د.عبد النور مزين
كانت العوالم التي سادت فيها الأوبئة، بذلك الانتشار الواسع كالجائحات العالمية الكبرى في تاريخ البشرية مثل الطاعون أو الحمى الاسبانية في بداية القرن أو أزمنة الكوليرا، عوالم واقعية عاشتها البشرية بكل كوارثها وآثارها المدمرة على الجنس البشري، لكنها تختلف عن العوالم الروائية المتخيلة التي تكون عادة أكثر كابوسية وسوداوية كرواية “نهاية العالم” لستيفان كينغ أو رواية “العمى” للبرتغالي جوسي ساراماغو.
لكن الرواية الأقرب إلى ما نعيشه اليوم من جائحة كورونا هي لا محالة، رواية “عيون الظلام” للروائي الأمريكي دين كونتز والتي تدور أحداثها حول انتشار فيروس من نوع كورونا تحديدا.
كل هذه العوالم تشكل مادة خصبة لبناء عوالم روائية تكون فرصة لتسليط الضوء على السلوك البشري، سواء كجماعات أو كمجتمعات أو حتى كأفراد حيال هذا الهلاك الجماعي المحدق، وهو سلوك أقرب إلى السلوك الغريزي للبقاء، تنتفي فيه ما راكمته البشرية من قيم جماعية وحضارية.
وتعتبر هذه الفضاءات المرعبة مادة خصبة، على مستوى التخييل، للغوص عميقا في النفس البشرية كجماعات أو أفراد، وهي بالنسبة للروائي، ساحة تخييل إبداعي لبناء عوالم روائية تتفاوت فيها درجات الرعب والقرب من النفس البشرية. فلا غرابة أن نرى في أجواء كورونا الحالية إرهاصات لأبعاد نفسية وفكرية كانت راكدة، وطفت بسرعة غير منتظرة على السطح، كالقرصنة الدولية لمواد حيوية للبشرية بدل التعاون، أو الدعوة العلنية لجعل بعض الشعوب مجرد فئران تجارب كشكل من أعمق أشكال العنصرية، تذكرنا ،بعنف، بتلك العصور العنصرية البغيضة البائدة، التي تخيلنا أنها ذهبت إلى غير رجعة، فإذا بها تطل علينا اليوم بوجهها القبيح.
هذه الأشكال الروائية، والتي تقع ما بين رواية الخيال العلمي والواقعية، إذا ما استحضرنا خطر الجائحات التي تخلفها الأوبئة والتهاون الكبير للبشرية حيال هذه الأخطار البيولوجية المحدقة، لم تتطرق إليها الرواية المغربية بالعمق الكافي، لا كتجريب فني لأشكال سردية جديدة ولا كأبعاد روائية لنصوص تتخذ من الكوارث الكبرى للبشرية في مواجهة أشكال الحياة في أزمنة الأوبئة الكبرى.
وربما قد حان الوقت للإسهام بشكل أعمق في مسائلة البعد القيمي لما يصطلح عليه اليوم بالتراكم الحضاري للنوع البشري. لأن ما راكمته البشرية من قيم يكون أمام محك تجربة البقاء أو الفناء، وبالتالي تضمحل تلك القيم أمام النزعات الفردية للخلاص كغريزة أولية للجنس البشري، وهي غرائز ما قبل بناء القيم. وبالتالي أظن أن هذا الوباء يمكن أن يكون محفزا لتجربة هذه الأشكال السردية في الرواية المغربية والعربية.
ربما سيكون من السابق لأوانه التفكير في كيفية صياغة هذه المرحلة العصيبة التي تمر بها البشرية خلال هذا الزحف المدمر لوباء كوفيد التاسع عشر، الناتج عن هذا الفيروس التاجي الجديد. أقول المدمر لأني على يقين أن أشكال وأنماط الوجود والعلاقات البشرية لن تكون قطعا كما كانت قبل الوباء، سواء في علاقات الشعوب بالأنظمة الاجتماعية أو في العلاقات الدولية، وأيضا ،وهذا الأهم، في الرجة الفكرية العميقة التي ستحدثها آثار الجائحة الكارثية، على أنماط الفكر والسلوك البشري إزاء الكوكب كمورد حيوي جماعي وكتجاور أجناس وكأفق وخلاص جماعي بالضرورة.
أن تعيش هذه الكارثة كروائي وكطبيب تجعل منك كائنا أقرب إلى مراسل حربي ومحارب أيضا، مفروض عليه أن يمسك قلما بيد وباليد الأخرى يظل كل الوقت ممسكا بالبندقية. ربما أكثر من هيمينغواي بآلاف المرات لأن هذا الوباء أكثر عنفا من عنف الفاشية ومن دمار النازية وكل كوارث العنصرية التي عرفتها البشرية.
لهذا بالنسبة لي شخصيا كروائي وكطبيب فموقعي الطبيعي هو مع طلائع جيش الصحة الأبيض كجندي في معركة المواجهة مع باقي الأطقم الطبية والصحية وباقي المتدخلين الآخرين في الصفوف المتقدمة على جبهة التصدي لهذا الوباء بالعلاج والتأطير، والوقاية والتكوين، وإدارة المعركة على كل المستويات، معركة إبداع من نوع آخر من أجل إلحاق الهزيمة بهذا العدو الذي يهاجم البشرية بكل هذا العنف وهذا الانتشار.
لكن خوض المعركة من داخل الخنادق الميدانية هو أيضا مجال خصب وغني للتفكير والتمعن في كل هذا الذي يحدث بكل تفاصيله وتفاعلاته وكل هذه الروح القتالية التي تجعل منك مقاتلا ضد كورونا المستجد، ولكن أيضا حصنا منيعا للحفاظ على باقي زملائك في المعركة من أطباء وممرضين وباقي الكوادر الصحية بحماية ظهر الفرق الصحية من هجومات مدمرة يشنها الفيروس على الأطر الصحية لإنهاكها بحرب استنزاف حقيقية. لذلك ونحن نحصي قتلانا وجرحانا تحت رصاص الفيروس، نبدع في رص الصفوف ونبدع في إعادة التموضع وبناء جبهات جديدة للحرب.
فالخيار ضيق للغاية ولا مجال للخطأ. هكذا نعيش يوميات الحرب على كوفيد التاسع عشر. فالخيار واضح كخيار حرب لا استسلام فيها ولا هزيمة. فإما البطولة أو الشهادة. وكلاهما سترتدان غيما إبداعيا ممطرا لا محالة، عندما تضع الحرب أوزارها ونكون، إن شاء الله، من الأحياء.
………….
* طبيب كاتب وروائي