب الجماعي على لوسي في مفارقة تكشف عن حالة الغضب العارم وما مثَّله مِن انتقام جماعي للبيض، ردًّا على فترات الاستعباد والإذلال والإخضاع، فيحث الأب ابنته على بيع المزرعة، خوفًا من عودتهم مرَّة ثانية إلا أنّها تقابل طلبه باستخفاف وبردٍّ ينمّ عن حالتي الاستسلام والسلام النفسي اللتين روّضت نفسها عليهما، ورغبتها في التكيف مع هذا الواقع الجديد، «لماذا يجب أن يسمح لي بالعيش هنا دون أن أدفع ؟»، وهو ما ينتهي بمصالحة على مستوى أحداث الرواية بقبولها العيش مع طفل يَحْمِلُ مزيجًا من الجنسين كنوع من التكفير عن خطيئة الماضي وعن عار جنسها الجماعي بارتكاب التفرقة العنصرية.
كما تأتي مفاهيم الأب وتصوراته عن الجريمة متماشيةً مع مصطلحات فترة الاستعمار فتتردد كلمات مثل: الاستعباد، يريدونك جارية لهم، إخضاع، تحكُّم، وهو ما يدعّم فكرة رفض الاعتذار امتثالاً لمرجعيات تتطابق مع تصورات مرحلة الاستعمار، وَسُلطة الرجل الأبيض.
الشيء الذي انسرب من داخل النّص، وربما قصده كويتزي ليشير إلى جريمة أخرى تشكلت بموازاة حالة الاضطهاد التي عانى منها الأسود تحت حكم الأبيض، هو ردّة الفعل العنيفة والمبالغ فيها للانتقام من المستعمَر، لحد التشويه، وهو ماثل في حالة الابتزازات التي رَاحَ يُمارسها الأسود على الأبيض بعد تبادُّل الأدوار وقد تجلّى بصورة واضحة في تلك الابتزازات التي مَارسها صَديق الطالبة إسحق ذي الملابس السوداء الذي جاء إليه في مكتبه وأخبره بأمر مضاجعته لها، ثمّ حضوره داخل الصفِّ كنوعٍ من استثارة الأستاذ عليه.
وبالمثل تتكرَّر ابتزازات بطرس للوسي مُقابل حمايتها والقبول برعاية الابن، وتستغل «بيف شو» التي يعمل معها في عيادة العناية بالحيوانات سبب تركه مدينة كيب، لتجبره على أن يدخل في علاقة معها بناءً على رغبتها واحتياجها له، فيتركها تفعل ما توَدّ فعله أو تعويضه بالنسبة إليها «تضغط بيف شو جسمها في جسمه مرة أخيرة، وتريح صدرها على صدره، يتركها تفعل ذلك»، وقد انعكس إيمانه بهذه الابتزازات على قرار رفضه الاعتذار بقوله «تعني أن أذل نفسي وأطلب الرأفة»، ثم في رفضه لفكرة تسامح ابنته مع سارقيها ومغتصبيها، فيحتجّ “لوسي، لوسي أتوّسل إليكِ! تريدين التعويض عن أخطاء الماضي، لكن ليس بهذه الطريقة. لن ترفعي رأسكِ مرّة أخرى إذا فشلتِ في الدفاع عن نفسك في هذه اللحظة، ربما تحزمين حقائبك وترحلين أيضًا”.
- شكل مسرحي
يبني كويتزي نصّه على شكل مسرحيّ، حيث يعتمد السّرد على مسرحة الأحداث، وقلة الشخصيات الروائية، التي تحمل في باطنها فكرة التطهر والخلاص، وكذلك يعتمد على الحوار الخارجي وإن بدا خارجياً إلا أنه يميل إلى المنولوج حيث الصمت يغلب على معظم الحوارات فصارت الشخصيات وكأنها تُلقي حديثها إلى جمهور ماثل في ركن من أركان الرواية أشبه بالمسرح، بالإضافة إلى أن ثمة راوٍ أشبه بوظيفة المُلقن في المسرح.
كما يميل المكان مع محدوديته (الريف والمدينة)، إلى طبيعة المكان المسرحي الذي تغلب عليه وحدة المكان المسرحي، حيث حركة الشخصيات مَحدودة وتنقلاتها تكاد تكون قليلة جدًا تتناسبُ مع المكان المسرحي، فأغلب تواجد الشخصيات في أماكن مغلقة حتى في المزرعة لا تتعدى البيت والعيادة ثم في مرحلة لاحقة منزل بطرس. تتداخل في سرده نصوص شعرية وروائية وأوبرالية تكشف عن وعي الكاتب، ومُحاضرات عن الشاعر وردزورث، وأخرى مقاطع عن كتابه عن بيرون والشعراء الرومانسيين، بالإضافة إلى المقولات الأدبية والأبيات الشعرية.
تنتهي الرواية بمفاجآت تتكشف في نهاية الوحدة الأخيرة، منها حَمْل لوسي ثم رفضها الإجهاض وتمسكها بالطفل، ومنها أيضًا ظهور أحد المغتصبين «بولوكس» في حفلة بطرس، وأخيرًا اختفاء بطرس وزوجته وأحد المغتصبين.
الاعتذار المؤجل
بشيء أو بآخر عاقب كويتزي بطله، حتى لو لم يكن عقابًا جسديًا، يكفى أنه صار مطاردًا، ورأى ابنته تجتر آلامها وتجلد ذاتها على صليب أحزانها دون أنْ يقدِّم لها عونًا غير المواساة، فحَمَلَ عاره وَرَحَلَ وَتَرَكَ لنا عارنا الذي يتجدّد مع ظاهرة التحرّش التي أرّقت المجتمع المصري وتتنافى مع حُرمة الجسد التي أوصت بها الأديان السماوية، وهو الفعل الذي يوجب على أُولي الأمر لردع هؤلاء المجرمين، فِعْل الإخصاء الذي قام به الفيلسوف «أريان» لنخلِّصَ المجتمع مِن هذه الحيوانات الهَائِجة.
حالة العذاب التي كان يعاني منها الأب، وقد دفعته لأن يذهب إلى والد ميلاني، هو واحد من المواقف التي عكست حالة الخضوع والإذلال التي فضل الاستقالة عن مساومتها أثناء التحقيق، فلأول مرة يقدم الاعتذار، ويعترف بتأنيب الضمير” منذ ذلك الحين، وأنا أعاني من الضجر” وهذا الضجر هو ما دفعه بالذهاب إلى والدها ليقدم اعتذاره: “أنا آسف، شيء يثير السخط أعلم“
وبعد الطعام وملاحظته رفض الزوجة مقابلته، إلا أنها تخرج في النهاية، وبعد انتهاء الطعام، وأثناء ذهابه يقدم الاعتذار الأكبر والصريح: “أنا آسف لما سببته لابنتك، إن لديك عائلة رائعة. وأنا أعتذر عن الألم الذي سببته لك وللسيدة إسحق، وأطلب العفو” وعندما يلقي بالاعتذار يصيح الأب: إذن أخيرًا اعتذرت، كنت أتساءلُ متى ستفعل”.
الاعتذار جاء مصاحبًا لخطاب ندم على تحمُّل العقاب الذي وقع له: فيقول: “إنني أتلّقى العقاب على ما حدث بيني وبين ابنتك. إنني غارق في حالة من الخزي ولن يكون سهلاً علي”.
هذا الإلحاح في ترقُّب الاعتذار، والعند في تقديمه، يكشف طبيعة الصّراع، والنفوس التي لم تصفُ حتى بعد حدوث المصالحات. الغريب أن اعتذار المتهم (الرجل الأبيض) للأسود، كان مثار غضب على كويتزي ذاته، من قبل البيض في جنوب إفريقيا، وبالمثل عنف التحامل على الأسود، سواء في صورة الانتقام والحقد الدفين الذي ظهر في صورة المغتصبين، وابتزاز بطرس، إضافة إلى الوصف وما يشي به من تحقير أثناء وصف الكلاب أثناء دفنها فيقول: شيء وضيع مبهج في بلد تربى فيه الكلاب كي تزمجر في ده حتى رائحة رجل أسود”، هذا الأمر أثار السود على كويتزي.
في الحقيقة أن الاعتذار لم يأت إلا استجابة لحالة ابنته، فهو من قبل رفض الاعتذار الذي ساومه المحققون عليه، مقابل أن يحتفظ براتبه، لكنه رفض، وبالمثل عندما ذهب إلى ابنته، حاولت أن تقتنص منه اعترافًا بالاعتذار إلا أنه رفض، بل عبر عن حالته، بقوله “لا حيوان يقبل حكما بالعقاب لأنه يتبع غرائه”.
إذن لماذا وقع الاعتذار؟ الجواب، جاء لشعوره بالضعف أمام أزمة ابنته، التي كانت تنزوي علي نفسها، وحملت على عاتقها وزره وخطيئته، دون أن تتهمه، أو حتى تدينه بأنه السبب فيما حاق بها. على العكس تمامًا كانت ترفض أن يبقى بجوارها وكأنها تريد أن تحمل خطيئتها، بدون أن تشعر بشفقة أحد، وهو ما كان باديًا على الأب في كل تصرفاته معها، بعد الحادثة.
موقف الأب هنا، يذكرنا بموقف نيكولا بطل رواية فساد الأمكنة مع ابنته، فهو أيضًا عندما شعر بأنه المتسبب لهذه الثمرة الخاطئة التي حدثت لابنته إيليا، لم يجد مناصًا إلا أن يعاقب نفسه، وانتهى به الأمر وسط الصخور. مع بداية الأزمة يتصل به والد ميلاني عندما تأخذ قرارها بترك الدراسة، فيلجأ الأب إلي الأستاذ، ويختاره دون الآخرين، لماذا هذه القدرية: فيقول له: لا أدري يا بروفيسور إن كان في وسعي أن أطلب منك أن تتكلم معها، أن تعيد إليها عقلها؟
طبعا التبرير معروف ففي نهاية المحادثة يقول له: إنه هو الشخص المناسب، لأن ميلاني تحترمك احترامًا شديدًا”. وخز الضمير يبدأ مبكرًا منذ استدعائها إلى مكتبه ليحثها على العودة للدرس والمذاكرة لدخول الامتحان، ثم بعد ذلك عندما يتحدث معه والدها ويوضح له أنه الشخص المناسب لأن ميلاني تحترمه جدا: يقول “كان ينبغي أن يقول له: احترام؟أنت دقة قديمة يا سيد إسحق. ابنتك فقدت احترامها لي منذ أسابيع مضت ولسب وجيه”.
العجيب أنه هيأ نفسه لهذا العقاب منذ مكالمة الأب: “لاحقًا قال لنفسه: لن تفتلت من العقاب. ولن ينسى .. أنا الدودة في الشاحنة . كيف أساعدك وأنا أسّ مصيبتك؟” وهو ما لحق بابنته.
أحد الجوانب المضيئة في هذه الأزمة، هو اكتشاف الأب الكامن في داخله، فهو لأول مرة يقترب من ابنته، في الماضي كان لا يمكث إلا فترات قليلة، أما الآن فهو يقاسمها بيتها وحياتها، كما أنه لأول مرة يقدم على عمل تطوعي. كما أنه يحمل نفسه جريرة ما حدث لها، لأنها من نالت العقاب على أخطائه، فحاول جاهدًا أن يبعدها عن المكان، بل اقترح بأن يبيع المنزل في كيب تاون، ويعطي لها كل مدخراته حتى تسافر إلى هولندا، وتبدا حياة جديدة، إلا أنها رفضت، وعندما وافقت على الزواج من بطرس مقابل الحماية ثار، إلا أنها كانت متشبثة برأيها.