محمد فرحات
لم تكن العلاقة بين السيدين أحمد الصعيدي وأبيه سليمان، كأي علاقة بين أب وابنه، كان الأب معبرًا لغاية ما، ومنذ ودع الشاب أحمد الصعيدي أبيه، سَاجِدًا بين جدران المحبة والعشق، كان العبور نحو الشيخ السيد العيساوي.
ولما عصف الحزن بقلبه الغض، لازم مقام سيدي شبل بسيل دموعه، ولا يسلو الحزن أصحابه، فقلما يجد الحزن صَدِيقًا وَفِيًا، وكان سيدي السيد العيساوي دائم البحث عن فتاه الصعيدي، ولما لم يجد للفتى من أثر في القرية، علم أنه في رحاب آل البيت.
ولما أسلم الفتى قلبه لابن عم النبي شبل الأسود، سرَّى عنه، فنامت العين، وسبح القلب ببحور النور، وإذا بأبيه يسجد، فيعجب: ” أبي هل مازلت حيا؟!”، فلما اقترب من موضع سجود أبيه، إذا بالنور يتغشاه فلما ير من الوجود إلا جوهره الواحد، وإذا بأبيه يقوم من سجدته كأنه البدر في ليلته، تتبدل الوجوه؛ الجسد جسد سيدي سليمان، والوجه وجه سيدي السيد العيساوي، وإذا بعرس ومواكب ورايات.
فيصحو سيدي أحمد على آذان الفجر، وإذا بالسيد العيساوي، يهتف” استقم” وإذا بالجسد جسد سيدي السيد العيساوي وإذا بالوجه وجه سيدي سليمان، فيهتف سيدي أحمد” الله”، فإذا بسيدي شبل يقارع المنكرين بالحجة والحجة والحجة.
يصلي المريد وشيخه الصبح، فيسأل الشَّيْخُ الْمُرِيدَ” هل مازال في قلبك من دمع؟!..” فيجيب دمع العين” لا،…”.
يسيران سَوِيًّا ناحية شمياطس…
-أنسيت خطيبتك يا أحمد؟
-بل نسيت الوجود وذكرتُك…
يتم العرس ويدخل العروسان، ولكن لا أثر لحَشِيَّة القطن…وإذا بالجد محمد يخبره” مرض فلان الفلاني، ولم يجد مايريح جسده المنهك عليه، فقصدنا فأعطيتها إياه، ليس في الدار غيرها…!!”
فترحب ويرحب، وهكذا كُتِب العطاء سنة على آل الصعيدي.
و أسر لي الشيخ” لا تعجب فهكذا يغار الله على أوليائه من الدنيا…”.
***
ومن يومها ولم يبارح سيدي أحمد الصعيدي مجلس سيدنا السيد العيساوي، ولم يبارح سيدي السيد العيساوي مندرة الصعيدي ليلة، لايشغلهما غير الذكر، وتدارس العلم، ويطوف سيدي أحمد مع الشيخ المساجد، ومواطن الدرس، فيزداد معرفة وعلما، وما من كلمة يسمعها إلا ويعيها ويحفظها.
وما هي إلا شهور تسعة فيجود الله عليه بولده البكري، فيسميه سليمان، ولم يكن لسيدي أحمد من متاع الدنيا غير بقرة صفراء فاقع لونها تسر من ينظر، وكان كل من الأعمام، وأبناء الأعمام، يزرع تلك البقعة الصغيرة من الأرض، كل على جهده، وكل يأخذ قدر حاجته، ولم يكن لسيدي أحمد طاقة على أعمال الزراعة، ولم يكن في عقله فسحة لمشاغل الفلاح الرتيبة الموسمية.
كان يتوق بكل قلبه لمجاورة آل البيت بقاهرة المعز، فلا تمر ليلة إلا وجاور في منامه مقام النفيسة، أو مقام المشيرة، أو مقام أبي الشهداء ولي النعم، فيصحو ليزداد لهيب الشوق، فيشكو لشيخه فيصبره بوصل قريب.
وكان القطن ملاذ الفلاح، بمحصوله يجهز البنت ملابسا مزركشة، وطستا نحاسيا وحلة وإبريقا ، ويبني على سطوح الدار مقعدا ويزوج الولد، ويسدد مديونياته، ويفي بالتزامات حياته، إلا أن القطن العام قد أخلف وعده، وما عليه فقد التهمته الآفة، واجتاحت القرية الحاجة، ولا صبر لذوي المديونيات على دينهم، ولاصبر لطفل على جوع، أو بهيمة على مَخْمَصة.
فلم يجد الجد محمد من حل غير بيع مايمتلكونه من يسير بقر وجاموس، وكانت بقرة سيدي أحمد أول مابيع…
ومع ضيق العيش، وندرة الرزق، وشدة الشوق؛ جاء الوعد، وقرب اللقاء، وأمر الشيخ مريده بالرحيل لمجاورة الآل…يصلي سيدي أحمد وزوجه أم سليمان الفجر بسيدي شبل، ليسرع القطار بدخانه مُبَشِّرًا ، بصافرته واعدًا وَصْلًا وبشرى، ومحبة وعشقًا.
***
وحينما وطأت قدماه القاهرة، ترك زوجه وطفله لدى أحد أبناءخُئولته بحي شبرا العامر، من أبناء سيدي ولي الله محمد البسيوني خادم مقام الحمزة.
وقف أول مرة بشوارع العاصمة المتسعة، سأل عن كيفية الذهاب لمقام النفيسة فإذا بسيارة تقف حياله، تقودها هانم من هوانم الخمسينيات تألقا ووضاءة، تنير ابتسامتها الحانية ملامح بشرتها البيضاء المشربة بدماء الحيوية والرواء، ” ذاهبة للنفيسة، هلم معي” فقبل سيدي أحمد الصعيدي، جلس سيدي أحمد بالجوار، لتقود الهانم، وطار هو بهجة وفرحة فقد آن اللقاء بعد طول شوق، ليمر بحي السيدة زينب، ومقام المشيرة، يحسبه المقام المرتجى، فتبتسم الهانم” ليس بعد…ولكن الوزيرة تزار قبل المشيرة، لأخذ الإذن والإشارة…” يمر بآثار خلفها الأقدمون، فهذا سور طويل كان يحمل المياه من النيل يحيط بالقاهرة الفاطمية، وهذه مقابر تحمل شواهد لبشوات ووزراء، ومقابر بلا شواهد ولا إشارات، يسكنها من نُسِى بطيات الزمان المتلاحق، الكل سواء في الصمت والسكون، من ملأ الدنيا ضَجِيجًا وصَخبًا بعظمته، ومن تحاشى الدنيا وتحاشته، فلم يُسْمَع له فيها صَوْتٌ، ولم يناد عليه فيها باسْم، فإذا بالهانم تقف بجانب قبر مهدم، وتقرأ الفاتحة، وإذا بالصعيدي يتبعها ويقرأ ” أتدرى…؟صاحب هذا القبر كان ينتظر فاتحتك قبل ميلادك بأزمان…!!” ، وفي طريقهم يجتمعون على السيارة يطلبون الصدقة، فتنثر الهانم عليهم من خيراتها، ويخرج الصعيدي أحمد محفظته، بها جنيه وجنيه ونصف وربع وورقتان بعشرة قروش وأخرى بخمسة، ” تَخَلَّى ياصعيدي، فهو أوان التحلي” فيعطي ويعطي ويعطي.
وكانوا في عام الجدب قد باعوا ماشيتهم ليشتروا من بلد بعيد، ينتج الذرة قبل بلدهم، فطحنوا الذرة وخلطوها بالحلبة، وخبزوا أرغفة بكل ما ملكوا من ذرة، قالوا” لعلهم يدخرونها، يتدثرون بها من زمهرير الجوع والحاجة…” فإذا بمندرة الصعيدي سليمان تفتح أبوابها الثمانية لكل مسكين وفقير ويتيم وذي حاجة. والناس تتعجب ليسوا بالأثرياء ولكن يغار الأثرياء من كرمهم، ففتحت قصور الكبراء أبوابها وأخرجت أثقالها تطعم وتبذل كبذلهم.
وعلى أعتاب النفيسة يتخلى سيدي أحمد الصعيدي، ووجده يسبقه، تأخذ الهانم بيده نحو المقام، لتفتح الأبواب وتلج الهانم وتغلق. والصعيدي يشاهد ويقرأ ويقرأ وتسبقه دموعه، ” وهل يستحق مثلي ياسيدتي كل هذا الكرم…؟!”.